Preview بدل النقل

الإمعان في سياسة تدمير الأجور

يتقاضى العمّال أجورهم في مقابل بيع قوّة عملهم. ووفق القانون اللبناني، يشتمل الأجر على «مجموع الدخل الناتج عن العمل بما فيه جميع العناصر واللواحق». ويفرض قانون العمل أن يكون الحد الأدنى للأجر كافياً ليسدّ «حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته». وأعطى القانون الحكومة اللبنانية سلطة رفع الحدّ الأدنى للأجر وتصحيح الأجور بنسب غلاء المعيشة، «كلّما دعت الحاجة».

بدل النقل

لم يحصل في لبنان، أقلّه منذ انتهاء الحرب وإعادة الإعمار في تسعينيات القرن الماضي، أن جرى احترام هذه المبادئ القانونية: شمولية الأجر، كفايته، وتصحيحه دورياً للمحافظة على قيمته الحقيقية في مواجهة التضخّم. ولكن الأزمة الحالية تكاد تقضي كلّياً على المبادئ المذكورة، فالتضخّم الجارف وانهيار العملة لم يؤدّيا إلى انخفاض حادّ للقيمة الحقيقية للأجر فحسب، بل ان تدخّلات الحكومة في مواجهة هذا الانخفاض أمعنت في فكفكته، وبدلاً من رفع الحد الأدنى للأجر وتصحيح الأجور وفق نسب التضخّم، وبما يكفي لسدّ حاجات العامل وأسرته، امتنعت الحكومة عن ذلك عامي 2020 و2021، وعمدت بعد ذلك إلى تضخيم بدل النقل على حساب زيادة الأجر الاسمي، إذ تراوحت حصّة بدل النقل بين ربع ونصف مجمل الحدّ الأدنى للأجر (الحد الأدنى + بدل النقل) طيلة الفترة الماضية. 

ماذا يعني هذا؟ يعني ببساطة أن العاملين والعاملات بأجر يتعرّضون لعملية سطو مزدوجة، فمن ناحية تفقد أجورهم قيمتها الحقيقية بفعل التضخّم الناجم في جانب مهمّ منه من «تضخّم الجشع»، ومن ناحية أخرى أصبح جزءاً مهمّاً من الأجور الاسمية غير مصرّح عنه، وغير محسوب على أنه أجر، إذ لا يتقاضى جميع العاملين والعاملات بأجر بدل النقل، ولا سيما أن النسبة الأكبر منهم هي في «العمل اللانظامي»، أمّا في العمل النظامي، فإن العمّال والعاملات يخسرون جزءاً كبيراً من تعويضات نهاية الخدمة (ومعاشات التقاعد في القطاع العام) بسبب إخراج بدل النقل من مفهوم الأجر، ليس هذا فحسب، بل انعكس ذلك تقليصاً في إيرادات الضمان الاجتماعي، وبالتالي إضعاف الحماية الاجتماعية للمضمونين.

قصّة بدل النقل

عند تحديد قيمة الحد الأدنى يُفترض احتساب أكلاف المعيشة الأساسية للعامل وأسرته. ولكن ما حدث منذ العام 1995 أن الحكومة قرّرت أن تخصّص بدلاً مقطوعاً منفصلاً عن الأجر الأساسي يسمّى بدل النقل. واعتبر المرسوم أنّ بدل النقل مؤقّت لسنة أو اثنتين «ريثما يتمّ تفعيل وسائل النقل»، ولكنه استمر حتى  العام 2012 كبديل غير قانوني عن تصحيح الأجور. وقد خاض وزير العمل السابق شربل نحّاس معركة لضمّه إلى الأجر واحتسابه ضمن الأجر المُصرّح عنه للضمان الاجتماعي، إلا أنه خسر المعركة واستقال من مجلس الوزراء، ليقرّ مجلس النوّاب على أثر ذلك القانون رقم 217 الذي قونن بدل النقل وأجاز للحكومة إقراره وإعادة النظر فيه عند الحاجة. 

