Preview الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص أدنى من خط الفقر المدقع

الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص أدنى من خط الفقر المدقع

اتفقت لجنة مؤشّر غلاء المعيشة، وهي الإطار النظامي لمناقشة سياسة الأجور في القطاع الخاص في لبنان، على زيادة الحد الأدنى للأجور من 9 ملايين ليرة (نحو 100 دولار أميركي) إلى 18 مليون ليرة (نحو 200 دولار). وسيدخل هذه الاتفاق حيز التنفيذ في خلال الأسابيع القليلة المقبلة. ولم يشمل الاتفاق آلية زيادة شطور الأجر الأخرى التي تتجاوز الحد الأدنى للأجور، في استجابة لمسعى قديم تقوم به هيئات أصحاب العمل لمنع التدخّل في تصحيح الأجور وحصره بتحديد الحد الأدنى فقط.

وفق تصريحات رئيس الاتحاد العمّالي العام، بشارة الأسمر، فإن أجور جميع العمّال والعاملات في القطاع الخاص ستزداد بقيمة 9 ملايين ليرة، أي بقيمة الحد الأدنى للأجور، ولكن هذه الزيادة المقطوعة، وبمعزل عن مدى التزام أصحاب العمل بها، تستكمل سياسات تقويض الأجر الحقيقي عبر تخفيض الأجر الوسطي إلى مستوى قريب من الحدّ الأدنى.

زيادات الأجور لا تلحق بالتضخّم

تحديد الحد الأدنى الجديد بقيمة 200 دولار تقريباً يعني أنه لم يعد يساوي سوى 45% تقريباً من قيمته (450 دولار) في الفترة الممتدة بين عامي 2012 و2019. ويترافق هذا التخفيض لقيمة الحدّ الأدنى بالدولار مع ظاهرة التضخّم بالدولار، سواء التضخمّ المستورد أو التضخم الناتج عن الاحتكار الداخلي، أي أن القدرة الشرائية لـ200 دولار هي اليوم أقل بكثير عمّا كانت عليه قبل انتشار وباء كوفيد-19.

منذ آخر معركة لتصحيح الأجور في القطاع الخاص في العام 2012، كانت الأجور الحقيقية تتآكل بفعل التضخّم، وحتى قبل انهيار العملة في أواخر العام 2019. وفق إدارة الإحصاء المركزي، بلغ معدّل التضخّم التراكمي بين عامي 2013 و2023 نحو 647.8%، إلا أن الحد الأدنى للأجور بقي من دون أي تعديل حتى بداية  نيسان/أبريل 2022، أي يقي مُجمّداً بقيمته الاسمية بالليرة لمدّة 10 سنوات، وارتفع الحد الأدنى في هذه الفترة من 675 ألف ليرة (نحو 450 دولار) إلى 2 مليون ليرة (71 دولار)، أي أنه ازداد بالليرة 3 أضعاف في حين أن سعر الدولار تضاعف أكثر من 18 ضعف، فبعد أن كان الدولار الواحد يساوي 1,500 ليرة قبل الانهيار أصبح يساوي نحو 28 ألف ليرة عند إقرار الزيادة في نيسان/أبريل 2022. 

أتت الزيادة الثانية للحد الأدنى للأجور بعد سنة من الزيادة الأولى، في نيسان/أبريل 2023، إذ تقرّر إعطاء جميع العمّال والمستخدمين زيادة مقطوعة بقيمة 6 ملايين و400 ألف ليرة لبنانية، فارتفع الحد الأدنى للأجور إلى 9 ملايين ليرة لبنانية، أي باتت قيمته الاسمية بالليرة تساوي 13 ضعف قيمته قبل الانهيار في العام 2019، في حين ارتفع سعر الدولار أكثر من 62 ضعفاً في الفترة نفسها. 

لم يتقرّر أي تعديل على الحد الأدنى للأجور طيلة السنة الماضية، على الرغم من أن قيمته الشرائية لا تساوي 100 دولار، أو 3 دولارات تقريباً للعيش في اليوم الواحد، وبالتالي لم يعد يساوي حتى خطّ الفقر المدقع، ولا يوفّر أي حماية لا في العمل النظامي ولا في العمل اللانظامي.

