Preview بدائل البحر الأحمر

بدائل البحر الأحمر المحدودة

مع استهداف الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة مواقع حركة «أنصار الله» في اليمن، تتصاعد التوترات في البحر الأحمر، أحد أهم طرق التجارة في العالم، ما قد يؤثر بطريقة أو بأخرى على أكثر من 40% من التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا، ويعرّض سلاسل التوريد العالمية لاختلالات إضافية تزيد من هشاشتها إزاء الصدمات والأزمات البنيوية في النظام العالمي. وعلى الرغم من أن ما يقدّر بنحو 60% من السفن ونحو 50% من البضائع لا تزال تعبر من خليج عدن وباب المندب إلى البحر الأحمر وصولاً إلى قناة السويس، فإن التدخل الغربي العسكري في البحر الأحمر والعدوان على اليمن بحجّة حماية حرية الملاحة البحرية يدفع شركات الشحن الكبرى للبحث عن ممرّات بديلة لتغيير مسارات المزيد من سفنها، وتشمل هذه البدائل ممرّات شحن بحري أخرى، وطرق غير بحرية للشحن عبر النقل البري أو الجوي، إلا أن تفحّص هذه البدائل جميعاً يبيّن أن لا بديل فعلي يعوّض حقاً عن الشحن البحري عبر البحر الأحمر لتسيير التجارة، فهو يبقى الممرّ الأقصر والأدنى كلفة والأكثر تجهيزاً واستيعاباً والأقل مخاطرة بالمقارنة مع 11 ممر آخر يمكن أن تسلكه البضائع من المنشأ إلى السوق.

كرّرت حركة «أنصار الله» أنها لا تستهدف إلا السفن ذات الصلة بإسرائيل، وأعلنت أن هدفها مساندة المقاومة الفلسطينية وفكّ الحصار المضروب على غزّة، لذلك، كان البديل من تصعيد التوتر العسكري في البحر الأحمر هو الارتضاء بأن المشكلة «إسرائيلية» ومواصلة عبور السفن غير الإسرائيلية، وهو ما كانت تفعله 60% من سفن الحاويات و100% من ناقلات النفط والغاز قبل العدوان على اليمن. وكان البديل أيضاً السماح للمصالح التجارية بالضغط من أجل وقف الحرب الإسرائيلية على غزّة وإدخال المساعدات الكافية إلى سكّانها. 

بات من الواضح، أن التدخل العسكري في البحر الأحمر زاد من المخاطر على حركة الملاحة ولم يخفّضها، وبالتالي، باتت إعادة تفعيل حركة الشحن عبر البحر الأحمر إلى المستويات التي كانت عليها قبل الحرب يتوقف على إيقاف الإبادة الجماعية في غزة، وهو الخيار الذي تأبى إسرائيل وحلفاؤها الغربيين اتخاذه، فإطالة أمد الحرب هي المسؤولة عن عرقلة التجارة العالمية، ووقفها هو البديل الأمثل.

كيف تتحرّك سفن الشحن في ظل هذه الأوضاع؟ وما هي الطرق البديلة التي تسلكها عندما تقرّر الابتعاد عن البحر الأحمر؟

Previewبدائل البحر الأحمر

طريق رأس الرجاء الصالح

يتجنّب عدد متزايد من السفن التجارية البحر الأحمر وقناة السويس، ويتم اعتماد طريقاً بديلاً يلتف   حول القارة الأفريقية عبر رأس الرجاء الصالح، ما يضيف 10 أيام على الأقل على مدّة الرحلة ويتسبّب في إعاقة سلاسل التوريد التي تعتمدها النماذج الإنتاجية في الرأسمالية العالمية المعاصرة،  فضلاً عن التكاليف الإضافية الناشئة عن صرف كميات أكبر من الوقود وتشغيل أطول لليد العاملة وغير ذلك من الأكلاف التشغيلية وبوالص التأمين، كما أن اعتماد هذا الممر بديلاً عن البحر الأحمر يطرح تساؤلات كثيرة عن مدى جهوزية المرافئ على طول هذا الممر وقدراتها الاستيعابية، ومدى تأثر مرافئ في أوروبا لصالح مرافىء أخرى أكثر قرباً على هذا الممرّ البديل.

