Preview غسان أبو ستة

غسّان أبو ستة: ثمّة أهمّية حاسمة لحرب إقليمية

ضمن سلسلة ندوات «من بيت لحم إلى غزّة سلام»، التي ينظّمها مسرح المدينة في بيروت، قدّم الطبيب الفلسطيني البريطاني غسّان أبو ستة شهادته الحيّة عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة، والآلام والجراح في مستشفيات غزّة. وتحدّث عن التدمير المُمنهج الذي يتعرّض له القطاع الصحّي بوصفه أحد أشكال الإبادة الجماعية وأساليب التهجير القسري للشعب الفلسطيني الصامد في أرضه. وأدار الندوة الكاتب والباحث صقر أبو فخر.

نص الندوة:

يُعدُّ القطاع الصحّي الفلسطيني محورياً في هذه الحرب. في حين يُعدُّ تدميره هدفاً مباشراً رئيساً للإسرائيليين، يجسّد أيضاً مثالاً عن المقاومة الفلسطينية. فعلى الرغم من الاستهداف اليومي الذي يطال القطاع الصحّي ويقنُص العاملين فيه، لا يزال هذا القطاع يجري العمليات الجراحية بشكل يومي ويُسعف الجرحى.

دخلت إلى قطاع غزّة في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ولم أتمكّن من الوصول إلى مستشفى «الشفاء» حتى اليوم التالي وباشرت العمل فوراً. لأنتقل بعدها بعشرة أيام إلى مستشفى «العودة» من أجل دعم الفريق الطبّي فيه. 

في اليوم الرابع من وصولي إلى «العودة»، تلقّى المدير الطبّي الدكتور أحمد مهنّا اتصالاً هاتفياً من ضابط إسرائيلي يهدِّد باستهداف المستشفى إذا لم يتمّ إخلاؤه في خلال ساعتين. على إثرها جرت إتصالات بين المستشفيات العاملة في القطاع ومدرائها ووزارة الصحّة، وتمّ التوصّل إلى موقف وطني جامع رافض لإخلاء المستشفيات، على اعتبار أنها خطوة مُسهِّلة للتطهير العرقي الذي يبغيه العدو. لكن منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر، لم يعد مستشفى «الشفاء» قادراً على إجراء العمليات الجراحية المطلوبة، فقد تجاوزت أعداد الجرحى القدرة الاستيعابية للمستشفى التي تصل إلى 600 سرير. عندها اضطررنا لنقل الجرحى إلى مستشفى «المعمداني الأهلي» لإجراء العمليات لهم. 

انتقلت إلى مستشفى «المعمداني» يوم استهدِف فيما مئات العائلات تتّخذه ملجأ لها، واستشهد 480 طفلاً ورجلاً وامرأة. 

العنف المُمارس ضدّ القطاع الصحِّي وتدميره هدفه تسهيل عملية طرد السكّان وخلق كلّ الظروف الملائمة لاستحالة العيش في قطاع غزّة

تعدُّ مجزرة «المعمداني» اختباراً إسرائيلياً للمجتمع الدولي ومدى معارضته للحرب والإبادة. لقد اختير المستشفى «المعمداني» لما له من علاقات خارجية، فهو يُدار من مجلس الكنائس العالمي ومرتبط بالكنيسة الإنجيلية في بريطانيا. وبالفعل، في خلال نصف ساعة من المجزرة، شهدنا قبول أعمى من الإعلام الغربي بالسردية الإسرائيلية التي تزعم ضرب المستشفى بصاروخ فلسطيني عن طريق الخطأ، وأخذ يردِّدها من دون التواصل مع أي من الناجين أو الأطبّاء أو الجرحى وعائلاتهم. شكّلت هذه التقارير الإعلامية رسالة من المجتمع الدولي لإسرائيل للاستمرار بحربها الهمجية.

