Preview التطبيع الخليجي

أين سلاح النفط العربي؟

«إنّ الأرض في هذه المنطقة المجمّدة ساكنة لا تتحرك، وأشجار النخيل تتمايل أمام السحب، وأمواج البحر تتواثب على حصى الشاطئ، والمواد الأولية تذهب وتجيء مسوّغةً وجود المستعمر...» - فرانز فانون، معذّبو الأرض: 1963.   

يكاد فانون بهذا الوصف الشاعري يختصر نمط الحياة في دول الخليج، حيث تتشابك أنابيب النفط كهيكل عظمي في جوف الأرض، وتلوح في الأفق البعيد منشآت استخراج النفط ومعالجته ونقله، وكأنها حبيسة مكان يحجبها بشكل شبه تام عن الحياة اليومية للسكان. 

في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أصدرت «كويت نيوز» منشوراً على منصة إنستغرام إحياءً لذكرى مرور 50 عاماً على قرار البلدان العربية إشهار «سلاح النفط» في المفاوضات المتعلّقة بالسياسة والاقتصاد العالمي والحرب. أعقب القرار اجتماعاً لمنظّمة «أوابك» (منظّمة الأقطار العربية المصدّرة للبترول وهي غير منظّمة «أوبك»، منظّمة الدول المصدّرة للنفط) في الكويت، وتعهّدت الدول الأعضاء بموجبه بخفض إنتاجها بنسبة 5% شهرياً حتى تنسحب إسرائيل من كافة الأراضي التي احتلّتها في حرب حزيران/يونيو 1967، كما تمّ الإعلان عن حظر صادرات النفط المتّجهة إلى الولايات المتّحدة الأميركية وهولندا. ومن بين أعضاء الحلف «الراديكالي» في أوابك – المكوّن من الجزائر والعراق وليبيا – بادر العراق إلى إشعال «جبهة النفط» في اليوم الثاني من الحرب (السابع من تشرين الأول/أكتوبر 1973) من خلال تأميم حصّة شركتَيْ النفط الأميركيتين إكسون وموبيل البالغة 23.75% من شركة نفط البصرة. وُصفت هذه الخطوة على أنّها «التزام عراقي باستخدام النفط سلاحاً سياسياً في وجه التصعيد الصهيوني والعدوان الإمبريالي الأميركي ضدّ الأمة العربية».

التحكّم بإمدادات النفط كان مطلباً للتيّارات السياسية المحلّية والتحرّكات اليسارية، في إطار نضالها لإنهاء الاستعمار والترتيبات السياسية والاقتصادية والعسكرية لحقبة ما بعد الاستقلال

استُيعدت هذه الواقعة التاريخية على موقع «إكس» (تويتر سابقاً) على إثر اندلاع حرب الإبادة الصهيونية على غزّة. وفي 31 تشرين الأول/أكتوبر، كتبت معلّقة كويتية «10 دول عربية لديها نفط، 10 بلدان لم تجتمع بعد على كلمة واحدة لصالح غزة». وفي 14 تشرين الثاني/نوفمبر، تساءل أحد المقيمين في قطر قائلاً «لماذا لا تستخدم الدول الخليجية النفط والغاز كوسيلة لوقف الإبادة الجماعية في فلسطين؟».   

العناصر التي تم إبطالها بين 1973 و2023

يتكوّن «سلاح النفط» من عناصر عدّة أساسية، لكنها أُبطلت على مدار الفترة بين تشرين الأول/أكتوبر 1973 وتشرين الأول/أكتوبر 2023. 

أوّل تلك العناصر، هو أنّ قرارات الحظر الخليجية في الماضي بدأت أساساً من تحرّكات عمّال قطاع النفط (في المنطقة وخارجها)، الذين شكّلوا شبكات سياسية شعبية (القوميين واليساريين المناهضين للاستعمار) امتدّت على نطاق واسع في المنطقة. وقطع إمدادات النفط عن داعمي الصهيونية خطوة اتخذها عمّال منشآت الاستخراج الخليجية في خلال حرب السويس في العام 1956، وصعّدوا هذه الإجراءات حدّ قطع الإمدادات وتخريب محطّات الاستخراج إبّان حزيران/يونيو 1967. وراج شعار في التظاهرات التي عمّت الكويت في العام 1967، يقول: «أخي في الكويت.. دمِّر أنابيب الزيت. أخي في الحجاز، دمِّر أنابيب الغاز». 

