استنفاد الأسر اللبنانية لسبل التكيّف في ظل الأزمة
مستوى المعيشة في الحضيض
في الجلسة النيابية العامة لمناقشة موازنة العام 2024 في كانون الثاني/يناير الماضي، قال رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي إن «الحكومة أوقفت الانهيار وبدأنا مرحلة التعافي». وفي السياق نفسه، قدّم حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري السياسات الانكماشية التي يعتمدها بوصفها آلية لا بدّ منها لشراء الوقت، ولا سيما لجهة تقليص الكتلة النقدية وتجفيف الليرة من التداول وتعميم الدولرة بحجّة استعادة الاستقرار النقدي. ويسترشد بعض «الخبراء» بسلسلة من المؤشّرات الرقمية مثل فاتورة الاستيراد المرتفعة كدليل إلى عودة الاستهلاك إلى مستويات ما قبل انفجار الأزمة في أواخر العام 2019… طبعاً، هناك لائحة طويلة من الأمثلة والتصريحات التي تهدف إلى قول شيء واحد: إن الأزمة ليست إلا محطّة قطعناها ونحن في الطريق إلى التعافي، ولا شيء يستدعي القيام بأي عمل استثنائي.
ولكن ماذا عن أحوال الناس في لبنان؟ هل تخطوّا الأزمة؟ ولماذا لا تحظى أكثرية الأسر التي جرفتها الأزمة إلى براثن الفقر والحرمان بأي اهتمام من قبل المسؤولين الحكوميين و«الخبراء»؟
في آذار/مارس الماضي، تم نشر تقرير تحت عنوان «تقييم الاحتياجات المتعدّدة للأسر اللبنانية»، وهو عبارة عن دراسة بالعينة أجرتها منظّمة Reach مع مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. صحيح أن المنهجية التي اعتمدتها الدراسة ليست تمثيلية بشكل كافٍ، فهي تشمل نحو 3,642 أسرة فقط من مختلف المناطق اللبنانية، وتستثني أقضية النبطية ومرجعيون وبنت جبيل وبعبدا (الضاحية الجنوبية لبيروت)، التي تضمّ نسبة وازنة من السكان، ولكن القيود الأمنية المفروضة في هذه الأقضية لم تسمح بإجراء الاستطلاع فيها، كذلك لا تشمل هذه العينة اللاجئين السوريين الذين يشكّلون ما لا يقل عن ربع المقيمين في لبنان. ومع ذلك، توفّر هذه الدراسة بيانات ومعلومات عن أوضاع الأسر اللبنانية تبيّن أن الأزمة ما زالت تستفحل ولم يعد لدى هذه الأسر المزيد من الهوامش للتكيّف، فشراء الوقت يدمّر مستوى معيشتها والتعافي المزعوم ينهش حاضرها ومستقبلها.
في مواجهة تدنّي المداخيل وتراجع فرص العمل يلجأ العديد من الأسر اللبنانية إلى آليّات مختلفة من أجل التكيّف. والتكيّف تعريفاً هو القدرة على الاستجابة للمؤثّرات الطارئة واعتماد سلوك يواكب المتغيّرات بهدف البقاء. وبالفعل، تكيّف المجتمع اللبناني مع الأزمة التي بدأت بانكشاف الإفلاس المصرفي وانهيار العملة والأجور الحقيقية وأنظمة الحماية الاجتماعية والخدمات العامّة، وذلك عبر الهجرة لمن وجد إليها سبيلاً، وقد بلغ عدد هؤلاء نحو 500 ألف شاب وشابة بين عامي 2019 و2023 بحسب بيانات الأمن العام اللبناني، وأيضاً بتراجع المستوى المعيشي للجزء الغالب ممن بقوا والتقشّف في الإنفاق على الحاجات والخدمات الأساسية مثل الغذاء والصحة والتعليم.
59% من الأفراد في الأسر اللبنانية عاطلون عن العمل
تفيد البيانات أنه في الأيام السبعة التي سبقت جمع المعلومات كان 59% الأفراد في الأسر اللبنانية عاطلون عن العمل وغير منخرطين بأي نشاط مدرّ للدخل. هذه النسبة مرتفعة جداً بكلّ المعايير، وتعبّر بجزء منها عن طبيعة سوق العمل في لبنان وعدم جاذبيته نظراً لعدم قدرة الوظائف المتاحة على توفير دخل مناسب لكفاية معيشتهم ولعدم تناسق هذه الوظائف مع مكتسباتهم العلمية. وبالفعل، أشارت الأسر المستجوبة إلى أن العوائق الأساسية التي تحول دون انخراط أفرادها في العمل هي نقص الوظائف المتاحة كسبب أول، تليها بُعد أماكن العمل عن أماكن السكن بالتوازي مع ارتفاع كلفة النقل، فضلاً عن تفضيل أصحاب العمل العمالة المتدنية الكلفة.
