من نشوة العولمة إلى أزمة الإنسانية

يجمع كتاب «الحرب، الرأسمالية العالمية، والمقاومة» لويليام آي. روبنسون مقالات موجزة وإنما عميقة التأثير. كُتب معظمها في العقد الأخير، إلى جانب مقابلة أُجريت العام الماضي. لا يُعتبر الكتاب عملاً أكاديمياً تقليدياً ولا أطروحة نظرية بحتة، بل يمثّل جهد روبنسون المستمر لجعل الأفكار النظرية المعقّدة في متناول النشطاء والمنظّمين وكل من يسعى لمقاومة استغلال الرأسمالية والتفكير في بدائل لها. ويرتكز الكتاب على مقالات تبحث في الأزمات المتداخلة للحرب والسلطوية والتدمير البيئي وانعدام العدالة الاجتماعية في ظل الرأسمالية العالمية.

اختيرت هذه النصوص بعناية لتشكّل رؤية متماسكة لمساره الفكري، مبرزة استمرارية أفكاره السابقة وراهنيتها. ويؤكّد الكتاب أن الإطار العام الذي يقدّمه روبنسون، ويجمع بين نظريته عن الرأسمالية العالمية والتجلّيات الواقعية للأزمات المتعدّدة، لا يزال ذات صلة بواقع اليوم.

يعزو المؤلف هذه الأزمات إلى النزعة النهمة لرأس المال نحو التراكم، ويردّ هذه الأزمات إلى منطق رأس المال القائم على التراكم اللامحدود، الذي أدّى إلى تجاوز النظام لحدوده الذاتية. يدعو روبنسون إلى حلّ جذري يتمثّل في الاشتراكية البيئية الثورية التي تعطي الأولوية لحاجات الإنسان والتوازن البيئي على حساب منطق الربح.

يسلّط التقديم الذي كتبه فيل هيرس الضوء على الأهمية الفكرية للكتاب، مشيراً إلى أصالته في تقديم تحليل مُتكامل لمجموعة من الظواهر التي يعالجها الخطاب السائد بمعزل عن بعضها البعض، مثل الهجرة الجماعية وتصاعد الفاشية وأزمة المناخ والحروب. وهذا النهج الكلي أمر بالغ الأهمية، إذ تؤدي القراءات المجتزأة للأزمات البنيوية إلى تغييب جذورها الحقيقية.

تشكّل هذه التحوّلات، إلى جانب الدمار البيئي والأزمات البنيوية، تهديدات مصيرية للبشرية والكوكب، ما ينذر بانعدام الاستقرار طويل الأمد للرأسمالية

ما يميّز الكتاب هو قدرته على ربط هذه القضايا المختلفة ضمن إطار تحليلي موحّد، يمكّن القارئ من استيعاب الصورة الشاملة للنظام الرأسمالي العالمي.

تتناول هذه المجموعة من المقالات قضايا حسّاسة تشمل الدولة البوليسية العالمية والتراكم العسكري، وإعادة تشكيل النظام التعليمي، وتدعيم أنظمة السجون الجماعية القمعية، ويقدّم من خلالها تحليلاً متسقاً وعميقاً، مسلّطاً الضوء على كيفية تكيّف الرأسمالية وتحوّلها في مواجهة الأزمات من خلال تعزيز آليات الهيمنة والاستغلال. وبالإضافة إلى ذلك، تقدّم هذه المقالات تحليلاً موسّعاً لصعود الفاشية في القرن الواحد والعشرين، حيث يعرضها روبنسون كظاهرة عابرة للحدود ومتجذّرة  في تناقضات الرأسمالية العالمية.

بصفته أستاذاً بارزاً لعلم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، يستكشف روبنسون كيف أن «الفاشية المعاصرة» تنشأ عند تقاطع الأنظمة السلطوية والحركات اليمينية المتطرّفة  وعسكرة الدول بوصفها وسيلة لإدارة الأزمات وقمع المقاومة.

يسلّط الفصل الختامي الضوء على هذه الديناميات عبر دراسة الإبادة الجماعية الجارية في غزة، باعتبارها أكثر مظاهر هذه الفاشية وحشية. وبطرحه لسؤال «لماذا الإبادة الجماعية، ولماذا الآن؟»، يربط روبنسون الجرائم الإسرائيلية ضدّ الإنسانية في فلسطين بالسياقات الأوسع التي يناقشها في كتابه، مثل اللامساواة العالمية والقمع العسكري وأزمة الشرعية الرأسمالية.

