Preview صندوق النقد ومصر

إتفاق جديد مع صندوق النقد
إغراق مصر بالمزيد من الديون والبؤس

توصّلت مصر لاتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي، أعلن عنه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في مؤتمر صحافي عصر الأربعاء 6 آذار/مارس الجاري، وتضمّن رفع قيمة حزمة التمويل التي تقرّرت مطلع العام 2023، من 3 مليارات دولار إلى 8 مليارات دولار، فضلاً عن 1 إلى 1.2 مليار دولار كقرض من صندوق الاستدامة البيئية. وبذلك تلقّى الاقتصاد المصري دفعة جديدة من الصندوق من ضمن سلسلة دفعات اعتادت عليها الحكومة منذ نهاية العام 2016.

إن إعلان رئيس الوزراء عن الاتفاق سبقته بضعة خطوات، عادة ما تترافق مع إعلان الاتفاق مع صندوق النقد. تمثّلت الخطوة الأولى هي رفع سعر الفائدة إلى 27.25% و28.25% على الإيداع والإقراض على التوالي. وهو ما يعني على نحو مباشر زيادة أعباء الدين الحكومي، المرتفع بالفعل، كما يعني زيادة عب الاستدانة على المشروعات، ويعني بالتالي بروز اتجاه انكماشي على مستوى الاستثمارات. 

أما الخطوة الثانية فكانت السماح للمصارف بتداول الدولار بأسعار مرنة وفق العرض والطلب، أي تحرير سعر الصرف، وهو ما أدّى إلى ارتفاع الدولار في السوق الرسمية من أقل من 31 جنيه للدولار إلى 50 جنيه للدولار. أي زيادة بنسبة 60% في سعر الدولار. وفيما يؤكّد مراقبون أن تلك الزيادة لن تنعكس على أسعار المستهلكين، نظراً لتداول الدولار في السوق الموازية قبل تحرير سعر الصرف على مستويات أعلى بكثير، وتسعير السلع على أساس سعر السوق الموازية، إلا أن تجارب تحرير سعر الصرف السابقة تؤكّد أن أكثر السلع حساسية تجاه تحرير سعر الصرف هي القمح والحبوب والدواء والطاقة، التي يتم استيرادها بالسعر الرسمي، والتي تؤثر أيضاً في أسعار الكثير من السلع والخدمات.

إدمان على الديون في مصر

الإدمان على الديون

كما الإدمان الذي ما إن يبدأ يصعب أن يتوقف، كذلك علاقة الاقتصاد المصري بصندوق النقد الدولي. لا يبدو الاتفاق المبرم أخيراً إلا كحلقة جديدة ضمن سلسلة الاتفاقيات مع صندوق النقد في خلال السنوات الماضية.

مع انتهاء تسلم دفعات القرض الأول كان الاقتصاد المصري بحاجة لجرعة جديدة من القروض

بداية هذه السلسلة كانت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، عندما أبرمت مصر اتفاقاً مع صندوق النقد، حصلت بموجبه على قرض بقيمة 12 مليار دولار على دفعات مُتتالية لثلاث سنوات. وصاحب الاتفاق الإجراءات الاقتصادية الأكثر راديكالية، إذ رفعت الضريبة على القيمة المضافة إلى 14%، وتم تحرير سعر الصرف وأسعار الطاقة.

أدّت هذه الإجراءات وقتها إلى طفرة تضخّمية غير معتادة على المجتمع المصري، الذي اعتادها لاحقاً.

تمكنت الحكومة عقب القرض الأول، والأكبر من صندوق النقد، ومن خلال الإجراءات التقشفية المشدّدة، من السيطرة على سعر الصرف وكبح التضخّم وتخفيف سياسة التشديد النقدي، إنما بعد مرور صدمة الاتفاق الأولى التي استغرقت أكثر من عام. 

وعلى الرغم من المؤشّرات الجيّدة التي حقّقها الاقتصاد المصري في السنوات التالية على الاتفاق مع الصندوق، كشف وباء كورونا درجة عالية من الهشاشة في الاقتصاد المصري، التي لم يعالجها الاتفاق مع الصندوق بل على العكس، فاقمها. إن عوامل قوة الاقتصاد المصري التي اعتمدت عليها الحكومة، كانت في الوقت نفسه عوامل ضعفه، فالاقتصاد الذي يعتمد بشكل مُفرط على الاستيراد، كانت موارده من النقد الأجنبي تعتمد بنسبة كبيرة على السياحة وإيرادات قناة السويس وتحويلات المصريين في الخارج والاستثمارات الخارجية المباشرة وغير المباشرة. وهذه العوامل جميعها كانت شديدة التأثر بالتقلبات العالمية، إذ توقفت السياحة تماماً جراء الوباء، وتأثرت إيرادات قناة السويس بسبب اضطراب سلاسل التوريد العالمية، وأثر الإغلاق العالمي على تحويلات المصريين في الخارج، ومع انتهاء تسلم دفعات القرض الأول كان الاقتصاد المصري بحاجة لجرعة جديدة من القروض.