إذا كان مجلس النوّاب يريد تعويض العجز في الخدمات  العمومية عبر بدلات خاصّة كبدل النقل لكن من دون أن تضاف إلى الأجر وتعويض نهاية الخدمة والمعاش التقاعدي، فلماذا لا تعمّم هذه البدلات ويتقاضى العمّال بدل «مولّد كهرباء» وبدل «سيتيرن مياه» مثلاً؟

لماذا بدل النقل؟ إذا كان مجلس النوّاب يريد تعويض العجز في الخدمات  العمومية عبر بدلات خاصّة كبدل النقل والمنح التعليمية، وأن لا تُضاف إلى الأجر وتعويض نهاية الخدمة والمعاش التقاعدي، فلماذا لا تعمّم هذه البدلات ويتقاضى العمّال بدل «مولّد كهرباء» وبدل «سيتيرن مياه» مثلاً؟ في الواقع، شكّل بدل النقل جزءاً أساسياً من أجور العمّال في العمل النظامي منذ ابتكاره كبديل عن تصحيح الأجور، ولم تتراجع نسبته عن 23.5% من الحدّ الأدنى للأجور مع بدل النقل ليصل إلى 55% عشية إقرار رفع الدعم عن  المحروقات، ويشكّل 41.9% اليوم. وإذا أخذنا الحدّ الأقصى للكسب الخاضع لاشتراكات الضمان الاجتماعي، لقياس وزن بدل النقل من الأجور الوسطية، فهو يمثّل حالياً 36.11%، وهو أعلى بكثير من نسبة 8.3% بعد تصحيح الأجور في العام 2012. 

كم يخسر العمّال؟

تكشف أرقام الصندوق أن عدد الأجراء لديه يبلغ 409,078 أجيراً. ويخسر كل عامل وعاملة منهم نحو 6 ملايين و500 الف ليرة من تعويض نهاية الخدمة كل سنة، اي ما مجموعه 130 مليون ليرة من التعويض على 20 سنة خدمة. وتبلغ خسارة المضمونين مجتمعين نحو 2659 مليار ليرة سنويا، هذا فضلا عن خسارة صندوق الضمان جزءاً مهماً من الايرادات التي كان يمكن ان يجبيها من اصحاب العمل لو كانوا ملزمين بالتصريح عن بدل النقل ضمن الكسب الخاضع للاشتراكات، وكان سيساهم ذلك في تعزيز خدمات الرعاية لاسيما في ظل الأزمة.

العاملون في القطاع العام متضرّرون أيضاً

خسارة تعويضات نهاية الخدمة جراء تجزئة الأجور، لا تقتصر  على العاملين في القطاع الخاص، بل يتضرّر منها العاملون في القطاع العام، إذ بات الراتب ينقسم إلى الراتب الأساسي المحدّد منذ العام 2017 بموجب سلسلة الرتب والرواتب. ويشكّل الجزء الأصغر من  الدخل مقابل بدل نقل بقيمة 450 ألف ليرة عن كلّ يوم عمل، بالإضافة إلى التقديمات الممنوحة كمساعدة اجتماعية بموجب المرسوم رقم 1127 الصادر في العام 2023 والتي توازي 4 أضعاف الراتب. 

وإذا كانت هذه التقديمات تقدّم جرعة دعم مباشرة إلّا أنها تحرم الموظّفين من حقوقهم التقاعدية. إذ ينصّ مرسوم المساعدة نفسه على أن لا تُعتبر هذه المداخيل الإضافية التي يتقاضاها الموظّفون بأي حال من الأحوال ضمن المبالغ الخاضعة لاحتساب تعويض نهاية الخدمة أو معاشات التقاعد أو أي تعويضات أخرى. وجاء تبرير استثناء هذا الدخل من التعويضات لحين إقرار نظام متكامل للرواتب والتقاعد وبسبب الطابع الاستثنائي للمرحلة التي تمرّ بها بلاد أصبح فيها الاستثناء هو القاعدة، والمؤقّت دائماً.