إن تحليلات روبنسون، سواء في هذا المقال أو في كتاباته الأخرى، كما سأناقش لاحقاً، تقدّم رؤية صادمة ولكن ضرورية لفهم الإبادة الجماعية المستمرّة، التي قد لا تقتصر على غزة.

الأزمات والسيطرة ووجه الفاشية الجديد

يقدّم المقال الافتتاحي لروبنسون، بعنوان «العولمة: تسع أطروحات عن عصرنا»، والذي كُتب في الأصل في تسعينيات القرن الماضي، نقداً للتحوّلات التي أحدثها النظام الرأسمالي العالمي، حيث أُدرجت جميع الأشكال الإنتاجية السابقة وغير الرأسمالية ضمن بنية اجتماعية عالمية للتراكم. ويقود هذا النظام طبقة رأسمالية عابرة للحدود، وهو مفهوم محوري في فكر روبنسون السياسي والنظري، حيث تعمل هذه الطبقة خارج حدود الدول متجاوزة السيادة التقليدية وجاعلة الإطار القومي غير ذي صلة.

تتسم هذه المرحلة من الرأسمالية بطابعها المناهض للديمقراطية، حيث تتركّز السلطة في يد النخب العالمية، ما يزيد من حدّة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. ويشدّد روبنسون على المفارقة القائمة بين التوسّع الهائل في الثروة وارتفاع معدّلات الفقر، مع التأكيد أن البعد العرقي والإثني والجندري لهذا التفاوت هو عنصر متأصل في بنية النظام الاستغلالية.

تتشابك العوامل المختلفة لتعميق أزمة شرعية الدولة الرأسمالية وتهديد أسس الهيمنة العالمية

تشكّل هذه التحوّلات، إلى جانب الدمار البيئي والأزمات البنيوية، تهديدات مصيرية للبشرية والكوكب، ما ينذر بانعدام الاستقرار طويل الأمد للرأسمالية. وعلى الرغم من ذلك، يظل اليسار العالمي منقسماً بين تيّارات تسعى إلى إصلاح النظام وأخرى تدعو إلى تجاوزه نظراً لطبيعته التدميرية.

يرى روبنسون هنا أن الرأسمالية العالمية لا يمكن أن تخضع لمسار ديمقراطي، ما يستدعي مقاومة جذرية تهدف إلى بناء بدائل راديكالية تعالج مظاهر التفاوت البنيوي والتناقضات التي تهدّد مستقبل البشرية.

مع مرور الزمن، قد يتساءل البعض عن مدى استمرار صلاحية هذه الأطروحات. فقد كانت تسعينيات القرن الماضي ذروة الاندفاع نحو العولمة، الوقت التي نال فيها عمل روبنسون اعترافاً دولياً. ومع ذلك، فإن الديناميّات الأساسية التي تناولتها «الأطروحات التسع» لا تزال جوهرية لفهم الرأسمالية المعاصرة، مع أن تطوّرات جديدة، مثل صعود الحروب القائمة على الذكاء الاصطناعي والتقدم في تقنيات الرقابة والمراقبة الرقمية وتفاقم الانهيار البيئي وإعادة تشكيل هيكل القوى العالمية، قد أضافت طبقات جديدة من التعقيد. وبناءً على ذلك، يمكن القول إن هذا الكتاب يُبرز إلى أي مدى نجح المؤلف في تطوير نظريته عن الرأسمالية العالمية في ضوء هذه المستجدات.

تمثّل المدة التي أعقبت الأزمة المالية للعام 2008 مرحلة مليئة بالاضطرابات، حيث يُفترض أن الأدلة التجريبية الداعمة لنشوء الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود قد أصبحت أضعف، ما قد يؤدّي إلى تراجع المؤشرات الاقتصادية والسياسية/المؤسسية للعولمة العابرة للحدود. وتدل النقاشات في الأدبيات التقليدية والجذرية، التي تترافق مع مفاهيم مثل «تفكّك العولمة» و«التعدّدية القطبية» و«الحرب الباردة الجديدة» و«التنافسات الإمبريالية» على هذا الاتجاه. غير أن النشوة العالمية التي رافقت العولمة في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين قد تبدّدت، تاركة المجال لأزمة إنسانية ونظامية حادّة مؤشّرة إلى بروز نمط جديد من العولمة.

يتجلّى هذا الطور في تصاعد التناقضات داخل النظام الرأسمالي العالمي، حيث تتشابك العوامل المختلفة لتعميق أزمة شرعية الدولة الرأسمالية وتهديد أسس الهيمنة العالمية.