أمّا العنصر الثاني لسلاح النفط فقد شُطِب من سجّلات التاريخ الرسمية والشعبية، وهو أنّ التحكّم بإمدادات النفط كان مطلباً للتيّارات السياسية المحلّية (وهنا أيضاً نتكلّم عن التحرّكات اليسارية المناهضة للاستعمار التي عمّت المنطقة بأسرها)، في إطار نضالها لإنهاء الاستعمار والترتيبات السياسية والاقتصادية والعسكرية لحقبة ما بعد الاستقلال، إضافة إلى المطالبة بالمشاركة السياسية وحق العمّال في تشكيل نقابات.

شهدت حقبة السبعينيات صعود مجلس التعاون الخليجي كتكتّل سياسي-جغرافي بموقعه الحالي في النظام الرأسمالي العالمي وعلاقته به، والخليج ما بعد 2011 واتفاقيات أبراهام، بتقاربه مع الصهيونية ومناهضته للثورات، ما هو إلّا نتاج لتلك الحقبة

تشكّلت «جبهة النفط» بقيادة الحكومات في السنوات التي سبقت حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وهي مرتبطة بالنقطة السابقة، فقد أدّى مجلس الأمة الكويتي المُنتخب دوراً مهمّاً في الدفع نحو تأميم قطاع النفط والتحكّم بمستويات إنتاجه وتحديد أسعاره. وكان القادة الخليجيون – حتى أولئك الذين يتذكّرهم الناس باتخاذهم موقفاً صحيحاً ومشرفاً تجاه فلسطين – يستجيبون بتردّد وحذر لمطالبات وضغوط العمّال المنظّمين والفئات الشعبية المنخرطة سياسياً، والأهم من ذلك الضغوط التي مارستها الدول القوية المناهضة للصهيونية والاستعمار في المنطقة. 

في الجانب الآخر من سلسلة الإمداد، كانت القوى الأوروبية الرأسمالية والولايات المتّحدة أكثر اعتماداً على «النفط العربي» في سبعينيات القرن الماضي. واليوم، تراجعت نسبة صادرات النفط الخليجي الخام والمكرّر (من السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين) إلى الولايات المتّحدة إلى ما دون 10%، فيما لا تتعدّى حصّة أوروبا 20% منها. وبحسب ما يكشفه آدم هنية في أحدث أعماله، أصبحت شركات النفط الخليجية المؤمّمة جزءاً من «محور جديد للهيدروكربونات» في آسيا، بحيث يتّجه معظم صادراتها إلى الصين واليابان والهند وسنغافورة وغيرها من البلدان.

القوى المضادّة للثورة 

السبعينيات – بما تخلّلته من حظر صادرات النفط في العام 1973 – كانت كذلك حقبة تقارب بين القوى المضادّة للثورة في المنطقة، وشهدت ترسيخ دور الولايات المتّحدة بوصفها القوة الإمبريالية الجديدة في العالم على حساب أفول الامبراطورية البريطانية وإعادة صياغتها لعلاقاتها مع الطبقات الحاكمة في مستعمراتها السابقة. وبالفعل، عمدت الأنظمة المناوئة للثورة إلى سحق القوى الشعبية بقوامها العمّالي، واستثمرت في إنتاج القوى العاملة الخليجية بالشكل الذي نعرفه اليوم: عمّال أجانب يكدحون في ظروف عمل بائسة وغير مستقرّة، محرومين من حقوقهم كعمّال، ومن السهل ترحيلهم واستبدالهم. وفي خلال حقبة السبعينيات، بدأت الطبقات الحاكمة بالتحوّل إلى الغنى الفاحش. ووفقاً لهنية، فإنّ حقبة السبعينيات شهدت صعود مجلس التعاون الخليجي كتكتّل سياسي-جغرافي بموقعه الحالي في النظام الرأسمالي العالمي وعلاقته به. والخليج ما بعد 2011 واتفاقيات أبراهام، بتقاربه مع الصهيونية ومناهضته للثورات، ما هو إلّا نتاج لتلك الحقبة. ولعلّ الضحكة المرتبكة لوزير الاستثمار السعودي خالد الفالح ردّاً على سؤال بشأن استخدام النفط «أداةً اقتصادية» خير دليل على ذلك. في خليج ما بعد اتفاقيات أبراهام، تذهب 7% من مبيعات الأسلحة الإسرائيلية إلى الإمارات والبحرين وفقاً لوزارة الحرب الإسرائيلية.

