من الوظيفة الدائمة إلى المياومة
تفتيت الأجور في القطاع العام
بعد أكثر من أربع سنوات على انهيار العملة وارتفاع الموجة التضخّمية المستمرّة، بقيت الأجور الحقيقية من دون أي تصحيح جدّي يعوّض خساراتها المؤلمة، ولا سيما في القطاع العام، حيث يعمل نحو 217 ألف رجل وامرأة، أكثريتهم الساحقة في الأسلاك العسكرية والأمنية والهيئات التعليمية، ويمثّلون نحو 13% من مجمل القوى العاملة اللبنانية. وعلى الرغم من الآثار السلبية التي يتركها هذا التلكؤ على مستوى معيشة الأسر والنشاط الاقتصادي ومسؤوليات الدولة، فإن النوايا الواضحة تذهب إلى تسويغ واحدة من أوسع الحملات المعادية لمصالح هذه الفئة، بهدف مواصلة تفكيك سلسلة الرتب والرواتب وشيطنة الوظيفة العامّة.
في هذا السياق، وبدلاً من تصحيح الأجور، أقرّ مجلس الوزراء أخيراً زيادة قيمة راتبين إضافيين للعاملين والعاملات في القطاع العام، ليصبح مجموع ما يتقاضونه 9 رواتب شهرياً. كما أقرّ بدل حضور يومي بين 8 و16 صفيحة بنزين، بمعدّل 1.5 مليون ليرة كسعر ثابت للصفيحة، أي زيادة شهرية تتراوح بين 12 مليون لموظّفي الفئة الخامسة، و24 مليون ليرة لموظّفي الفئة الأولى، لكن هذه الزيادة لا تستحق إلّا بعد إتمام الموظّف 14 يوم عمل فعلي في الشهر كحدّ أدنى. وأقرّ مجلس الوزراء أيضاً بدل «مثابرة» لموظّفي الإدارة العامة في حال أمّنوا حضوراً شهرياً كاملاً ووفق معايير إنتاجية سوف تحدّد لاحقاً.
تأتي هذه الزيادات في سياق سلسلة من الزيادات الترقيعية والاستنسابية، وتقدّم رئيسة رابطة موظّفي الإدارة العامة نوال نصر مثالاً فاقعاً عن هذه الاستنسابية. فتشير إلى أن معدّل دخل الموظّفين في الإدارة العامة من الفئة الرابعة يصل بعد مضاعفة الرواتب إلى 32 مليون ليرة، فيما يصل معدّل دخل المستخدمين في الجمارك من الفئة نفسها إلى 150 مليون ليرة. تبدو هذه الاستنسابية مرتبطة بالإدارات التي توفر إيرادات لصالح الخزينة، خصوصاً بعد الحديث الذي دار عن زيادة خاصّة لموظّفي المالية.
تعكس هذه الحالة الاستنسابية والترقيعية تصوّر صنّاع القرار للإدارة العامة باعتبارها مصدراً لتعزيز الإيرادات المالية لا للخدمة العامة. وتشكّل استجابة للجوقة الداعية إلى تصفية ما تبقى من دور للدولة عبر تحميل مسؤولية العجز لرواتب موظّفي القطاع العام، والتوظيف العشوائي غير المدروس وغير القانوني في العديد من الإدارات والأجهزة، وهدر مبالغ خيالية لهؤلاء.
تنفيذ قرار تصفية الإدارة العامة، لا يمكن تخيّله بقرار حكومي أو حتى بموجب قانون يحوّل 7,965 موظّفاً في الإدارة العامة من مختلف الفئات إلى عاطلين عن العمل، بالإضافة إلى نحو 18 ألف موظّفاً في الهيئة التعليمية وفق أرقام المسح الصادر عن مجلس الخدمة المدنية في الأول من أيلول/سبتمبر 2022. الطريقة الفضلى لتصفية الإدارة يمكن تخيّلها من خلال دفع الموظّفين لترك الوظيفة من خلال تفتيت رواتبهم.
رواتب الموظّفين انخفضت بين 63% و75%
في محاولة لفهم ما يحصل، تتبعنا أجر موظّفة في الإدارة العامة كمثال. ففي العام 2019، كان أساس راتبها يبلغ 2.65 مليون ليرة لبنانية أي ما يوازي 1,766 دولاراً أميركياً وفق سعر الصرف حينها. وتسهيلاً لهذه العملية لن نحتسب بدلات النقل وحسومات ضرائب الدخل وغيرها من الالتزامات.
على الرغم من انهيار سعر الصرف بدءاً في الفصل الأخير من العام 2019، بقي أساس راتب هذه الموظّفة من دون تصحيح حتى بداية العام 2022، ليرتفع إلى 2.83 مليون ليرة بعد زيادة الدرجة التي حصلت عليها، ويضاف إليه مساعدة اجتماعية مؤقتة توازي نصف الراتب ولا تقل عن 1.5 مليون ليرة، ليصل دخلها إلى 4.33 مليون ليرة فقط.
لاحقاً، في 28 تموز/يوليو 2022 صدر المرسوم رقم 9718، الذي رفع المساعدة الاجتماعية المؤقّتة من نصف راتب إلى راتب كامل، فارتفع دخل هذه الموظّفة إلى 5.83 مليون ليرة.
وفي نهاية العام 2023 توزّع دخلها على أساس الراتب البالغ 2.83 مليون، ومساعدة توازي 4 أضعاف هذا الراتب قيمتها 11.32 مليون ليرة، وبدل إنتاجية عن 14 يوم عمل قيمته 2.83 مليون، فأصبح مجموع ما تتقاضاه يصل إلى 16.98 مليون ليرة لبنانية، أي ما يوازي 190 دولاراً أميركياً.
