Preview الدمار في غزة

كم سنة يحتاج اقتصاد غزّة للنهوض من الحرب؟

تواصل إسرائيل حرب الإبادة الجماعية لسكّان قطاع غزّة. حتى الآن، قتلت وشوّهت وأخفت أكثر من 100 ألف فلسطيني، ودمّرت نحو نصف المباني والمساكن، وشرّدت 90% من الأهالي. وكما قال الاقتصادي الفلسطيني رجا الخالدي في مقابلة مع «موقع صفر» لم يعد هناك اقتصاد لبنائه في غزّة، بل إغاثة في الحدّ الأقصى، والعنوان الاقتصادي لغزّة في المرحلة المقبلة، هو الدمار وليس إعادة الإعمار، لأن التداعيات كبيرة.

هذه الحقيقة يعكسها التقييم الذي أجراه «مؤتمر الأمم المتّحدة للتجارة والتنمية» (أونكتاد)، ونشره في كانون الثاني/يناير 2024، تحت عنوان «تقييم أولي للأثر الاقتصادي للدمار في غزّة وآفاق التعافي الاقتصادي»، ولو بلغة النماذج الرياضية وحسابات الناتج المحلّي الإجمالي ونصيب الفرد منه، التي تتجاهل جوانب كثيرة مهمّة تشكّل الحالة الاقتصادية والاجتماعية في ظل حرب طاحنة وحصار رهيب. فهذا التقييم الكمّي خلص إلى أنه إذا توقّفت الحرب الآن، من دون التخلّص من أسبابها «المتجذّرة في الاحتلال الطويل الأمد»، وفق تعبير تقرير «أونكتاد»، ومن دون «رفع الحصار للسماح لغزّة بالاندماج مع الضفّة الغربية والأسواق الإقليمية، إلى جانب ضخّ كمّيات كبيرة من المساعدات الخارجية لإعادة بناء البنية التحتية الحيوية لتحقيق تحوّل هيكلي حقيقي... وإذا استمرّ اتجاه النمو كما كان في فترة الحصار والحروب المتكرّرة (2007-2022)، وبالتالي بقي يحقّق معدّل نمو بنسبة 0.4% كمتوسط سنوي»... فهذا يعني «أن قطاع غزّة سيستغرق 68 عاماً للعودة إلى مستويات الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022، مع انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بشكل مستمر وسريع نظراً لمعدّل النمو السكاني». أي أن العودة إلى الوضع البائس نفسه الذي كان قائماً قبل الحرب سوف تستهلك جهد جيلين مقبلين على الأقل، وسيزداد الفقر طيلة هذه الفترة، وسيكون قطاع غزّة بالفعل مكاناً غير قابل للعيش، وهو ما تسعى إليه إسرائيل عبر خلق الظروف للتطهير العرقي.

يرتكز التقييم السريع لـ«أونكتاد» على أربعة عوامل رئيسية هي: الخسارة في الناتج المحلّي الإجمالي، والأفق الزمني للتعافي، والأثر المباشر على الأنشطة الاقتصادية نتيجة الأضرار، والآثار المتوسطة الأجل على الفقر وإنفاق الأسر المعيشية. 

الخسارة في الناتج المحلّي الإجمالي

يقدّر خبراء «أونكتاد» قيمة الناتج المحلي الإجمالي لقطاع غزّة في العام 2023 بنحو 2067.7 مليون دولار، بالمقارنة مع 2722.7 مليون دولار في العام 2022، أي بانخفاض 655 مليون دولار (بالقيمة الثابتة للدولار في العام 2015)، وما نسبته 24% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا يعني أن قيمة الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة عادت إلى المستوى الذي كانت عليه بين عامي 1994 و1996، قبل 30 سنة، عشية تنفيذ اتفاقية أوسلو-2 وبروتوكول باريس الاقتصادي الملحق بها. 

اقتصاد غزة

وانكمش نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي السنوي في قطاع غزة بنسبة -26.1%، من 1256.8 دولار في العام 2022 إلى 928.5 دولار في العام 2023، وهو الآن في أدنى مستوى له، أقلّه في السنوات الثلاثين الماضية، ولم يعد يمثّل سوى ثلث قيمته تقريباً التي كانت في العام 2005 عشية إطباق الحصار. ومنذ تلك السنة بقي معدّل نمو السكّان أعلى من معدّل نمو الاقتصاد، ما انعكس انخفاضاً في نصيب الفرد بقيمة 1579.6 دولار، أو ما نسبته -63%، في 18 عاماً.

