معاينة ski

الناتج المحلي الإجمالي لا يعكس مستوى الرفاه الاجتماعي

اعتمدت الحكومات والاقتصاديون وصنّاع السياسات على الناتج المحلي الإجمالي باعتباره المؤشّر النهائي لتطوّر المجتمعات. وارتكزت على فرضية أن زياد الرفاه الاجتماعي يأتي نتيجة ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي. وعلى الرغم من تحقيق دول كثيرة أرقاماً قياسية في الناتج المحلي الإجمالي، لا يزال الملايين من البشر يعانون من الفقر وتدهور في الصحة النفسية وانعدام الأمان الوظيفي وأزمات بيئية. فلو كان النموّ الاقتصادي يؤدي إلى الازدهار، لماذا يخفق غالباً في تأمين حياة أكثر سعادة وصحة؟ وهل يُعَد الناتج المحلي الإجمالي مقياساً متقادماً للنجاح؟

تشير أبحاث حديثة إلى إمكانيّة تحسين رفاه المجتمعات من دون الحاجة إلى توسّع اقتصادي دائم. ويقدّم مقال نُشِر في مجلّة «ذا لانسيت» (The Lancet) نظرة عامة لخبراء بارزين في مجال «ما بعد النمو»، كلٌّ منهم متخصّصٌ في جانب معيّن من هذا التوجّه. ما يضعنا أمام استحقاق إعادة النظر فيما يجعل الحياة أفضل فعلاً، وما إنْ كُنّا بحاجة إلى تغيير أولوياتنا من توسيع الاقتصاد إلى تحسين رفاه الإنسان.

أصول اعتماد الناتج المحلي الإجمالي كمقياس للتقدّم

في خضمّ الفوضى التي خلّفها الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، احتاجت الحكومات وسيلة لقياس النشاط الاقتصادي وتوجيه خطط التعافي وحشد الموارد المتاحة للحرب. وهنا برز الناتج المحلي الإجمالي كأداة بسيطة وفعّالة لتتبّع القيمة الإجمالية للسلع والخدمات المُنتجة داخل حدود أي بلد. لم يكن الهدف من استخدام الناتج المحلي الإجمالي يوماً أن يكون مقياساً لنجاح الدول، بل وسيلة لتقييم الناتج الاقتصادي فحسب.

حذّر مهندس الناتج المحلي الإجمالي، الاقتصادي سيمون كوزنتس، مبكّراً من استخدامه كمؤشّر شامل للتقدّم. ففي ثلاثينيات القرن الماضي، نبّه قائلاً: «لا يمكن استنتاج رفاهية أمّة ما من خلال مجرد قياس دخلها القومي». لكن مع احتدام الحرب الباردة، أصبح الناتج المحلي الإجمالي أكثر من مجرّد رقم، وبات أشبه بحلبة تسابق في المعركة الأيديولوجية بين الرأسمالية والشيوعية. سارعت الدول لإثبات تفوّقها الاقتصادي من خلال النموّ المتواصل، وتحوّل الناتج المحلي الإجمالي إلى المؤشّر الأوّل للنجاح.

عندما يتوسّع الاقتصاد وتنمو ثروات الأغنياء، حكماً سيصل بعضاً منها إلى الفقراء، ما سيرفع من مستوى رفاههم لكن دون أن يؤدي ذلك إلى مساواة أو عدالة في توزيع الثروة نفسها

وبمرور الوقت، رسم التركيز الضيّق على الناتج المحلي الإجمالي مسار القرارات السياسية حول العالم. إذ بدأت الحكومات بإعطاء الأولوية للنمو الاقتصادي بأيّ ثمن، مفترضة أنّ التوسّع الاقتصادي سيؤدّي تلقائياً إلى حياة أفضل لمواطنيها. وتكمن هنا ضمنياً نظريّة تساقط الثروة فعندما يتوسّع الاقتصاد وتنمو ثروات الأغنياء، حكماً سيصل بعضاً منها إلى الفقراء، ما سيرفع من مستوى رفاههم لكن دون أن يؤدي ذلك إلى مساواة أو عدالة في توزيع الثروة نفسها.

لكن، وكما نرى اليوم، لا يحتّم زيادة الإنتاج والاستهلاك بالضرورة سعادة أكبر أو عدالة أوسع أو استدامة أشمل. ومع تزايد تغيّر المناخ واتساع الفجوة الاجتماعية وأزمة الصحة النفسية، يرى كثير من الخبراء أنّ الوقت قد حان لإعادة النظر في افتتاننا بالناتج المحلي الإجمالي، والبحث عن بديل أفضل لقياس ما هو حقّاً مهم.