كذلك، سيتعين على خطوط الشحن التعامل مع مخاطر المحيط الهندي وطقسه القاسي، ما يعني أن السفن ستسهلك وقودها بشكل أسرع، وهذا يجعل من خدمات التزود بالوقود أكثر إلحاحاً، يضاف إلى ذلك تهديد القراصنة في بعض المناطق على الساحل الأفريقي، الأمر الذي سيرفع من تكاليف التأمين على السفن.

من جهة أخرى، يعد التوسع الأخير في نظام مقايضة الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي (EU ETS system) الذي شمل الانبعاثات البحرية سبباً لتكاليف إضافية على شركات الشحن البحري، فرسوم مقايضة الانبعاثات على السفن المبحرة بين شنغهاي وروتردام عبر رأس الرجاء الصالح سوف تكون أعلى بأكثر من 80% من تلك المفروضة على الشحن بين المدينتين عبر قناة السويس (34,142.75 يورو بالمقارنة مع 18,823.23 يورو).

طريق القطب المتجمّد الشمالي

يوجد طريق بحري آخر يصل بين آسيا وأوروبا، فكارثة الانحباس الحراري العالمي جعلت حركة الشحن بين آسيا وأوروبا متاحة أيضاً عبر الالتفاف شمالاً وليس جنوباً، حول القطب المتجمّد الشمالي. ويمر هذا الطريق من بحر بارنتس بالقرب من حدود روسيا مع النرويج، إلى مضيق بيرنغ بين سيبيريا وألاسكا، ويقلل المسافة التي تقطعها الشحنات، ويقلّل المسافة التي ستحتاج السفن إلى قطعها بين شنغهاي وروتردام بنحو 3000 ميل بحري بالمقارنة مع قناة السويس، و6200 ميل بالمقارنة مع طريق رأس الرجاء الصالح. وهذا من شأنه أن يقلّل مقدار الوقت المستغرق للإبحار بين شرق آسيا وشمال أوروبا إلى 18 يوماً (يستغرق الأمر حالياً 32 يوماً عبر السويس وما لا يقل عن 42 يوماً عبر رأس الرجاء الصالح).

التدخل العسكري في البحر الأحمر زاد من المخاطر على حركة الملاحة ولم يخفّضها، وبالتالي، باتت إعادة تفعيل حركة الشحن عبر البحر الأحمر إلى مستويات ما قبل الحرب يتوقف على إيقاف الإبادة الجماعية في غزة

لكن، تعتبر الملاحة في القطب الشمالي موسمية للغاية، وتقتصر على الأشهر ما بين تموز/يوليو وتشرين الثاني/ نوفمبر، ويتطلب إبحار السفن عبر طريق القطب المتجمّد الشمالي إلى مرافقة سفينة كاسحة للجليد تعمل بالطاقة النووية، إلا أن عدد كاسحات الجليد محدود، فقد تم تشغيل خمسة فقط على طريق بحر الشمال في العام 2021، وقد ترتفع إلى تسعة بحلول العام 2030.

أيضاً، يعاني طريق القطب الشمالي من مشاكل في القدرة الاستيعابية، فهو لا يستطيع استيعاب السفن العملاقة التي تبلغ سعتها حوالى 20 ألف حاوية بسبب قيود مفروضة على أساس عمق الجليد، وفي الوقت الحاضر، يمكن للسفن التي تبلغ طاقتها الاستيعابية حوالى 5000 حاوية فقط التنقّل بسهولة عبر طريق بحر الشمال في خلال فصل الصيف.