اقتصاد غزة

يُعتبر الناتج المحلي الإجمالي أداة قياس صمّاء، فهو لا يعكس مستويات المعيشة والرفاهية والتطوّر، وكذلك يُعتبر نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي خدعة إحصائية، إذ أن الناتج المحلي الإجمالي ليس موزّعاً بالتساوي على جميع الأفراد الذين ينتجونه، لذلك لا تعبّر الخسارة الفادحة في الناتج المحلي الإجمالي ونصيب الفرد منه عن مجمل الخسائر المباشرة وغير المباشرة، التي تصيب المجتمع في قطاع غزّة واقتصاده وأصوله المادية والثقافية والطبيعية.

يعترف خبراء «أونكتاد» جزئياً بهذا النقص في تقييمهم السريع، فأدوات قياس الناتج المحلّي الإجمالي ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لا يأخذ في الاعتبار الأصول المدمّرة والمتضرّرة، وكلفة استبدالها. لذلك، يستنتج هؤلاء أنه «مع الأخذ في الاعتبار كلفة استبدال الأصول المدمّرة، ومع سيناريو متفائل لمعدّلات نمو مكوّنة من رقمين، يسهلها ضخّ كميات كبيرة من المساعدات الأجنبية، فإن الأمر سوف يستغرق عقوداً حتى تعود غزة إلى مستويات ما قبل تشرين الأول/أكتوبر 2023».

ما قبل تشرين الأول/أكتوبر 2023

يعاني قطاع غزّة من الاحتلال الإسرائيلي منذ النكبة، وثلثا سكّانه اليوم هم من اللاجئين من المدن والقرى الفلسطينية التي احتلتها العصابات الصهيونية قبل العام 1948، وارتكبت فيها جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. واحتلت اسرائيل القطاع في العام 1967 وأقامت فيه المستوطنات حتى انسحابها منه في العام 2005، إلا أنها احتفظت بالسيطرة على مجاله الجوي وبحره وحدوده البرّية كلّها، بما في ذلك حدوده مع مصر التي تمتد بطول 12 كيلومتراً، إذ أن هذه الحدود بقيت خاضعة للتنسيق الإسرائيلي-المصري، وشملتها إجراءات الحصار المطبق التي فرضته إسرائيل على القطاع منذ العام 2006.

لقد تم سجن 2.3 مليون فلسطيني في أقل من 365 كيلومتراً، وتم منعهم من الوصول إلى أبسط حاجاتهم الأساسية، وحرمانهم من التنمية وتطوير قدراتهم البشرية والمادية. ومنذ العام 2008، يحصي تقييم «أونكتاد» 6 حروب شنّتها إسرائيل على قطاع غزّة، «تسبّبت بقتل عدد كبير من الفلسطينيين  ونزوح داخلي وتدمير متكرّر للبنية التحتية المادية والمباني السكنية ومخزون رأس المال والأصول الإنتاجية»، و«في خلال الفترة الممتدّة بين عامي 2006 و2022، انكمش نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في غزّة بنسبة 27%، من 1994 دولاراً في العام 2006 إلى 1257 دولاراً في العام 2022. في الواقع، كانت دولة الاحتلال تقوم بالتدمير المنهجي لأي إمكانية للنهوض بالاقتصاد في غزّة، ولم تسمح في أي يوم من الأيام بتطوره ليلبّي حاجات المجتمع، ووفقاً لصندوق النقد الدولي، أدّت الحرب في العام 2014 وحدها إلى إضعاف 85% من رأس المال الذي نجا من العمليات العسكرية السابقة. وحتى قبل حرب الإبادة الجماعية المتواصلة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان الكثير من الأضرار الناجمة عن الحروب السابقة لا تزال قائمة، في حين كان سكان غزة المحاصرون يفتقرون إلى المياه النظيفة الكافية، ويعيشون من دون كهرباء لمدة نصف اليوم ومن دون نظام صرف صحي مناسب، وكان ما يقرب من نصف القوة العاملة عاطلين عن العمل، وكان ثلثا السكان يعيشون في فقر ويعتمد 80% من السكان على المساعدات الدولية. لقد حوّلت إسرائيل قطاع غزّة  إلى منطقة كوارث إنسانية منذ زمن طويل.

اقتصاد غزة

خارطة الطريق تبدأ من التحرير

يستعرض تقييم «أونكتاد» حصيلة الحرب الحالية «غير المسبوقة»، إذ بلغ عدد الشهداء المبلغ عنه حتى الآن «أكثر من أربعة أضعاف إجمالي عدد الشهداء في جميع الحروب الإسرائيلية السابقة منذ العام 2007»، و«تجاوز عدد الأطفال الذين قتلتهم إسرائيل في خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من القصف على غزّة، إجمالي عدد الأطفال الذين قُتلوا في النزاعات المسلّحة في أكثر من 22 دولة منذ العام 2019». و«أصبح نحو 1.9 مليون شخص، أو ما يقرب من 85% من سكّان غزّة، مشردين داخلياً». أيضاً بلغت نسبة البطالة 79.3% في كانون الأول/ديسمبر 2023، وهي بالأساس كانت مرتفعة قبل الحرب وتبلغ 45.1%. 