ويكمن جوهر هذه الأزمة في تحوّل العولمة من مشروع قائم على التوسّع النيوليبرالي للأسواق إلى نظام يستند علناً إلى العنف والقمع والتدمير البيئي. ويظهر عمق هذه الأزمة بوضوح من خلال التوسّع السريع وتنوّع أنظمة السيطرة الاجتماعية العابرة للحدود وتفاقم التوترات الجيوسياسية، وعسكرة أنظمة التراكم الرأسمالي، وهي عمليات تترافق بشكل متزايد مع شبح الحرب العالمية. في الفصل المعنون «أممية رأس المال تسلك مساراً فاشياً»، يناقش روبنسون تداعيات هذه الأزمة من خلال ظهور مشاريع نيو-فاشية في مختلف أنحاء العالم، حيث تتباين هذه المشاريع تبعاً للسياقات التاريخية والاجتماعية لكل دولة.

ومن بين الأمثلة التي يسوّقها: الترامبية في الولايات المتحدة، وحكم بولسونارو في البرازيل، وميلي في الأرجنتين، وحكومة نتنياهو اليمينية المتطرّفة في إسرائيل، وصعود الأحزاب النيو-فاشية في أوروبا، وحكومة مودي في الهند، وانتشار الحركات اليمينية المتطرّفة عالمياً، التي تشكّل جميعها «أممية فاشية ناشئة في القرن الواحد والعشرين» حسب تعبيره.

يرى أن هذه القوى تهدف إلى «إطالة أمد العولمة الرأسمالية بوسائل أخرى» معتمدة على استراتيجيات استبدادية وقومية للحفاظ على التراكم الرأسمالي العالمي في ظل أزمات النظام المتزايدة.

يمثل كل فوز انتخابي وكل صعود لزعيم يميني متطرّف مؤشراً على انتصارات آتية ومحفزاً لانتصارات أخرى ضمن الشبكة العالمية للفاشية في القرن الواحد والعشرين. ووعياً بهذه الدينامية، يحتفي القادة الفاشيون اليمينيون المتطرّفون وأنصارهم بانتصارات مثل فوز بولسونارو في العام 2018، وغالباً ما يسارعون إلى تهنئة نظرائهم عبر العالم. وعلى عكس الفاشية التقليدية في القرن العشرين، تتميّز الفاشية المعاصرة بتشابك الحكومات الرجعية القمعية مع الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود بدلاً من الارتباط بالبرجوازية الوطنية، في انعكاس للطابع العابر للحدود الذي تتسم به الرأسمالية المعاصرة. إضافة إلى ذلك، فإن ضعف اليسار الثوري والطبقات العاملة المنظّمة مقارنة بالماضي ساهم في تشكيل الفاشية الحديثة. من هنا، كما ورد في النص، «النضال ضد الفاشية هو بالضرورة نضال ضد الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود». يشدّد روبنسون، مستنداً إلى دعوة سمير أمين إلى «أممية خامسة» قبل وفاته، على الحاجة الماسة لاتحاد الطبقات المضطهدة والمهمّشة لمواجهة الفاشية العالمية. ويدعو إلى تأسيس «جبهة موحّدة» و«أممية جديدة» تعتمد برنامج مشترك بالحد الأدنى، وتُنسّق الجهود على نطاق يتجاوز الحدود.

شبكة الاستغلال والقمع والمقاومة

يفحص روبنسون في مقالاته «الرأسمالية العالمية، وهجرة العمال، والنضال من أجل العدالة» و«الثورة السلبية والحركة ضد السجن الجماعي» (بالتعاون مع أوسكار فابيان سوتو)، العلاقات الجدلية بين الرأسمالية المعولمة، واستغلال العمالة، والقمع العسكري المنظم، ويرى أن العولمة الرأسمالية المعاصرة تستند إلى آليات «الاستغلال الفائق» للعمالة المهاجرة مع توظيف الدولة البوليسية العالمية كأداة للضبط الاجتماعي ولتعزيز هيمنة الطبقات الرأسمالية العابرة للحدود، ويسلط الضوء على الدور المتزايد لمؤسسات القمع، من مراكز الاعتقال إلى المراقبة الرقمية والشركات الأمنية الخاصة، في إعادة إنتاج النظام الرأسمالي عبر آليات السيطرة والإخضاع. كما يحلّل كيف أن التمييز القانوني بين «المواطن» و«العامل المهاجرش يعيد إنتاج منظومات التمييز الطبقي الاستعمارية والعنصرية، ما يسهم في تعميق الاستغلال الاقتصادي وإضعاف النضال العمالي الجماعي.