طرق الشحن البري ومعابر سكك الحديد

أدّى ارتفاع أسعار النقل البحري إلى البحث عن الطرق البرية المتاحة، ولا سيما عبر شبكة السكك الحديدية بين الصين وأوروبا، ومن المتوقع أن ترتفع الأسعار الفورية للنقل بالسكك الحديدية نحو أوروبا بأكثر من 20% في كانون الثاني/ يناير بالمقارنة مع الشهر السابق بسبب زيادة الطلب على استخدام هذه الشبكة من الطرق البرية وسكك الحديد.

تعتمد شركات الشحن البحري طرق برية عدّة لنقل الشحنات بين آسيا وأوروبا وتجاوز البحر الأحمر. يمكن الإشارة هنا إلى معبرين أساس للنقل البري من شرق آسيا إلى أوروبا: 

الممر الشمالي: يتألف الممر الشمالي من الطرق التي تربط موانئ شمال شرق آسيا (الشرق الأقصى الروسي وشرق وشمال شرق جمهورية الصين الشعبية) بأوروبا عبر فروع السكك الحديدية العابرة لسيبيريا (Trans-Siberian) التي تمر عبر الاتحاد الروسي، والطرق التي تمر عبر منغوليا وجمهورية كازاخستان؛ إلا أن العديد من التجار الأوروبيين، خوفًا من العقوبات أو من أن يُنظر إليهم على أنهم ودودون مع روسيا، فضّلوا البحث عن طرق لتجنّب البلاد - إما عن طريق العودة إلى البحر أو استكشاف ممرات برية بديلة.

الممر الأوسط: بالنسبة إلى أولئك الذين يريدون تجنّب المرور عبر روسيا، فإن شبكة التجارة العابرة من آسيا الوسطى، والمعروفة باسم الممر الأوسط، فد تكون حلاً مناسباً، ويمتد الطريق الرئيسي للممر الأوسط من أوروبا - عبر تركيا وجبال القوقاز وبحر قزوين وكازاخستان - إلى الصين.

سيتعين على خطوط الشحن التعامل مع مخاطر المحيط الهندي وطقسه القاسي، ما يعني أن السفن ستسهلك وقودها بشكل أسرع، وهذا يجعل من خدمات التزوّد بالوقود أكثر إلحاحاً

لكن، يستغرق الشحن عبر الممر الأوسط بمعابره الحدودية العديدة وقتاً أطول بثلاث مرات من الممر الشمالي بسبب عمليات تبديل الشحن (transshipments between modes) وأوجه القصور التشغيلية، وهو يقارب من حيث المدة ما يستغرقه الشحن البحري.

الشحن الجوي

تسمح الطرق والوجهات المنتظمة من آسيا إلى أوروبا للمصدرين بالاستفادة من سرعة النقل الجوي لتوصيل السلع القابلة للتلف أو السلع عالية القيمة أو المنتجات الحساسة للوقت في حوالى 3 إلى 4 أيام. ومع ذلك، فإن كلفة الشحن الجوي مرتفعة للغاية، وتصل إلى ما يقرب من 3 إلى 4 أضعاف النقل البحري والسكك الحديدية.

فضلاً عن ذلك، ارتفعت أسعار الطيران على الطريق بين الصين وشمال أوروبا بنسبة 91% على أساس أسبوعي لتصل إلى 3.55 دولار للكيلوغرام الواحد، وفقاً لبيانات من شركة فريتوس للشحن في 16 كانون الثاني/يناير، وقالت منصة الشحن Xeneta إن حجم الشحن الجوي من فيتنام إلى أوروبا - وهو طريق تجاري رئيسي لصادرات الملابس- ارتفع بنسبة 62% في الأسبوع المنتهي في 14 كانون الثاني/يناير، وزادت أسعار الشحن الجوي بنسبة 10% بالمقارنة مع الأسبوع السابق.