بعد استهداف المستشفى «المعمداني الأهلي»، بدأ الترويج لسردية تزعم وجود سراديب ومقار عسكرية في مستشفى «الشفاء». وفيما كانت الوسائل الإعلامية مُنهمكة بهذه السردية، فرض الجيش الإسرائيلي حصاراً على المستشفى وأمعن في تدمير مستشفيات الأطفال؛ استهدف مستشفى محمد الدرّة، ومستشفى  الرنتيسي، ومستشفى النصر، ومن ثم مستشفى العيون، ولاحقاً مستشفى الأمراض النفسية ومركز معالجة السرطان. وبعد أن أطبق حصاره على «الشفاء»، استهدف بالقصف المدفعي مستشفى القدس الذي تديره جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.

لم تُضرَب المقاومة. بعد 3 أيام من استهداف مستشفى «المعمداني»، أعاد القيِّمون عليه وطواقمه إصلاح غرف العمليّات المدمّرة جزئياً، ونقلوا كلّ الأسرّة من الطبقات العلوية إلى الطبقة الأرضية واستؤنِف العمل في المستشفى.

حينها باتت المهمّة الأساسية هي نقل الجرحى من «الشفاء» إلى «المعمداني». كنتُ انتقل صباح كلّ يوم من «الشفاء» إلى «المعمداني». أجري العمليّات الجراحية حتى الخامسة مساءً، وأعود بعدها إلى «الشفاء» بسيارات الإسعاف واستمرّ في العمل حتى الواحدة صباحاً. ومع إطباق الحصار الإسرائيلي على «الشفاء»، لم أعد قادراً على دخوله. لكن الأطباء الذين كانوا لا يزالون في المستشفى قرّروا البقاء مع مرضاهم تحت الحصار: نقلوا المرضى إلى أروقة المستشفى لتلافي نيران القنّاصة الإسرائيليين، وعانوا معهم من قطع المياه والطعام. وبعد انسحاب الدبّابات من ساحة المستشفى انتقلت الطواقم الطبّية إلى مستشفيات أخرى؛ توجَّه الدكتور محمد عبيد إلى المستشفى الأندونيسي، ورئيس قسم جراحة التجميل الدكتور أحمد مخللاتي إلى مستشفى الأوروبي في رفح. كانت الطواقم الطبية تنتقل من مستشفى إلى آخر بسبب تدمير المستشفيات.

ثمّة بطولات مذهلة تسطّر. ثمّة مقاومة مجتمعية وحياة تشاركية تتحدّى كلّ هذه المظالم. ثمّة غياب للفرد وظهور لجماعة تدافع عن إنسانيتها وحضارتها بوجه البريرية المُجرم

استمرّ الدكتور عبيد بإجراء العمليات في المستشفى «الأندونيسي» إلى حين قصفه بالدبّابات واقتحامه، فانتقل إلى مستشفى «العودة»، حيث يستمرّ في عمله حتى اليوم على الرغم من إصابته بطلق ناري. ولا يزال الدكتور أحمد مخللاتي في المستشفى «الأوروبي»، حيث يحتاج ما يقرب من 400 جريح لعمليات تجميل، فيما الأدوية والمستلزمات الطبّية مقطوعة بما يحول دون إمكانية إجراء تلك العمليات. ومثلهما المئات من الممرِّضين والطواقم الطبّية.

إن العنف المُمارس ضدّ القطاع الصحِّي وتدميره هدفه تسهيل عملية طرد السكّان وخلق كلّ الظروف الملائمة لاستحالة العيش في قطاع غزّة. وكلّما حاول أي مستشفى إعادة بناء قدرته يستهدفه الجيش الإسرائيلي مُجدّداً. ويأخذ الاستهداف أشكالاً عدّة؛ القصف، والقنص بالمسيّرات، وإطلاق النار على الجرحى لمنعهم من الوصول إلى المستشفيات. في خلال فترة تواجدي في مستشفى المعمداني، جرى في يوم واحد إطلاق النار على عشرين جريحاً وعائلاتهم أثناء انتقالهم إلى المستشفى. 

الاستهداف مُمنهج، وهو لا ينحصر بالمباني فحسب، بل يطال أيضاً أكثر من 300 طبيب وممرّض، أما الهدف فهو القضاء على جيل كامل من الأطبّاء والممرِّضين، والحؤول دون إعادة بناء القطاع الصحّي والاستفادة من خبرات طواقمه لبناء قدرات جديدة حتّى بعد ترميم أو إعادة بناء المستشفيات. وكذلك يشمل الاستهداف أصغر التفاصيل. في إحدى الليالي تركّزت مهام الجيش الإسرائيلي على استهداف ألواح الطاقة الشمسية التي تغذّي المستشفيات بالطاقة. هكذا تعمل الطواقم الطبية منذ ثمانين يوماً من دون توقّف، ولكنها تقف عاجزة أمام تدمير المنشآت وقطع الأدوية.

