استخدامات الأراضي: الزراعة أم الطاقة الشمسية؟
في ظل تراجع الإنتاج في مؤسّسة كهرباء لبنان إلى أدنى مستوياته وارتفاع أسعار اشتراكات الموّلدات الخاصّة نتيجة التحرير العشوائي لأسعار المشتقّات النفطية، لجأ الكثير من السكّان إلى الطاقات المتجدّدة، والطاقة الشمسيّة تحديداً، كملاذ أخير للحصول على الكهرباء. وقد نتج عن ذلك استخدامٌ مُتزايد للمساحات المتوافرة على أسطح المباني في المدن والبلدات المُكتظّة، وعلى الأراضي المُتاحة للمشاريع المنفّذة على المستوى البلدي أو المجتمعي.
قادت المبادرات الفردية هذا التطوّر في حصّة الطاقات المُتجدّدة من إجمالي الطاقة الكهربائية المُستهلكة في لبنان. إلّا أن الدولة دخلت على الخطّ أخيراً، ومنحت 11 رخصة لإنتاج الطاقة الشمسية بواسطة شركات من القطاع الخاص. وهناك دعوات للدولة لتنظيم هذه السوق والتخطيط لإنتاج 30% من حاجات البلاد من الكهرباء عبر مصادر متجدِّدة.
في ضوء التجارب، وفي ظل غياب الإدارة الكفوءة والتخطيط على مستوى الاقتصاد الكلّي، يوجد شكوك كبيرة بشأن إمكانية بلوغ هذا الهدف، والكلفة المتوقّعة في حال بلوغه، ليس على مستوى الاستثمار والأسعار فحسب، بل على مستوى «الفوضى المُنظّمة» التي تُدار بها استخدامات الأراضي.
تهميش القطاعات الإنتاجية
من الدروس المُستقاة من الأزمة أيضاً، أن النظام الاقتصادي المنهار، الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه، يستمرّ في تهميش القطاعات الإنتاجية الأساسية من زراعة وصناعة، سواء من حيث الموازنات الزهيدة المرصودة لها على مدى عقود، أو من خلال عدم خلق فرص مُبتكرة للاستثمار تهدف إلى إبقاء الشباب في بلدهم ومواكبة التطوّر التكنولوجي في هذا المدماك.
توفير الكهرباء المستقرّة وبكلفة مقبولة هما من شروط النهوض بالقطاعين الصناعي والزراعي. لذلك تظهر مشاريع الطاقة المُتجدِّدة كحلٍّ تقني مُمكن لهذه المعضلة
تشير المؤشِّرات المختلفة إلى وجوب النهوض بقطاعي الزراعة والصناعة كجزءٍ من النموذج الاقتصادي الجديد، المفروض عليه تخفيف كلفة الاستيراد، بما في ذلك كلفة استيراد المشتقّات النفطية اللازمة لإنتاج الطاقة. وهذا يخلق معضلة، إذ إن توفير الكهرباء المستقرّة وبكلفة مقبولة هما من شروط النهوض بالقطاعين الصناعي والزراعي. لذلك تظهر مشاريع الطاقة المُتجدِّدة كحلٍّ تقني مُمكن لهذه المعضلة. وهنا، يبرز تحدٍّ أساسي يتمثّل في توفّر الأراضي اللازمة للقيام بالأمرين معاً: تنشيط الزراعة من جهة ومواكبة التحوّل الطاقوي من جهةٍ أخرى. فهل من تأثير للواحدة على الأخرى؟ وهل من إمكانية لدمج الاثنين معاً بما يتناسب مع ما هو متاح أولاً، ومع الاستخدام غير المفرط للأرض ثانياً؟
الوقائع الراهنة
تشير أرقام المركز اللبناني لحفظ الطاقة (LCEC) في حزيران/يونيو 2023 أن نحو ألف ميغاواط (1 غيغاواط) من الطاقة الشمسية الموزعّة قد تمّ تركيبها في لبنان، وحوالي 660 ميغاواط منها ركِّبت في العام 2022، فيما كان هذا الرقم يقف عند ما يقل عن 100 ميغاواط في العام 2020. أي أنّ هناك ارتفاع بحدود 10 أضعاف بين العام 2020 والنصف الأول من العام 2023.
ومن المتوقّع أن يشهد هذا الارتفاع بعض الركود في المشاريع الصغيرة (المنزلية والتجارية) الموزّعة على أسطح المباني، نظراً لتقلّص المساحات المُتاحة بعد الطفرة السريعة في السنوات الأخيرة، ليكون الاتجاه نحو المشاريع الأوسع على النطاق البلدي والمجتمعي. في هذا الإطار، تمّ التوقيع في أيار/مايو 2023 على عقود شراء الطاقة (Power Purchase Agreement) لبناء 165 ميغاواط من الطاقة الشمسية، بموجب 11 رخصة صادرة عن مجلس الوزراء بقوة 15 ميغاواط لكلّ منها، وموزّعة في المحافظات المختلفة. اللافت في تلك العقود أو التراخيص، أن مسؤولية تأمين الأرض للقيام بالمشروع تقع على عاتق الشركة الفائزة بالترخيص، وتدخل كلفة تأمينها من ضمن الكلفة الاستثمارية وسعر مبيع الطاقة النهائي، والذي رسى على 5.7 سنتات للكيلواط ساعة في محافظة البقاع، و6.27 سنتات للكيلواط ساعة في باقي المحافظات.
