Preview الفقر في مصر

خطّ الفقر القومي في مصر:
تقليص الفقر على الورق

إنّ الأوضاع الاقتصادية التي تمرّ بها مصر، خصوصاً فيما يتعلّق بارتفاع معدّل التضخّم وأسعار السلع الأساسيّة، وتنامي مستويات الدَّيْن العام والخارجي التي تلتهم حصّة وازنة من الموازنة العامّة على حساب الإنفاق الاجتماعي، من الطبيعي أن تنعكس بشكلٍ مباشرٍ وملموسٍ على مستويات معيشة المصريين وحياتهم اليومية، وعلى مستوى الفقر ونسبة الفقراء في المجتمع.

شهدت مستويات الفقر في مصر تطوّراً ملحوظاً على مدار السنوات الماضية. وبحسب «بحث الدخل والإنفاق» الذي يصدر كلّ عامين، يُعرِّف الفقر بأنه «عدم القدرة على تلبية الاحتياجات المادية الأساسية للأسرة أو الفرد»، ويحصر تلك الاحتياجات في «الطعام والمسكن والملابس وخدمات المواصلات والصحّة والتعليم». يشير «بحث الدخل والإنفاق» الذي يعاين بيانات العامين 2019 و2020، إلى تطوّر نسبة الفقر في مصر خلال العقدين الماضيين من 16.7% في العام 1999 إلى 29.7% في العام 2020. يشار إلى أن بيانات البحث توقّفت عند آذار/مارس 2020 بسبب وباء كورونا، كما يتجاوز البحث الفترات الاستثنائية مثل الكوارث والحروب والأوبئة.

الفقر في مصر

أول ما يمكن ملاحظته في تطوّر أرقام الفقر في مصر هي الذروة التي سجّلها في عامي 2017 و2018، حيث طال الفقر ثلث السكّان في مصر، مرتفعاً بفارق كبير عن العامين السابقين. وهنا لا يمكن تجاهل عاملين مؤثِّرين بشدّة في وصول نسبة الفقر لهذا المستوى؛ العامل الأول اقتصادي يرتبط بالاتفاق الذي أبرمته الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، وحرّرت بموجبه سعر الصرف، بحيث قفز سعر الدولار في سوق الصرف الرسمية ووصل إلى ضعف قيمته، فضلاً عن تطبيق التعريفة الجديدة لضريبة القيمة المضافة بنسبة 14%، بالإضافة إلى الإلغاء التدريجي للدعم على الوقود. ساهمت هذه الحزمة في دفع معدّلات التضخّم إلى مستويات قياسية في حينها، ممّا جعل قطاعاً واسعاً من المصريين غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية ووقعوا تحت خطّ الفقر. أمّا العامل الثاني فهو سياسي. مثّل العام 2016 اكتمال سيطرة السلطة على الشارع والقضاء على أي مظاهر للحركة أو الاحتجاج، بحيث شكّلت المظاهرات المعارضة لاتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودي الذي نقلت بموجبه تبعية جزيرتي تيران وصنافير من مصر إلى السعودية، آخر مظاهر الاحتجاج الجماهيري في مصر في تلك الفترة. علماً أن السلطة لم تبدِ أي مرونة تجاهها وقمعتها بعنفٍ واعتقلت أعداداً واسعة من المحتجّين. 

يشير «بحث الدخل والإنفاق» الذي يعاين بيانات العامين 2019 و2020، إلى تطوّر نسبة الفقر في مصر من 16.7% في العام 1999 إلى 29.7% في العام 2020

إن الهيمنة الأمنية وغياب مظاهر الاحتجاج وضعف المعارضة في تلك الفترة، جعلت يد السلطة مُطلقة في تطبيق سياسات اقتصادية ضدّ الفقراء. وهذا ما تؤكّده مؤشّرات الفقر في عامي 2012 و2013، اللذين يعتبرا فترة الحراك السياسي الكبير في مصر، إذ اتسما بنشاط جماهيري كبير وحضور احتجاجي، بحيث لم يكن بإمكان السلطات المتتابعة في تلك الفترة اتخاذ إجراءات مُجحفة ضدّ الفئات الشعبية التي ما كانت لتتسامح مع المساس بحقوقها، فكانت نسبة الارتفاع في مستويات الفقر هي الأقل.