لماذا لا يعني النموّ دائماً تحسُّن الرفاه؟

عندما يقفز الناتج المحلي الإجمالي لدولةٍ ما، هل يعني ذلك أنّ شعبها ينعم بحياة مزدهرة؟ ليس بالضرورة. صحيحٌ أنّ النمو الاقتصادي انتشل عبر التاريخ ملايين البشر من براثن الفقر، ولكن برهنت الأبحاث أن عندما يفوق الناتج المحلي 15,000 دولار الفرد (وهو الرقم الكافي لتحقيق كل الحاجات الاجتماعية الأساسية من طبابة وتعليم وغذاء ونظافة) تنخفض قدرة النمو الاقتصادي على زيادة مستوى السعادة والرفاه في المجتمعات.

وبرهنت الدراسات في الدول المرتفعة الدخل الفصل بين ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي وتحقيق سعادة أكبر أو صحة أفضل أو مجتمعات أقوى. على سبيل المثال، شهدت الولايات المتحدة واليابان اتّساعاً في اقتصادهما لعقود طويلة، لكنهما لا تزالان تواجهان تدهوراً في الصحة النفسية، وتفاقماً في انعدام المساواة، وتدهوراً بيئياً. لقد تضاعف الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة منذ سبعينيات القرن العشرين، ومع ذلك بالكاد نلاحظ أيّ تحسّن في مؤشّرات الرضا عن الحياة.

ما المشكلة إذاً؟ يقيس الناتج المحلي الإجمالي الكمّ لا الكيف. فهو يرصد كل النشاطات الاقتصادية، سواء كانت جيدة أم سيّئة. فقد يشهد بلدٌ ما ارتفاعاً في ناتجه المحلي الإجمالي إذا ضربته كارثة طبيعية تطلبت جهود إعادة إعمار واسعة، ولكن هل يعني ذلك بالضرورة أنّ حياة الناس قد تحسّنت؟ كما أنّ زيادة الإنفاق على الرعاية الصحية لا تعني سوى أنّ مزيداً من الناس قد مرِضوا، فهل ينبغي اعتبار ذلك علامة تقدّم؟ فضلاً عن ذلك، يُهمل الناتج المحلي الإجمالي الأعمال غير المدفوعة الأجر مثل الرعاية المقدمة من أفراد العائلة ولا سيما النساء والأعمال التطوعية، وهي جوهرية في المجتمع لكنها لا تُسهم في النمو الاقتصادي المباشر.

يشجّع الناتج المحلي الإجمالي أيضاً على التوسّع بلا حدود مهما كان الثمن. فلتأمين نموّ متواصل للاقتصاد، تمضي الدول في دفع عجلة الإنتاجية والاستهلاك والمخرجات الصناعية، وغالباً على حساب الرفاه النفسي والتوازن بين العمل والحياة

إلى جانب عيوبه تلك، يشجّع الناتج المحلي الإجمالي أيضاً على التوسّع بلا حدود مهما كان الثمن. فلتأمين نموّ متواصل للاقتصاد، تمضي الدول في دفع عجلة الإنتاجية والاستهلاك والمخرجات الصناعية، وغالباً على حساب الرفاه النفسي والتوازن بين العمل والحياة والحفاظ على البيئة. يدفع هذا الواقع نحو ثقافةٍ من الإفراط في العمل والقلق المالي واستنزاف الموارد، ليولد حلقة مفرغة يصبح فيها النموّ هدفاً بذاته بدلاً من أن يخدم ازدهار البشر.

ومع تعاظم التحدّيات العالمية كالتغيّر المناخي وانعدام المساواة، يجادل الكثير من الاقتصاديين بضرورة تجاوز الناتج المحلي الإجمالي باعتباره المعيار الذهبي للتقدّم. وبدلاً من الركض خلف نموّ لا متناهٍ، علينا طرح سؤالٍ أساسي: كيف نبني اقتصادات تركّز على رفاه الإنسان والاستدامة والمساواة عوضاً عن مجرد التوسّع المالي؟

سياساتٌ تفضّل الرفاه على النموّ

إذا كان النموّ الاقتصادي وحده لا يضمن لنا حياةً أفضل، فكيف يمكن للحكومات أن تعيد صياغة أولوياتها؟ ماذا لو تخلّينا عن ملاحقة نموّ الناتج المحلي الإجمالي، وركّزنا بدلاً من ذلك على سياسات ترفع مستوى الرفاه مباشرةً؟

في شتّى أنحاء العالم، يسعى اقتصاديون وصنّاع سياساتٍ إلى تصميم نماذج اقتصادية تخدم الناس، بدلاً من إرغام الناس على خدمة الاقتصاد. ترتكز هذه النماذج على نوعيّة الحياة والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية، من دون الارتهان لفكرة التوسّع الاقتصادي اللانهائي.