عملياً، حتى نهاية العام 2023 انخفض دخل هذه الموظّفة بالقيمة الإسمية بالدولار من 1,766 إلى 190 دولاراً أميركياً، أي أنها أصبحت تتقاضى 10.8% من قيمة ما كانت تتقاضاه قبل 4 سنوات، على الرغم من غزارة مراسيم وقوانين المساعدات الاجتماعية (المرسوم 8737 في 28 كانون الثاني/يناير 2022، والمرسوم 8838 في 22 شباط/ فبراير 2022، والمرسومين 9718 و 9754 «بدل الإنتاجية» في تموز/يوليو 2022، وقانون الموازنة العامة رقم 10 في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، والمرسوم 11227 في العام 2023).
قرار مجلس الوزراء الجديد أبقى قيمة أساس الراتب على حالها، ليصبح مع المساعدة الاجتماعية يوازي 9 أضعاف الراتب، أي ما قيمته 25.47 مليون ليرة، يُضاف إليها بدل حضور يوازي 15 مليون ليرة في حالة الموظّفة المذكورة، أي أن قيمة الدخل ستصبح 40.47 مليون ليرة، وهو ما يساوي 452 دولاراً أميركياً، أي 25.6% من قيمة ما كانت تتقاضاه الموظّفة في العام 2019. وحتى لو افترضنا أن هذه الموظّفة عملت 21 يوماً كي تتمكّن من الحصول على بدل مثابرة، فإن مجموع ما سوف تتقاضاه لن يصل إلى 665 دولاراً أميركياً، أي ما يوازي 37.6% من قيمة ما كانت تتقاضاه.
الجدير بالذكر أن كل هذه القوانين والمراسيم التي صدرت لم تلحظ أي زيادة على أساس الراتب ولا على قيمة الدرجة، إذ انخفضت قيمة أساس الراتب بالدولار من 1,766 إلى 31.8 دولاراً أميركياً، أي أن قيمة أساس الراتب اليوم تساوي 1.8% من قيمته قبل 4 سنوات.
لا تقتصر الخسارة على سحق قيمة الراتب، في بلد تُقوّم أسعار جميع سلعه تقريباً بالدولار الأميركي. بل تطال أيضاً القضاء الكلّي على تعويضات نهاية الخدمة والمعاشات التقاعدية، إذ أن كل الزيادات المقرّة لم تطال أساس الراتب الذي بقي على حاله، على الرغم من انهيار سعر الليرة اللبنانية بنسبة 98% في هذه الفترة. فلو افترضنا أن هذه الموظّفة الإدارية وصلت إلى سن التقاعد اليوم، فإن معاشها التقاعدي سيبلغ 2,405,500 ليرة لبنانية، تشكّل 85% من أساس راتبها، وهي كانت توازي 1,600 دولار أميركي على أساس سعر الصرف الثابت القديم. ولكن بعد انهيار قيمة العملة، فإن مجموع ما ستحصل عليه بعد إضافة 9 رواتب للمتقاعدين سيصل إلى حوالى 240 دولاراً أميركياً أي 15% فقط من راتبها التقاعدي المتوقّع سابقاً.
هذا الانخفاض المستمر في الرواتب الحقيقة وقدرتها الشرائية يدفع الموظّفين إلى ترك الوظيفة في الإدارة العامة. وتؤكّد رئيسة رابطة موظّفي الإدارة العامة نوال نصر أن الإدارة العامة تنزف مواردها البشرية. ففي خلال أول سنتين من الأزمة خسرت الإدارة 2,500 موظّف وموظّفة. وتضيف نصر أن المغادرين من القطاع العام هم من الفئات الشابة الأكثر كفاءة والقادرة على تأمين فرص عمل خارج لبنان، ومن المرجح أن تستمر أعداد الموظّفين بالانخفاض. وفي المقابل، تؤكّد نصر أن وزارات عديدة مثل الصحة والمالية تستقدم متعاقدين جدد بأجور مرتفعة تتراوح بين 1,500 و2,000 دولار أميركي لإنجاز أعمالها. وأن هذه التعاقدات تتم بناء على قرار من الوزير المعني خلافاً للقانون، الذي يفرض أن يتم تحديد الاحتياجات عبر إدارة الأبحاث والتوجيه وبعد موافقة مجلس الوزراء.
بدل المثابرة: تحويل الموظّفين إلى مياومين
في «إنجاز» الزيادة الهزيلة، دست الحكومة قراراً بزيادة إضافية أطلقت عليها إسم «بدل المثابرة»، وإذا كان قرار مجلس الوزراء قد حدّد شرطها بالحضور الشهري الكامل من دون إنقاص، إلا أن قيمتها لا تزال غامضة، ووفق مصادر مطلعة في وزارة المالية فإن هذه الزيادة تترواح بين 160 و250 دولاراً حسب الفئات الوظيفية.
بمعزل عن الغموض في قيمة الزيادة وكيفية احتسابها، إلا أن وضوح شرطها بالحضور الشهري الكامل سوف يعني حرمان غالبية الموظّفين من حقوقهم الأساسية التي ينص عليها القانون، وهي أيضاً أداة جديدة من أدوات تفكيك الوظيفة العامة وإنهائها عبر تحويل الموظّف إلى مياوم. وهي تساهم بشكل كبير في الحد من إمكانية الإضرابات، إذ أن ربط الدخل بعدد أيام العمل سوف يجبر الكثير من الموظّفين على التفكير كثيراً قبل المشاركة في الإضرابات، بل سوف يجبرهم على العمل حتى في حالات المرض. وهذا بدوره سيفتح الطريق أمام المزيد من تقليص القطاع العام، وبالتالي دور الدولة في توفير الخدمات العامة وهيمنة القطاع الخاص عليها.