في المقابل، تشير الدراسة إلى أن 35% من الأفراد يعملون لدى شخص آخر مقابل أجر بالمقارنة مع 38% في العام 2022. فيما 10% يشاركون في أنشطة أخرى مُدرّة للدخل مثل الزراعة أو المساعدة في أعمال الأسرة، بالمقارنة مع 6% في العام 2022. فيما 3% يعتمدون بشكل حصري على التحويلات النقدية الآتية من أحد أفراد الأسرة العاملين في الخارج.
422 دولاراً متوسط دخل الأسر اللبنانية
بلغ متوسط دخل الأسر اللبنانية المستجوبة نحو 422 دولاراً، علماً أن 16% من الأسر يقل دخلها عن 100 دولار أميركي. ويعد هذا الدخل منخفض بالمقارنة مع الحاجات المبلغ عنها والنفقات المقدّرة التي يبلغ متوسط 1,115 دولاراً شهرياً.
تفيد النسبة الأكبر من الأسر اللبنانية (92%) إلى أن دخلها غير كافٍ لسدّ حاجاتها الأساسية، وأبرزها النفقات الصحّية (64% من الأسر)، والغذاء (51%). ويعود ذلك بشكل أساسي إلى انخفاض الرواتب والأجور بالنسبة لـ59% من الأسر، والافتقار إلى العمل (44%)، ودفع رواتب ثابتة بالليرة (5%). ومن أجل تأمين حاجاتها غير الملبّاة تلجأ نسبة كبيرة من الأسر إلى الاستدانة والاقتراض. تفيد 63% من الأسر إلى أن ديونها تتجاوز 100 دولار، وفيما متوسّط الديون المتراكمة لدى 21% من الأسر اللبنانية يبلغ 988 دولاراً.
10% من الأسر اللبنانية عاجزة عن تأمين غذاء منوّع وكافٍ
تفيد الدراسة أن 10% من الأسر اللبنانية المستجوبة لا تستطيع تأمين غذاء كافٍ لأفرادها أو تنويعه، ويتبيّن أيضاً أن 8% من الأسر اللبنانية تعاني من درجة ما من انعدام الأمن الغذائي.
بحسب إدارة الإحصاء المركزي، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 23574% بين تشرين الأول/أكتوبر 2019 وآذار/مارس 2024، في حين أن القيمة الفعلية للأجور وقدرتها الشرائية تدهورت بشكل كبير. وإزاء هذا الواقع، لجأت 76% من الأسر المستجوبة إلى طريقة ما لتأمين الغذاء مثل خفض الإنفاق على الصحة وهي الآلية التي اعتمدتها 26% من الأسر، أو بيع أصولها مثل السيارات ووسائل التنقل (10% من الأسر)، أو بيع أرض أو بيت (4%)، أو حتى القبول بعمل بظروف استغلالية وخطرة (3%). ولم تكن هذه الآليات كافية لسدّ نقص الغذاء بالنسبة للعديد من الأسر، إذ عمدت 65% منها إلى تعديل نمط استهلاكها من الغذاء مثل تناول طعام أقل جودة وكلفة، والحد من كمّيات الوجبات اليومية، أو تقليل عدد تلك الوجبات، وصولاً إلى الاعتماد على المساعدات للحصول على الطعام.
70% من الأسر اللبنانية لا تملك أي تغطية صحّية
قدِّر عدد الذين بحاجة إلى رعاية صحية في لبنان بنحو 3.7 مليون شخص في كانون الثاني/يناير 2023، من ضمنهم مليوني لبناني من «الفئات الضعيفة». إلى ذلك، تفيد البيانات المستخرجة من المسح بالعينة الذي أجرته Reach مع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن 28% من الأفراد كانوا بحاجة إلى رعاية صحية في الأشهر الثلاثة السابقة لجمع البيانات، وكان أكثر من ربعهم (26%) غير قادرين على الحصول على الرعاية التي يحتاجون إليها.
70% من الأسر صرّحت أنها لا تنعم بأي تغطية من أي نوع من التأمين الصحي، بزيادة ملحوظة من 59% في العام 2022، و49% قبل الأزمة، في مقابل 10% من الأسر لديها تأمين خاص، و12% تعتمد على تغطية وزارة الصحة أو الجيش والقوى الأمنية. وهذا الواقع ينعكس بإضعاف قدرة تلك الأسر على تحمّل تكاليف الرعاية الصحية وشراء الأدوية التي دولرت أسعارها. وبالفعل من ضمن الأسر التي لديها حاجات صحية غير ملبّاة، تشير 79% منها إلى كلفة الدواء والاستشارات الطبية المرتفعة كسبب رئيس، في مقابل 11% من الأسر التي تفيد بعدم توافر الدواء المطلوب.