مع ذلك، وفي مقابل الإجرام الإسرائيلي الذي يمارس بمشاركة فعلية من المجتمع الدولي تتجاوز الدعم المُعلن، ثمّة بطولات مذهلة تسطّر. ثمّة مقاومة مجتمعية وحياة تشاركية تتحدّى كلّ هذه المظالم. ثمّة غياب للفرد وظهور لجماعة تدافع عن إنسانيتها وحضارتها بوجه البريرية المُجرمة. نجد طلاب الطبّ يتطوّعون للعمل مع الطواقم الطبّية، والصيادلة يرشّدون استخدام الأدوية في غرف العمليات، وطواقم الإسعاف يخاطرون بحياتهم للتنقل من مستشفى إلى آخر ولو لجلب بضعة عقاقير من الدواء لا تكفي لإسعاف بضعة أعداد من المرضى. نجد الناس يتشاركون المنازل وما تبقى من مُستلزمات تقويهم للصمود. في أثناء عملي في المستشفيات تعرّفت إلى حلّاق رجالي تطوّع لقصّ شعر الأطباء والممرّضين ومساعدة المرضى والاهتمام بترتيبهم. أذكر طفلاً في الثالثة من عمره، هو الناجي الوحيد من عائلته، أجريت له عملية بتر، واهتمّت به سيدة كانت ترافق طفلها الجريح في المستشفى.

يعتقد الإسرائيلي أن بارتكابه كلّ هذه الجرائم سوف يدفع الناجين لاحقاً إلى الهرب من الموت. ولكن ما لم يفهمه هو أن بالنسبة الفلسطيني هناك ما هو أسوأ من الموت، إنها تجربة اللجوء وذله

تبيّن هذه القصص والشهادات أن المجتمع الفلسطيني قرّر الارتقاء بحضارته الإنسانية عن طريق الدفاع عن أضعف الأفراد فيه. 

أنا لاجئ، إبن لاجئ، ولكني لم أفهم معنى اللجوء أكثر من الآن. تجربة اللجوء ترافقنا، ونورثها للأجيال التي تأتي بعدنا، إنها تجربة بنيوية في الهوية الفلسطينية. يعتقد الإسرائيلي أن بارتكابه كلّ هذه الجرائم سوف يدفع الناجين لاحقاً إلى الهرب من الموت. ولكن ما لم يفهمه هو أن بالنسبة الفلسطيني هناك ما هو أسوأ من الموت، إنها تجربة اللجوء وذله.

يوجد 800 ألف فلسطيني صامدون في الشمال، و120 ألفاً في جباليا، وهناك الذين كانوا خارج غزة ودخلوها أثناء الهدنة. جميع هؤلاء أطالوا أمد الحرب، فبعد أن اكتشف الاسرائيلي عجزه عن تهجيرهم، اتخذ قرار الاستمرار في قتلهم. وهكذا تستمرّ المجزرة وتستمرّ المقاومة.

هذا الإجرام لن ينتهي بانتهاء الحرب. يحاول الإسرائيلي في السلم تحقيق ما عجز عن تحقيقه في الحرب. وبالتالي سيأتي الحصار لإكمال ما بدأته الحرب. إن منع إعادة بناء المدارس والجامعات والمستشفيات هو سلاح يستخدمه الإسرائيلي لاستهداف سبل الحياة في قطاع غزّة بطريقة مُمنهجة تدفع الناس الصامدة إلى الرحيل. يراهن الإسرائيلي على أن الناس قد تصمد لسنة أو سنتين، ولكن لهذا الصمود نهاية. وهنا يأتي دورنا، نحن المقيمون في الخارج، لمنع الإسرائيلي من أن يحقّق في السلم ما عجز عن تحقيقه في الحرب. لا بدّ من إعادة إعمار غزّة وإعادة بناء كلّ معالم الحياة فيها، ودعم صمود شعبنا في غزّة. أتذكرون الفدائي في جحر الديك الذي كان يتسلق الكثبان حافي القدمين؟ واجبنا تجاهه أن نحمي أسرته ونعالجها. 