شحن متعدّد الوسائط جوّاً وبحراً

أحد البدائل التي تلجأ شركات الشحن البحري إليه هو الاستخدام المشترك للشحن الجوي والبحري، ويسمح هذا الحل متعدّد الوسائط ببعض التخفيض في الكلفة لأن جزءاً كبيراً من عملية النقل يتم عبر السفن، وتتم بعد ذلك المرحلة الثانية من العبور عن طريق الجو، التي تجنّب مشاكل البحر الأحمر وتقلل أوقات العبور بشكل كبير.

في حديثه إلى Trans.INFO في الشهر الماضي، أشار مدير العمليات في Forto إلى الهند والإمارات العربية المتحدة كمواقع محتملة للتبديل بين وسائط الشحن، ولكن شركة OOCL Logistics ترى أن التسعير يمثل مشكلة هنا: «في هذه اللحظة، يعد خيار البحر والجو أقل شيوعاً عند مقارنته بغيره من حيث وقت العبور والسعر، حيث تبلغ كلفة الشحن بالسكك الحديدية من آسيا إلى ألمانيا حوالي 4200 دولار خلال 16 يوماً فقط، في حين يستغرق النقل المشترك بين البحر والجو حوالى 19 يوماً (بما في ذلك الإجراءات الجمركية) بمتوسط ​​4600 دولار، كما أن النقل الهجين يعد نقلاً أكثر تعقيداً حيث ستكون هناك حاجة لنقل الحاويات عبر الشاحنات والتعامل مع التخليص الجمركي في دبي، الأمر الذي يزيد من عدم اليقين في العملية».

شحن متعدّد الوسائط برّاً وبحراً

تدرس الشركات الآن الجمع بين النقل البحري والنقل البري الداخلي عبر بلدان في الشرق الأوسط، ولا سيما عبر تفريغ الشحنات في جبل علي في دبي ونقلها براً نحو موانئ جدّة في السعودية، حيث يمكن تجنّب منطقة الخطر في باب المندب على مدخل البحر الأحمر، بالإضافة إلى اختصار وقت العبور إلى 3 إلى 7 أيام بالمقارنة مع إعادة توجيه مسار السفن إلى رأس الرجاء الصالح، إلا أن هذا الخيار كذلك تشوبه التعقيدات التي تأتي من عملية تفريغ وسائط الشحن المختلفة من الحاويات وإعادة ملئها بها، فضلاً عن القدرة الاستيعابية الأقل التي يمثلها النقل البري.

تدرس الشركات الجمع بين النقل البحري والنقل البري الداخلي عبر بلدان في الشرق الأوسط، عبر تفريغ الشحنات في جبل علي في دبي ونقلها براً نحو موانئ جدّة في السعودية، لتجنّب منطقة الخطر في باب المندب

في المحصلة، لا يزال الشحن البحري هو الأقل تكلفة، يليه الشحن بالسكك الحديدية والشحن الجوي، بل لا يزال الشحن البحري الأكثر كفاءة والأقل كلفة يتم عبر البحر الأحمر، إلا أن عودة انسياب التجارة عبر هذا الممر الحيوي تحتاج إلى وقف الحرب على غزّة وإغاثة سكانها من الإبادة الجماعية، وبانتظار ذلك، يمكن قبول عرض حركة «أنصار الله» بأن تعلن سفن الشحن «عدم علاقتها بإسرائيل» وتعبر بسلام طالما أنها لا تعبر من وإلى الموانئ الإسرائيلية ولا يملكها أو يديرها أو يشغّلها إسرائيليين. إلا أن بعض التحليلات تربط التصعيد الغربي في البحر الأحمر بسياقات أوسع، لمنع إيران من التحرّك أكثر في مواجهة إسرائيل وداعميها عبر استعراض القوّة العسكرية في مواجهتها، لا سيما إذا انتقل التوتر إلى مضيق هرمز الواقع بين إيران وسلطنة عُمان. وكذلك لممارسة المزيد من الضغوط في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، فالأخيرة هي الأكثر تأثراً بتعطيل التجارة عبر البحر الأحمر، والأكثر تعرّضاً للضغوط الأميركية التي تطالبها بالتدخّل مع إيران لوقف هجمات حركة «أنصار الله».