4% من الأطفال في سن الدراسة لم يلتحقوا بالعام الدراسي 2022-2023
يظهر المشهد التعليمي في خلال العام الدراسي 2022-2023 العديد من الاتجاهات المثيرة للقلق. ففي ظل تدهور التعليم الرسمي في لبنان، تزيد اللامساواة في الحصول على التعليم وظروف متكافئة للمستقبل، مما يعيد إنتاج الطبقات نفسها ويحدّ من الانتقال الاجتماعي. وفقاً للبيانات المجمّعة في الدراسة المذكورة، فإن 4% من الأطفال اللبنانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عاماً لم يلتحقوا بالتعليم الرسمي. ولوحظ أعلى معدل لعدم الالتحاق في منطقة طرابلس (18%). وتشمل أسباب عدم الالتحاق ارتفاع تكلفة التعليم (30%)، أو انخراط الأطفال في العمل (16%)، أو الإضرابات التي تؤثر على الالتحاق بالمدارس (14%). وبعد تسجيل موجة انتقال من التعليم الخاص إلى التعليم العام في بداية الأزمة، تبيّن الأرقام الحالية أن 51% من التلاميذ المسجلين في العام 2022-2023 التحقوا بالمدارس الخاصة و44% بالمدارس العامة، بسبب تدهور التعليم العام وتراجع الإنفاق عليه.
133 دولاراً متوسط إيجار المنزل
تفيد 70% من الأسر بأنها تعيش في بيوت تملكها، وتبقى نسبة 19% من الأسر تعيش في مساكن مستأجرة، والنسبة الباقية في بيوت مصادرة. ومن الأسر المستأجرة، فإن 74% يدفعون الإيجار بالدولار الأميركي. وقد أفادت كلّ الأسر المستأجرة بأن قيمة الإيجار ارتفعت بمتوسط 69 دولاراً في عام واحد. وحالياً يبلغ متوسط الإيجار نحو 133 دولاراً شهرياً، أي 31.5% من متوسط أجر هذه العينة.
ومع أن إيجار المأوى يستنزف جزءاً وازناً من دخل الأسرة، فإنه لا يستوفي أيضاً شروط السكن السليم. تفيد 42% من الأسر عن وجود مشكلة واحدة على الأقل في المأوى، مثل تضرر السقف أو تعفّن الجدران والأرضيات.
9% من الأسر تعجز عن تأمين مياه الشرب
تنفق الأسر اللبنانية نحو 5% من دخلها للحصول على المياه، وهو ما يزيد عن النسبة الموصى بها والمقدّرة بـ3%. بين كانون الثاني/يناير 2021 وأيلول/سبتمبر 2023، ارتفعت أسعار المياه المعبأة بنسبة 16% بقيمتها بالدولار، وبنسبة 2598% بقيمتها بالليرة. وتعد المياه المعبأة مصدر مياه الشرب الأساسي لنحو 54% من الأسر المستجوبة، في مقابل اعتماد النسبة الباقية على المياه المنقولة عبر الأنابيب أو المعبأة من الينابيع والآبار. مع ذلك، تبقى 9% من الأسر عاجزة عن تأمين مياه الشرب إما بسبب كلفتها أو اهتراء شبكة الأنابيب، فيما 18% من هذه الأسر تعاني من نقص المياه للاستخدام الشخصي، و21% للاستخدام المنزلي.
17% من نفقات الأسرة تذهب لتأمين الكهرباء
تستحوذ كلفة الكهرباء على 17% من مجمل نفقات الأسرة. وتُعدّ هذه النسبة مرتفعة جداً، وقد نتجت عن دولرة أسعار الطاقة منذ صيف 2022 وإلغاء الدعم، وعلى الرغم من تراجع التغطية الكهربائية لمؤسسة كهرباء لبنان، لكنها لا تزال المصدر الرئيس للتزوّد بالكهرباء بالنسبة لنحو 90% من الأسر المستجوبة، إلا أن نقص التغذية على هذه الشبكة يدفع نحو 67% من الأسر للاشتراك مع مولّد الحيّ فتضطر لتحمّل الكلفة الباهظة للحصول على الكهرباء، فيما تشكّل الطاقة الشمسية مصدراً لنحو 22% من الأسر. علماً أن متوسط التغذية الكهربائية اليومية بلغ نحو 17 ساعة.
30% من الأسر لا تجمع نفاياتها بانتظام
في الشهر السابق لجمع البيانات، أبلغ 30% من الأسر المستجوبة عن عدم جمع نفاياتها الصلبة بانتظام، ما أدّى إلى تراكم النفايات في مواقعها. وهو إن دل فعلى تراجع نوعية البيئة التي تعيش فيها الأسر في لبنان، والتي تشكل مخزناً لتفشّي الأوبئة والأمراض.