مسح شامل للأراضي الصالحة لمشاريع الطاقة المُتجدِّدة
في العام 2018، أطلق المركز الوطني للاستشعار عن بعد التابع للمركز الوطني للبحوث العلمية (CNRS)، بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت والجمعية اللبنانية للطاقة المُتجدّدة (LFRE) مسحٍاً شاملٍاً للأراضي الصالحة لمشاريع الطاقة الشمسية والهوائية، وتبيّن وجود إمكانات واعدة من حيث الأراضي العامة والخاصة التي يمكن استخدامها في مثل هذه المشاريع، مع التركيز على الأراضي المصنّفة كمشاعات.
نحو ألف ميغاواط (1 غيغاواط) من الطاقة الشمسية الموزعّة قد تمّ تركيبها في لبنان، وحوالي 660 ميغاواط منها ركِّبت في العام 2022
في الواقع، يؤسِّس هذا المسح لقاعدة بيانات دقيقة للأراضي العامة والخاصة التي يمكن للدولة، متى أرادت، الاستعانة بها وتضمنيها في المناقصات المستقبلية. فبدل أن يُترك عامل اختيار الأرض على مسؤولية المتعهِّد، يمكن للمناقصة المقبلة أن تتضمّن تحديداً للأراضي التي يفترض بدء المشروع عليها، ممّا يخفِّف الكلفة ويزيد التنافسيّة.
يعتمد هذا المسح منهجية علميّة تقارب عامل الأرض من حيث المعايير التالية: قربها من المدن أو المناطق العمرانية، الانحدار (على ألّا يتجاوز الـ10 درجات)، استخدامات الأراضي (عامّة أم خاصة، طبيعتها الجغرافية من حيث نوع التربة ومخاطر الفيضانات)، القرب من الشبكة العامّة (على ألّا تتجاوز الـ10-15 كلم)، وقربها من شبكة الطرق (على ألّا تبعد أكثر من 6-10 كلم). ويستثني المسح المذكور الأراضي الزراعية المستخدمة للزراعة حالياً، ولكنه لا يستثني تلك التي تصلح لأن تكون زراعية في المستقبل، وبالتالي، يمكن لذلك أن يؤثِّر على سلّم أولويات استخدامات الأراضي.
الأرض والزراعة في لبنان
يمكن لأفضلية استخدامات الأراضي في قطاعي الزراعة والطاقة المُتجدّدة أن تتناغم أو تتعارض بعضها مع بعض. في الواقع، لطالما شكّل الاستخدام المفرط للأراضي في البلدان المتطوّرة عاملاً ضاغطاً على التغيّر المناخي، كما على العديد من الفوائد البيئية غير المنظورة على المدى القصير.
في لبنان، مثّلت الزراعة نحو 3% من إجمالي الناتج المحلي الوطني بين عامي 2016 و2018، بحسب استراتيجية وزارة الزراعة للعام 2020-2025، واستأثرت بـ12% من اليد العاملة. وإذا أضفنا صناعة الأغذية الزراعيّة المهمّة في لبنان، تصل نسبة اليد العاملة إلى نحو 24%. إلى ذلك، قُدِّر حجم القطاع بحوالي 1,8 مليار دولار في العام 2018.
بلغ إجمالي الأراضي المزروعة نحو 271,412 هكتاراً (2,714 كيلومتراً مربعاً)، أي ما يشكّل حوالي %25 من مساحة الأراضي اللبنانيّة
هناك العديد من التقديرات للمساحات الزراعية المزروعة، فبحسب نتائج إحصاء الإنتاج الزراعي لوزارة الزراعة في العام 2021، بلغ إجمالي الأراضي المزروعة نحو 271,412 هكتاراً (2,714 كيلومتراً مربعاً)، أي ما يشكّل حوالي %25 من مساحة الأراضي اللبنانيّة. وتشمل الحقول المزروعة بالمحاصيل الموسميّة والأشجار المُثمرة، بالإضافة إلى البيوت البلاستيكية. هذا التقدير ليس بعيداً من أرقام المركز الوطني للاستشعار عن بعد CNRS، التي تشير إلى وجود 2,852 كيلومتراً مربعاً من الأراضي المزروعة. وهي قريبة أيضاً من تقديرات منظّمة FAO في العام 2017، التي أشارت إلى نحو 2,580 كيلومتراً مربعاً من الأراضي المزروعة.
يضمّ لبنان أعلى نسبة من الأراضي الصالحة للزراعة من مساحته الإجمالية بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى. وتُعتبر الأراضي المزروعة قليلة بالمقارنة مع الأراضي الصالحة للزراعة، ولذلك يسدُّ سكّان لبنان جزءا مهما من استهلاكهم الغذائي عبر الاستيراد.