يستعرض التقييم أيضاً الدمار الواسع الذي لحق بالمساكن والمرافق ويجري تقييماً لها عبر صور الأقمار الاصطناعية، كما يستعرض مؤشّرات انهيار النشاط الاقتصادي عبر رصد الإضاءة الليلية. «لقد اتسع نطاق الفقر النقدي وتعمّق ليشمل جميع سكّان غزّة. أمّا الفقر المتعدّد الأبعاد فقد بلغ مستويات أسوأ من ذلك، علماً أنه يأخذ في الاعتبار الحرمان من التعليم وخدمات البنية التحتية الأساسية لالتقاط صورة أكثر واقعية للفقر. إن الظروف المعيشية في غزّة هي اليوم في أدنى مستوياتها منذ بدء الاحتلال في العام 1967، وستزداد سوءاً ما لم تتوقّف الحرب».

لا يجب أن يكون هدف إعادة الإعمار بعد الحرب هو العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل تشرين الأول/أكتوبر 2023. و«لن يكون هناك أمل في التوصل إلى حلّ مستدام للأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية التي تجتاح غزّة إلا من خلال إنهاء المواجهة العسكرية ورفع الحصار المفروض على غزة بشكل كامل».

يعتقد خبراء «أونكتاد» أن السيناريو الأكثر تفاؤلاً لمآلات هذه الحرب الكارثية هو أن تتوقف على الفور، وأن تبدأ إعادة الإعمار على الفور، وأن يحقق الناتج المحلي الإجمالي نمواً بنسبة 10% في المتوسّط ​​سنوياً، مع نمو سكاني سنوي بنسبة 2.8%. وحتى في هذا السيناريو المتفائل، لن يعود نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي في غزة إلى مستواه في العام 2022 قبل العام 2028، ولن يعود إلى مستواه في العام 2006 قبل العام 2035، ولن يعود إلى مستواه في العام 1994 قبل العام 2037.

اقتصاد غزة

يدرك هؤلاء الخبراء أن «تحقيق معدّل نمو قوي على مرّ السنين المقبلة يتطلّب تدفقاً مستمراً للاستثمارات العامة والخاصة» (...)، ويقترحون أن يؤدّي «المجتمع الدولي» دوراً محورياً من خلال تقديم الدعم المالي الأساسي للحكومة الفلسطينية، و«عكس الاتجاهات الهبوطية في المساعدات، وإعادة مستوياتها إلى ما كانت عليه في العام 2008». ولكنهم يراهنون أيضاً على «غرس الثقة» وتمهيد الطريق أمام القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي المباشر «للقيام بدور بارز في التعافي الاقتصادي». 

ووفق تقييم خبراء «أونكتاد»، «يواجه قطاع غزّة، بمساحته الصغيرة والتوسّع السكاني السريع، تحدّيات تنموية كبيرة، تزيد من تفاقمها حقيقة أن نصف سكان القطاع هم من الأطفال. إن مستوى الدمار الناجم عن هذه الحرب جعل القطاع غير صالح للسكن. ويؤكّد الدمار الذي لحق بالبنية التحتية المدنية، بما في ذلك المرافق الصحية، استحالة تحقيق الانتعاش والتنمية في غزّة من دون بذل جهود جادة وسريعة من جانب المجتمع الدولي لاستعادة السلام وتأمين المستويات العالية من التمويل اللازم لإعادة ما يشبه الحياة الاجتماعية والاقتصادية الطبيعية إلى قطاع مدمّر». ويدعون إلى «وقف دائم لإطلاق النار للسماح بدخول المساعدات الإنسانية الكافية والمناسبة إلى غزّة، وإطلاق عملية إعادة الإعمار والتعافي الآن لإعادة غزّة إلى مسار التنمية المستدامة». ويجزمون أنه «لا يمكن أن تكون التدابير المجزّأة وغير المستقرّة والقابلة للتراجع بديلاً عن رفع الحصار عن غزّة للسماح لاقتصادها بالتعافي والعمل والتجارة بشكل طبيعي وبحرية مع الضفّة الغربية والقدس الشرقية وبقية العالم. ولا بد من كسر الحلقة المفرغة من التدمير وإعادة الإعمار الجزئي من خلال التفاوض على حل سلمي، على أساس القانون الدولي وقرارات الأمم المتّحدة ومجلس الأمن ذات الصلة». وهذا غير ممكن من دون عودة الفلسطينيين إلى ديارهم وإقامة دولتهم.