إلى ذلك، أشار نائب وزير التخطيط المصري أحمد الكمالي بتصريحات صحفية مؤخّراً، إلى انتهاء «بحث الدخل والإنفاق» لعامي 2021 و2022 وقرب نشره في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل. في الواقع، إن العامين اللذين يصدر البحث عنهما يتوفّر فيها العاملان اللذان رفعا نسبة الفقر في مصر في البحث السابق. فالفترة التي يغطّيها «بحث الدخل والإنفاق» المفترض صدوره قريباً، سبقها حصول مصر على قرضين من صندوق النقد الدولي في العام 2020، الأول بقيمة 2.77 مليار دولار لمواجهة آثار وباء كورونا، والثاني بقيمة 5.2 مليار دولار. وفي نهاية العام 2022 أبرمت مصر اتفاقاً جديداً مع الصندوق حصلت بموجبه على قرض بقيمة 3 مليار دولار. وقروض صندوق النقد كالعادة صاحبها ارتفاعات في سعر الدولار أمام الجنيه ليصعد من أقل من 16 جنيهاً للدولار في بداية 2021 إلى نحو 25 جنيهاً في نهاية 2022 قبل أن يتجاوز 30 جنيهاً في خلال العام 2023. وشهدت تلك الفترة موجات تضخّمية متتالية تأثراً بسعر الدولار وارتفاع أسعار الوقود والطاقة عالمياً، فضلاً عن تأثير الحرب الروسية الأوكرانية في خلال العام 2022. أما العامل الثاني فقد كان حاضراً بدوره، وبقوّة، إذ استمرّ غياب مظاهر العمل الاحتجاجي والسياسي، وحالت الأوضاع الأمنية دون بروز أي محاولة للتعبير عن تدهور الأوضاع المعيشية أو نشاط جماهيري كابح لموجات الغلاء وسياسات التقشّف.

إذاً، تشير الظروف الموضوعية إلى أن نسبة الفقر التي سجّلت في تلك الفترة ستكون مرتفعة، وبنسبة غير قليلة عن الفترة السابقة، خصوصاً أنها تأتي على وضع شديد الهشاشة والحساسية للمتغيّرات الاقتصادية. فعامي 2021 و2022، هما التاليان مباشرة لأزمة وباء كورونا، والتي نتج عنها تدهور شديد في الأوضاع المعيشية نتيجة الإغلاق والانكماش المصاحب لتلك الفترة.

من شأن العوامل الموضوعية أن ترفع نسب الفقر في المجتمع المصري نتيجة السياسات الاقتصادية المرتبطة بتنفيذ برامج صندوق النقد الدولي ونتيجة ضعف القدرة على مقاومة تلك السياسات في المجتمع

من شأن العوامل الموضوعية أن ترفع نسب الفقر في المجتمع المصري نتيجة السياسات الاقتصادية المرتبطة بتنفيذ برامج صندوق النقد الدولي ونتيجة ضعف القدرة على مقاومة تلك السياسات في المجتمع. ولكن هناك عامل آخر، غير موضوعي، من شأنه أن يساهم في كبح ارتفاع نسبة الفقر في المجتمع وهو خطّ الفقر القومي الذي خلصت إليه نتائج «بحث الدخل والإنفاق» المنتظر إعلانه قريباً، وتُحدّد وفقه نسبة الفقر في المجتمع، حيث أشار الكمالي في تصريحاته إلى أنه يبلغ 1400 جنيه شهرياً. ويُعرِّف «بحث الدخل والإنفاق» خطّ الفقر القومي بأنه «تكلفة الحصول على السلع والخدمات الأساسية للفرد/الأسرة». وبذلك يعتبر «بحث الدخل والإنفاق» عن عامي 2021 و2022 أن من يحصل على أقل من 1400 جنيه شهرياً من الفقراء، ومن يحصل على أكثر من 1400 جنيه ليس فقيراً.

هنا سنواجه أكثر من مشكلة حسابية، خصوصاً أن تلبية الاحتياجات الأساسية الست (الطعام والمسكن والمواصلات والتعليم والصحة والملابس) بمبلغ 1400 جنيه شهرياً أمر سوف تعجز كلّ العمليات الحسابية عن توفقيها. وإذا افترضنا أن 1400 جنيه ستذهب لبندٍ الطعام فقط، فإن الفرد الذي يقف على خطّ الفقر سيكون عليه تدبير ثلاث وجبات يومياً بهذا المبلغ، أي أنه سينفق يومياً أقل من 47 جنيه للحصول على ثلاث وجبات. ولكن حقيقة الأمر أن تدبير وجبة واحدة فقيرة جداً، وبأسعار عامي 2021 و2022، لا يمكن أن يكلّف أقل من 20 جنيه، أي ما يوازي 1800 جنيه شهرياً لثلاث وجبات يومياً، طبعاً مع استبعاد اللحوم بأنواعها والدواجن والأسماك. ونعتمد هنا على أسعار وجبة الكشري المتوسّطة، أو وجبة الفول والطعمية في المحلات الشعبية، وهو ما يمثّل الحد الأدنى لأسعار الطعام في مصر.