لا تُعَدّ سياسات القمع، والتمييز ضد المهاجرين، وعسكرة الحدود مجرد استجابات طارئة للهجرة، بل هي أدوات ممنهجة تهدف إلى تشكيل قوة عاملة خاضعة لأقصى درجات الاستغلال. في ظل هذه الآليات، لا يقتصر تسليع العمال المهاجرين على استلابهم التقليدي، بل يمتد ليشمل تحكماً شاملاً في تحركاتهم ووضعهم القانوني وأدوارهم في إعادة الإنتاج الاجتماعي، مما يجعلهم موارد اقتصادية مسيطراً عليها بالكامل داخل النظام الرأسمالي العالمي.

لا تُعَدّ سياسات القمع، والتمييز ضد المهاجرين، وعسكرة الحدود مجرد استجابات طارئة للهجرة، بل هي أدوات ممنهجة تهدف إلى تشكيل قوة عاملة خاضعة لأقصى درجات الاستغلال

يوضح روبنسون أن هذا الشكل من الاستغلال يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأنظمة التراكم العسكري والقمع المُنظم التي تخدم مصالح الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود. يوجه الكاتب عند هذه النقطة انتقاداً لاذعاً للسياسات الهوياتية، التي باتت تهيمن على الخطاب اليساري العالمي، معتبراً أنها تضع اليسار في موقع دفاعي ضيق يكرس الانعزال بدلاً من التغيير الجذري. ووفقاً لروبنسون، فإن «الثورة السلبية» التي يشير إليها تتجلّى في دمج النشطاء والمفكّرين المهمشين في منظومة الهيمنة الرأسمالية من خلال شعارات مثل «التنوّع»، و«التعدّدية الثقافية»، و«الإدماج».

نقد نظريات الإمبريالية واليسار المعادي للإمبريالية: رؤية شاملة

يتركّز نقد روبنسون للإمبريالية والسياسة اليسارية ومناهضة الإمبريالية على التحوّل العميق في النظام الرأسمالي في عصر العولمة. هذا النقد، الذي تناوله في مقالتيه «مهزلة مناهضة الإمبريالية» و«العولمة الرأسمالية، استغلال الطبقات العابرة للحدود، والدولة البوليسية العالمية»، يستند إلى رفضه للنظريات الماركسية التقليدية عن الإمبريالية، والتي يرى أنها تركّز بشكل مفرط على الأطر المرتكزة على الدولة القومية.

يؤكد روبنسون أن هذه النظريات كانت دقيقة في وقتها، لكنها الآن غير كافية لشرح ديناميات النظام الرأسمالي المعولم الذي تهيمن عليه الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود. صعود الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود باعتبارها الشريحة الهيمنية في رأس المال العالمي يعني تحولاً من الإمبريالية المرتكزة على الدولة القومية إلى استغلال الطبقات العابرة للحدود، وهو ما يراه روبنسون السمة المميزة للرأسمالية المعاصرة.

يشير تحليل روبنسون إلى أن هذه الطبقة الرأسمالية ليست مرتبطة بالدول القومية من خلال الحدود الإقليمية، بل من خلال كونها مراكز للسلطة يمكن استغلالها داخلياً وخارجياً. يجعل هذا التحوّل من النظريات الماركسية التقليدية التي ربطت الإمبريالية بالتنافس بين الدول من أجل التوسع في الأراضي والسيطرة على الموارد غير كافية الآن. بدلاً من ذلك، تمارس الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود نفوذها من خلال شبكات تراكمية عالمية تتجاوز الحدود الوطنية.

يستدعي هذا التحوّل إعادة التفكير في معنى الإمبريالية ذاته، الذي يرى روبنسون أنه أصبح إطاراً متمركزاً حول الدولة وغالباً ما يُساء استخدامه إيديولوجياً. ولهذا السبب، ابتعد لفترة طويلة عن النظريات الكلاسيكية للإمبريالية وكذلك عن مفهوم الإمبريالية نفسه، مُفضلاً استخدام مصطلحات مثل «التدخل الأميركي» و«استغلال الطبقات العابرة للحدود».