لم تشهد هذه المنطقة إبادة مماثلة منذ الإبادة الأرمنية. ما يحدث اليوم لا سابقة له. اعتمدت إسرائيل على طرد الفلسطينيين منذ العام 1948، ولكنها اكتشفت هذه المرّة أن الفلسطينيين لن يتركوا أرضهم لو مهما ارتكبت من مجازر بحقهم. 

أتذكرون الفدائي في جحر الديك الذي كان يتسلق الكثبان حافي القدمين؟ واجبنا تجاهه أن نحمي أسرته ونعالجها

أمام هذا الهول من الفظائع قد يتساءل المرء: أليست إسرائيل خائفة من نتائج الحرب على الصعيد الدولي ومن الرأي العام؟ هنا لا بدّ من التذكير بما قاله المؤرّخ الصهيوني بيني موريس، حين اعتبر أن أكبر غلطة ارتكبتها الحركة الصهيونية تكمن بعدم طردها كلّ الفلسطينيين من الجليل وقطاع غزّة والضفّة الغربية. من هنا، أُطلِق على الحرب الحالية «حرب بيني موريس»، على اعتبار أنها تسترشد بنظريته عن ضرورة إنهاء الوجود الفلسطيني. ما يحصل في هذه الحرب هو عملية مُمنهجة لإنهاء أعمال الطرد القذرة بالكامل، ومن ثم التعامل لاحقاً مع هذا الإرث بإنشاء المتاحف أسوة بما فعله الرجل الأبيض في أميركا الشمالية، أو الندم والاستغفار كما يفعل الألمان منذ الحرب العالمية الثانية. ولذلك لا نجد مواربة في تعبير القادة الإسرائيليين عن نواياهم بالإبادة. لقد وصف بنيامين نتنياهو الفلسطينيين بـ«الأماليك» لتبرير الإبادة، فيما قال مسؤول آخر إن هذه الحرب ستكون النكبة الثانية، ودعا ثالث إلى استخدام الأوبئة للقضاء على سكّان غزة. تبيّن كل هذه التصاريح أن القرار الإسرائيلي يضمر التعامل مع التبعات الأخلاقية للحرب إنّما بعد استكمال الإبادة.

من هنا، ثمّة أهمّية حاسمة لتوسيع الحرب إلى حرب إقليمية، لأن المفاوضة يجب أن تتمّ مع المنظومة العالمية، لا مع أحد أدواتها. إذا أخرجنا الدبّابات الإسرائيلية سوف يبقى الحصار، وسيكون بوسع البنك الدولي حجب التمويل، وستتمكّن البنوك من منع إيصال الأموال من الخارج. بينما الحرب الإقليمية تجبر المنظومة، بما فيها الولايات المتّحدة، وعملائها الإسرائيليين والعرب، وأدواتها المتمثّلة بمنظمة الصحّة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والصليب الأحمر على التفاوض لوقف المجزرة. 

أمّا بالنسبة لمن ينأون بأنفسهم عن هذه الحرب، ربّما لا يريدون التعاطف مع الفلسطينيين، ولكن تصدّيهم للحرب واجب كون إجرام القاتل المتوحشّ الذي يسكن على مقربة منهم سيطالهم أيضاً. نحن نتعامل مع مجتمع دولي لم يمانع قتل 10 آلاف طفل في غزّة في خلال خمسين يوماً، وهناك عدد مماثل لا يزال تحت الأنقاض. لقد وصلت عقلية المجتمع الإسرائيلي إلى مستوى من الإجرام قضت بتوقيع 400 طبيب عريضة تطالب جيش الاحتلال باستهداف المستشفيات. وهذا لا يشكّل خطراً على الفلسطينيين وحدهم، بل على اللبنانيين والأردنيين والسوادنيين والمصريين والسوريين أيضاً. فما يحدث لن يتوقّف عند حدود غزّة.