تتوزَّع الأراضي الزراعية الخصبة بشكلٍ أساسي على المناطق التالية: عكار، البقاع، حاصبيا، الكورة، راشيا، صيدا وصور، فيما تكمن المشكلة الأساسية للمزارعين في حجم الأراضي، حيث يقدّر أن 75% منهم يعملون في مساحة تقلّ عن هكتار واحد، و95% منهم في مساحة تقلّ عن 4 هكتارات. من هنا، تكمن أهمّية استخدامات الأراضي المستقبلية في زيادة مساهمة القطاع الزراعي في الاقتصاد ككلّ، وخلق فرص عمل ورفد الصادرات.
كمّية الأراضي التي نحتاجها لإنتاج الطاقة
تشير دراسة لكهرباء فرنسا (EDF) مموّلة من البنك الدولي ومنشورة في العام 2021، ودراسة لوكالة IRENA صادرة في العام 2020، أن على لبنان الاستثمار في الطاقات المُتجدِّدة على أنواعها لإنتاج نحو 4,000 ميغاواط من أجل الوصول إلى هدف 30% من الطاقة الكهربائية الإجمالية في العام 2030. ما يعني استخدام 60 إلى 150 كيلومتر مربع من الأراضي والمساحات بحسب التقديرات تبعاً للتكنولوجيات المعتمدة وحجم المشاريع المنوي إنشاؤها.
يأخذ المسح الأكثر الشموليّة للـCNRS العوامل المذكورة سابقاً بالاعتبار من أجل اختيار الأراضي، ويشير إلى أن مجمل الأراضي المتوافرة التي يبلغ انحدارها 5 درجات ويقلّ ارتفاعها عن 1500 متراً، والتي قد تصلح للزراعة كما لمشاريع الطاقة الشمسية، تبلغ نحو 465 كيلومتراً مربعاً. وإذا أخذنا عامل القرب من الشبكة العامّة (10-15 كلم)، يصبح إجمالي الأراضي المتاحة حوالي 189 كيلومتراً مربعاً، أي آن الأراضي المطلوبة للوصول إلى هدف الـ30% من إنتاج الكهرباء سوف تستنزف جزءاً مهمّاً من الأراضي الصالحة للزراعة.
تكنولوجيا دمج مشاريع الطاقة الشمسية في الأراضي الزراعية
برزت في السنوات الماضية تقنية الـAgrivoltaics، وهي عبارة عن إنشاء محطّات إنتاج الطاقة الشمسية فوق الأراضي المزروعة، مستخدمةً ظل الألواح الشمسيّة لنموّ المزروعات، ومساهمةً في كفاءة استخدامات الأراضي. وقد أثبتت بعض الدراسات الحديثة أن مثل هذه المشاريع تساهم في استدامة عوامل الغذاء والمياه والطاقة والمناخ في آنٍ معاً. فبعض البذور نمت بشكلٍ غير اعتيادي في بيئاتٍ كهذه، خصوصاً في مناطق غرب الولايات المتّحدة، وجنوبي أميركا والشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، تعدّ الأراضي الخصبة زراعياً والرطبة والمراعي الأكثر ملائمةً لهذه التقنية.
إن الاستثمار في الطاقات المُتجدِّدة على أنواعها لإنتاج نحو 4,000 ميغاواط من أجل الوصول إلى هدف 30% من الطاقة الكهربائية الإجمالية في العام 2030، يعني استخدام 60 إلى 150 كيلومتر مربع من الأراضي
في الواقع، إن «تناغم» أو «تعايش» الزراعة مع ألواح الطاقة الشّمسيّة أظهر فعالية أكبر في محصول بعض الخضار والفاكهة بحدود مرّتين إلى ثلاث مرّات، وتحديداً: الخس والسبانخ والبطاطا والفجل والجزر، وكذلك بعض أنواع البندورة والفلفل والهلابينو.
ماذا عن المضاربات العقارية؟
في حين يشهد لبنان طفرة في مشاريع الطاقة الشمسيّة، مع مؤشّرات للبدء بالانتقال نحو المشاريع المتوسّطة والكبيرة بعيداً من أسطح المباني والبيوت، يبرز تحدٍّ كبير يتمثّل في خطر استخدام عامل الأرض في المضاربات العقارية في البلدات والمحافظات كافّة. فمع تحديد الأراضي الملائمة لتطوير مشاريع الطاقة المتجددة، وفي حال كانت هذه الأخيرة أملاكاً خاصة لا عامّة، يتخوّف من أن يُقدم بعض السماسرة وتجّار الأراضي إلى الاستحواذ عليها ومن ثمّ التفاوض مع الشركات والمتعهّدين بشكلٍ مباشر بغية تأجيرها أو بيعها بأسعار أعلى.
من هنا، لا بد من أن تلحظ التشريعات التي تناقش حاليّاً، أو أي قرارات أو مراسيم أو دفاتر شروط تصدر عن الوزارات المعنية، هذه العوامل، وأن توضع ضوابط على عمليّات مماثلة قد تحصل في المستقبل لمنع تراكم الأرباح غير المشروعة.