إن الهيمنة الأمنية وغياب مظاهر الاحتجاج وضعف المعارضة في تلك الفترة، جعلت يد السلطة مُطلقة في تطبيق سياسات اقتصادية ضدّ الفقراء

المبلغ الذي ذكره نائب وزير التخطيط كخطّ قومي للفقر، سينتج مشكلة حقيقية لتدبير ثلاث وجبات يومية، ولن تنتهي مشاكله مع الفقر إذا نجح في حلّ مشكلة الوجبات الثلاث، فالمبلغ نفسه يجب أن ينفق منه على المواصلات، وهو بند لا يمكن حذفه أو حتى تخفيضه لأنه ضروري لمزاولة العمل الذي سيوفر بدلاً شهرياً. وإذا كان هذا الشخص محظوظاً سيضطر لاستقلال وسيلة مواصلات واحدة يومياً ذهاباً وإياباً، وبأسعار عامي 2021 و2022، فإن تكلفة أرخص وسيلة مواصلات تتراوح بين 5 إلى 10 جنيهات، أي أنه سينفق على أقل تقدير 300 جنيه من إجمالي دخله على الانتقالات الضرورية. ولكن إذا كان هذا الشخص سيئ الحظ ولا يقيم بالقرب من طرق المواصلات الرئيسية أو محطات المترو، سيكون مضطراً إلى استقلال أكثر من وسيلة مواصلات يومياً. والحقيقة أن أماكن سكن وإقامة الفقراء عادة بعيدة عن المواصلات العامة، وهذه نفسها أحد العوامل المحدّدة لقيمة السكن، فكلّما اقترب السكن من خطوط المترو أو الطرق الرئيسية التي تمرّ فيها المواصلات كلّما ارتفعت قيمة الإقامة فيه. وهنا سينخفض المبلغ الذي يخصِّصه الفرد المتأرجح على خطّ الفقر لطعامه إلى 1,100 جنيه في أفضل الأحوال، وسيكون عليه إنفاق أقل من 37 جنيه فقط على وجباته الثلاثة، والبحث عن وجبة تكلّف أقل من 13 جنيه فقط، ولكن الخبر السيئ أنه لن يجدها.

ولكن قبل أن يفشل هذا الفرد في تدبير وجباته الثلاث المضنية، سيكون قد أنفق جزءاً من دخله على السكن، الذي يقدّره «بحث الدخل والإنفاق» بنحو 19.2% من الدخل، وسيكون قد أنفق على الاتصالات نحو 2.5% أيضاً. هنا سيجد الرجل عند خط الفقر نفسه مضطرا لتدبير طعام يومه بأقل من عشر جنيهات، أي عليه أن يدبر ثلاث وجبات بأقل من نصف قيمة وجبة واحدة فقيرة، وبالطبع لم نأت على ذكر ثلاثة بنود أخرى اعتبرهما «بحث الدخل والإنفاق» من البنود الأساسية وهي التعليم والرعاية الصحية والملابس. والحقيقة أنه حتى مع اعتماد خطّ فقر مرن وغير واقعي ولا يتناسب مع تكلفة المعيشة الحقيقية، من المتوقّع أن يخرج «بحث الدخل والإنفاق» بنسب فقر مرتفعة ومتجاوزة النسب السابقة.

ولكن الأهمّ من ذلك أن اعتماد خط فقر غير واقعي، ومحاولة تحسين الأرقام النهائية لن تقلّل من الإحساس العام في المجتمع بتحوّل تدبير الحياة اليومية لمهمّة شاقّة وعسيرة، وأحياناً مستحيلة لمن يحصلون حتى على أضعاف قيمة خطّ الفقر القومي. والأسوأ أن محاولة تحسين الأرقام على هذا النحو هو مجرد إنكار للسياسات التي أوصلت إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعني ببساطة أنه لن تكون هناك محاولات لتحسين الأوضاع بل سيتم الاكتفاء بتحسينها على الورق فقط.