الخدمات الأساسية الشاملة: بدلاً من الاعتماد على نموّ الدخل لتحسين مستويات المعيشة، يمكن للحكومات ضمان توفير خدماتٍ أساسية للجميع مثل الرعاية الصحية والتعليم والمواصلات العامة والإسكان. تحتل البلدان التي توفّر خدماتٍ عامة قوية، مثل الدول الاسكندنافية وهولندا، مراكز متقدّمة في قوائم السعادة والرفاه. ويؤدّي ضمان هذه الخدمات إلى الحدّ من الضغط المالي وتحسين جودة الحياة بشكلٍ عام.

خفض ساعات العمل: ارتفعت الإنتاجية بشكل هائل في كثير من الدول المرتفعة الدخل، لكن الناس لا يزالون يعملون لساعات طويلة مع وقت فراغ محدود. وقد حاولت بعض البلدان، مثل ألمانيا وهولندا، نماذج تقليص أسبوع العمل، فوجدت أنّ تخفيض عدد الساعات يزيد من السعادة والصحة النفسية، بل ويرفع الإنتاجية أيضاً. ومع اكتساب فكرة أسبوع العمل لأربعة أيام زخماً متزايداً، يُعَد ذلك وسيلةً لتحسين التوازن بين الحياة والعمل من دون التضحية بالاستقرار الاقتصادي.

إعادة توزيع الثروة: بينما يقيس الناتج المحلي الإجمالي مقدار الثروة الإجمالية، لا يعكس في المقابل من يستفيد منها. ففي كثيرٍ من البلدان، تتركّز مكاسب الاقتصاد لدى قلّة من الأثرياء، فيما يعاني الملايين من ركود الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة. لذلك، يمكن لسياسات مثل فرض الضرائب التصاعدية، أو الدخل الأساسي الشامل، أو تعزيز حقوق العمّال، أن تساعد في تقاسم ثمار الازدهار، ما يخفّض من معدلات الفقر ويحدّ من الشعور بانعدام الأمان المالي.

يسعى اقتصاديون وصنّاع سياساتٍ إلى تصميم نماذج اقتصادية تخدم الناس، بدلاً من إرغام الناس على خدمة الاقتصاد. ترتكز هذه النماذج على نوعيّة الحياة والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية، من دون الارتهان لفكرة التوسّع الاقتصادي اللانهائي

الاستدامة البيئية: عادةً ما يقترن النموّ الاقتصادي بزيادةٍ في استخراج الموارد والتلوث وانبعاثات الكربون. وبدلاً من قياس النجاح من خلال نموّ الناتج المحلي الإجمالي، يمكن للحكومات التحوّل نحو مؤشراتٍ بيئية، لضمان بقاء النشاط الاقتصادي ضمن الحدود الكوكبية. إن اعتماد ضرائب الكربون وإعادة توزيع عائداتها، والاستثمار في الانتقال العادل إلى أنماط اقتصادية تراعي البيئة وتبنّي نموذج الاقتصاد الدائري يتيح خلق فرص عمل جديدة وحماية البيئة لأجيال المستقبل.

ليست فرضيّة «نموّ الاقتصادات الدائم أو الانهيار» سوى قرار تم بناء أسس الاقتصادات عليه، ويمكن أخذ قرارات معاكسة له. فكلّما ازدادت المجتمعات ثراءً كلّما ارتفعت قدرتها على الانتقال من منطق التوسّع إلى منطق الاستقرار والرفاه. تعمل بعض الحكومات مثل نيوزيلندا على تحقيق هذه النقلة النوعية عبر الاستثمار في الصحة النفسية والدعم الاجتماعي وحماية البيئة بدلاً من السعي الدائم لتعظيم الناتج المحلي الإجمالي.

ومع ما يواجهه العالم من تحدّيات مثل تغيّر المناخ وانعدام الأمن والمساواة والبطالة، علينا الإجابة على السؤال التالي: أيّ اقتصاد نريد؟ من خلال إعطاء الأولوية للسياسات التي ترفع مستوى الرفاه عوضاً عن النموّ، يمكننا بناء مجتمعات لا يكتفي أفرادها بالصمود فحسب، بل يعيشون حياة رفاه فعليّة.