تتماشى هذه النظرة مع نقد روبنسون لما يُسمّى بـ «اليسار المناهض للإمبريالية». حيث يتهم هذا القطاع من السياسة اليسارية بمعارضة استغلال الرأسمالية بشكل انتقائي عندما تمارسه الولايات المتحدة وحلفاؤها، مع تجاهل أو حتى الدفاع عن ممارسات الأنظمة الاستبدادية في دول غير غربية مثل الصين أو روسيا. يشدّد عمل روبنسون على أن هذا النهج ليس فقط معيباً من الناحية التحليلية بل أيضاً غير مجدي سياسياً، حيث يمزج بين السلطة الدولة والسيادة الشعبية ويشرعن الأنظمة القمعية تحت ستار معارضة الإمبريالية الغربية. هذه نتيجة حتمية لاستبدال التحليل الماركسي بنظريات العلاقات الدولية أو الاقتصاد السياسي الدولي «الساذجة» المتمركزة حول الدولة.

من الضروري فحص الفرص والتحديات الجوهرية التي قد تطرأ نتيجة تبني هذا الموقف «الواقعي» في السياسة الاشتراكية بشكل دقيق وصريح. في رأيي، يجب أن تعتمد السياسة التقدمية الحقيقية، بدلاً من اتخاذ جانب في التنافسات العابرة للحدود الجارية، بشكل حصري على الهياكل المنظمة للطبقات العاملة والمضطهدة، بغض النظر عن مدى ضعف قوتها الحالية.

يستدعي هذا التحوّل إعادة التفكير في معنى الإمبريالية ذاته، الذي أصبح إطاراً متمركزاً حول الدولة وغالباً ما يُساء استخدامه إيديولوجياً

إن صعود الصين كقوة عالمية وغزو روسيا لأوكرانيا يعزّزان حجة روبنسون. في تحليله، يرى روبنسون أن صعود الصين ليس مشروعاً مناهضاً للإمبريالية، بل هو تجسيد لديناميات الرأسمالية العالمية. تعمل الدولة الرأسمالية الصينية ضمن النظام الرأسمالي العابر للحدود، وتشارك في تراكم رأس المال العالمي والمشروعات الاستخراجية واستغلال العمال، وغالباً ما يكون ذلك على حساب المجتمعات المهمشة في الجنوب العالمي.

وبالمثل، تعكس مناورات روسيا الجيوسياسية، بما في ذلك غزوها لأوكرانيا، صراعات داخل النخبة بدلاً من تحدٍ تقدمي للهيمنة الغربية. هذا النقد يؤكد الحاجة إلى أن يعيد الماركسيون تشكيل مناهضة الإمبريالية كمشروع طبقي بدلاً من كونه مشروعاً متمركزاً حول الدولة. يتطلب هذا التحول تجاوز الانقسام «المانوي» بين «الغرب وبقية العالم» والتركيز على صراعات الطبقات العابرة للحدود.

مجموعة البريكس والمقاومة الفلسطينية: بين الخطاب والواقع

لطالما قدمت دول البريكس - البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا - نفسها كحماة للجنوب العالمي، داعمةً قضايا مثل التحرير الفلسطيني. لكن الروابط الاقتصادية والسياسية مع إسرائيل تكشف عن تباين كبير بين الخطاب الدبلوماسي والأفعال الفعلية. لا تمثل دول البريكس حلفاء دائمين لتحرير فلسطين، بل هي مرتبطة بشكل عميق بالرأسمالية العابرة للحدود، بما في ذلك الشراكات الاقتصادية والعسكرية الكبيرة مع إسرائيل.

يبرز هذا التناقض بين الخطاب والممارسات الفعلية حدود الاعتماد على الدول، حتى تلك التي تقع خارج القوى الغربية التقليدية، في التضامن الحقيقي مع فلسطين، ويسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى حركات تضامن عابرة للحدود يمكنها تجاوز التواطؤ على مستوى الدولة ودعم فلسطين مباشرة.

من الضروري أن تقدم التحليلات الماركسية تفسيرات لهذه المواقف المتناقضة التي تتخذها الطبقات الحاكمة في دول البريكس، من دون الوقوع في فخ مفاهيم «المصالح الوطنية» التي تروّج لها البرجوازية. إن النموذج النظري والاستنتاجات السياسية لروبنسون، المدعومة بالبيانات التجريبية، تعد مهمة للغاية في هذا السياق.

نُشِرت هذه المراجعة في Z Network في 25 كانون الثاني/يناير 2025 بموجب رخصة المشاع الإبداعي.