إذا استثنينا التوجّه اليمني الشجاع، أي قطع خطوط الشحن، فإنّ أبرز التدابير التي عمّت بلدان الخليج مناهضةً للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق غزة وتصعيدها العنيف في مناطق أخرى من فلسطين تمحورت بشكل كبير حول المقاطعة. ففي البحرين والكويت وعمان وقطر، منحت السلطات الإذن بتنظيم تظاهرات مناهضة للحرب ومتضامنة مع فلسطين، وهذه التحرّكات نراها منذ بدء العدوان على غزة. بدورها، عمدت الجماعات المناهضة للتطبيع وحركات المقاطعة في هذه البلدان إلى تكثيف جهودها لتزخيم حملات المقاطعة القائمة والجديدة. وبالفعل، نرى فروعاً لمكدونالدز وستاربكس شبه خالية في معظم الأوقات. وتفيد معطيات بأنّ التظاهرات الشعبية الواسعة في عمان أجبرت حكومتها على إعادة النظر في علاقاتها مع الكيان الصهيوني وتبنّي موقف نقدي منه.

إذا استثنينا التوجّه اليمني الشجاع لقطع خطوط الشحن، فإنّ أبرز التدابير التي عمّت بلدان الخليج مُناهضةً للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق غزة تمحورت بشكل كبير حول المقاطعة

في البحرين، فصلت إحدى المستشفيات الخاصة أحد موظّفيها الأجانب من العمل على خلفية مشاركته تغريدة لمؤثر سعودي صهيوني والتعبير عن دعمه للعدوان الصهيوني على غزة. وفي الكويت، فُصِلت ممرضتان أجنبيتان من عملهما وتم ترحيلهما لمخالفة القانون الكويتي على إثر إبداء دعمهما للكيان الصهيوني في عدوانه على غزة. أمّا إمارة الشارقة فمنعت احتفالات رأس السنة الميلادية تضامناً مع غزة. في المقابل، نظّمت البحرين أكبر عرض للألعاب النارية في تاريخها في المنامة والمحرق. وتعرّض مؤثّر بحريني لانتقادات من جانب مواطنين خليجيين على تويتر («إكس») فيما أبدى آخرون تضامنهم معه على خلفية نشره مقطع فيديو يحمل فيه لافتة كتب عليها: «عام جديد، لا أتمنى سوى وقف المجزرة» على وقع ألعاب نارية في برج خليفة في دبي.

الشعب يريد…

يبدو الجو مخنوقاً، ففي بعض الأماكن مثل دبي والسعودية والبحرين، تجري المقاطعة من دون ذكر اسمها خوفاً من التداعيات التي ستُفصّلها السلطات بحسب الطبقة التي ينتمي إليها الشخص وطائفته وجنسه وجنسيّته. وقد أُطلق سراح أحد أهم النشطاء السياسيين وأكثرهم شعبية في البحرين، إبراهيم شريف السيد، بتاريخ 27 كانون الأول/ديسمبر إثر حبسه على ذمّة التحقيق من النيابة العامة بتهمة «إذاعة أخبار كاذبة في زمن الحرب». وثّقت هيومن رايتس ووتش (على الرغم من المآخذ والشكوك المثارة حولها) اعتقال أكثر من 50 شخصاً – بما فيهم قُصّر – واستجوابهم على خلفية مشاركتهم في احتجاجات غير مصرّح لها في قرى بحرينية.  

في الشهر الماضي، استوقف مواطن سعودي أصدقائي في إحدى العواصم الأوروبية بعد أن رأى أحدهم مرتدياً الكوفية وألقى على مسامعهم بيت قصيدة داعماً لفلسطين. وحين سأله أحد أصدقائي بنبرة شبه جادة عمّا إذا كانت هناك تحرّكات شعبية في السعودية، قال لا بنبرة تنمّ عن يأس ولامبالاة كأنّه أمر مستحيل. ما هي الأسلحة التي أنتجناها واستخدمناها، نحن كشعوب، في الماضي القريب؟ كيف تم تدمير حراكنا وأسلحتنا، أو كيف تخلينا عنهما، بحيث لم يبقَ لنا سوى صوت الشارع العربي؟ والآن، على الرغم من صراخنا، فإن صوتنا الجماعي لا يهزّ الجدران أو الأرض تحت القوى العنيفة التي ترتكب وتدعم الجرائم في فلسطين. هذه أمور علينا التفكير فيها بعد أن تضع الحرب أوزارها بينما نواصل حملاتنا ضد الاستعمار الصهيوني لفلسطين والتطبيع معه.

وعلى أي حال، ثمة صدي قوي لشعار «الشعب يريد» في شوارع البحرين اليوم.