يُلزم القانون في لبنان «أن يكون الحد الأدنى للأجر كافياً ليسدّ حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته...». لقد جرى خرق القانون دائماً، إلا أن ما يحصل منذ بداية الانهيار النقدي والمصرفي في العام 2019 يفوق بوقاحته كل ما حصل في المراحل السابقة، ففي الوقت الذي يتعرّض فيه العاملون والعاملات بأجر لأكبر هجوم يستهدف مستوى معيشتهم، يفتقد هؤلاء لأي تنظيم أو قوة تفاوضية وتُترك الساحة لأصحاب رأس المال ليقرّروا وحدهم مستوى الأجور.

منذ انفلات موجة التضخّم المستمرة (2020-2023) ظهر اتجاه واضح لإطالة أمد المعادلة الجارية: أسعار أعلى + أجور أقل. تُظهر أرقام الإحصاء المركزي هذه المعادلة بوضوح، ففي الوقت الذي تم فيه رفع القيمة الاسمية بالليرة للحد الأدنى للأجور من 675 ألف ليرة في نهاية العام 2019 إلى 9 ملايين ليرة حالياً (قبل دخول الزيادة الجديدة حيز التنفيذ في الشهر المقبل على الأرجح)، أي بنسبة 1,233% تقريباً، كان الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك الذي تضعه إدارة الإحصاء المركزي قد ارتفع من 108.85 نقطة في أيلول/سبتمبر 2019 إلى 6,149.5 نقطة في كانون الثاني/يناير 2024، أي أن متوسط كلفة سلة الاستهلاك لأسرة وسطية مقيمة في لبنان قد ارتفع بنسبة 5,549.5%، ما يعني أن الأجور الاسمية ارتفعت بما يوازي 22% فقط من الزيادة على الأسعار، وسيكون هذا الحساب أكثر فداحة إذا اقتصرت المقارنة على احتساب زيادة أسعار المواد الغذائية التي تشكّل الحصة الأكبر من استهلاك أسر الطبقة العاملة الفقيرة، إذ سجّل الرقم القياسي لأسعار استهلاك الغذاء ارتفاعاً في الفترة نفسها بنسبة 22,872%، أي أن زيادة الحد الأدنى للأجور لا تمثّل سوى 5% تقريباً من نسبة الزيادة على أسعار الغذاء.

تدحض هذه الأرقام السردية الممجوجة عن أن زيادة الأجور تؤدي إلى ارتفاع الأسعار. بل على العكس من ذلك تبيّن أن الأسعار ترتفع بشكل كبير في حين تعجز الأجور عن مجاراة هذا الارتفاع أو حتى الاقتراب منه. أكثر من ذلك، كلما استمر التضخّم بالارتفاع الجنوني الذي تشهده البلاد منذ العام 2020 فإن الفجوة بين الأجور والأسعار سوف تستمر في التوسع.

لم تقترب زيادة الحد الأدنى للأجور الجديدة إلى نصف ما كان يطرحه رئيس الاتحاد العمّالي العام، الذي طالب بزيادته إلى 50 مليون ليرة، ثم عاد وخضع كعادته لقرار الهيئات الممثلة لأصحاب العمل، ووافق على زيادته إلى 18 مليون ليرة فقط، وبالتالي لن تصل قيمة الحد الأدنى الجديد إلى نصف الزيادة على أسعار الاستهلاك.  أما الزيادة الوازنة التي وعد بها وزير العمل مصطفى بيرم العاملين في القطاع الخاص، فقد أتت بوزن الريشة أمام أثقال التضخّم المرتفع وشكّلت خيبة أمل للقوى العاملة، لاسيّما الأكثر فقراً التي تشكّل الغالبية العظمى من العمّال، إذ أن العمّال غير النظاميين وحدهم يشكلون 62%، وهؤلاء غير معنيين بهذا الحديث كلّه، ولا شك أن خسائرهم أكبر بكثير، وهي لا تنحصر بالأجر النقدي بل تشمل أشكال الحماية القانونية والاجتماعية برمّتها.