جرعات ما بعد الوباء

الجولة الثانية من قروض الصندوق أتت على خلفية وباء كورونا، إذ تلقّت مصر في العام 2020 قرضاً من خلال آلية التمويل السريع بقيمة 2.77 مليار دولار، ثم تلقت قرضاً آخر في العام نفسه بقيمة 5.4 مليار دولار عبر برنامج الاستعداد الائتماني. وبذلك تجاوز ما حصلت عليه مصر من صندوق النقد الدولي من نهاية 2016 وحتى منتصف 2020، الـ 20 مليار دولار. 

أصبح معنى «حل الأزمة» بالنسبة للحكومة هو أن تكون قادرة على الحصول على قروض جديدة، وليس الاستغناء عن الاقتراض

لم يكن ذلك كل ما حصلت عليه مصر من تمويل. فقروض صندوق النقد لها وظيفة أهم، وهي منح شهادة ثقة للحكومة المصرية تؤهّلها للحصول على المزيد من القروض من مقرضين دوليين. وعلى الرغم من إسهام قرضيْ صندوق النقد الدولي للحكومة المصرية في العام 2020 في دعم قدرة الحكومة على اجتياز أزمة كورونا وما تسبّبت فيه اقتصادياً، إلا أن القرضين كالعادة لم يعالجا الهشاشة التي عانى منها الاقتصاد، بل بالعكس، أدّى استمرار الاعتماد على الاقتراض للخروج من الأزمات المتتالية إلى تزايد تلك الهشاشة.

الحرب الروسية الأوكرانية

هذا ما أوضحته الأزمة التالية، فالاقتصاد الذي يعتمد على الواردات في المواد الأساسية والطاقة ومدخلات الإنتاج، وتمثل الاستثمارات غير المباشرة نسبة هامة من التدفقات النقدية له، اصطدم عقب أزمة كورونا بأزمة الحرب الروسية الأوكرانية، التي أدّت إلى ارتفاع أسعار القمح والحبوب والطاقة، وبالتالي خروج كبير للاستثمارات غير المباشرة، نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة في الدول الكبرى.

تمثّل المخرج من الأزمة بقرض جديد من صندوق النقد الدولي. وعلى الرغم من بدء التفاوض مع الصندوق في ربيع 2022، لم يبرم الاتفاق إلا مطلع العام 2023، وبلغت قيمته مليار دولار فقط. لم ينجح القرض في إحداث أي تحسّن في الأوضاع الاقتصادية، إذ ارتفع معدل التضخّم إلى مستويات القياسية وزادت ندرة النقد الأجنبي، 

الصندوق أقل تسامحاً 

كان صندوق النقد الدولي أقل تسامحاً مع عميله المُزمن في خلال العام 2023، وأظهر تشدّداً في شروط القرض، الذي أبرم اتفاقه بالفعل وأتم تسليم دفعته الأولى. ولكن الدفعات التالية لم تسلم للحكومة المصرية، ولم تجر مراجعتيْ الربيع والخريف، اللتين تسبقان تسليم دفعات القرض.

الحل الذي اعتمدته الحكومة المصرية هو الحصول على تدفقات ضخمة بالدولار بأي طريقة، لامتصاص صدمة تحرير سعر الصرف. وهذا ما وجدته بالفعل في صفقة خليج رأس الحكمة

يرجع الأمر إلى لجم تحرير سعر الصرف الذي يعد من أهم شروط الصندوق. باتت ندرة النقد الأجنبي، الناتجة أولاً عن تراكم مستحقات الديون، تلتهم غالبية موارد الدولة من النقد الأجنبي، وبالتالي أصبح تحرير تحرير سعر الصرف خطوة تنطوي على مخاطر تراجع حادّ للجنيه المصري أمام الدولار، والذي كان سعره في السوق الموازية قد تجاوز بالفعل أكثر من ضعف قيمته في السوق الرسمية.

الحل الذي اعتمدته الحكومة المصرية هو الحصول على تدفقات ضخمة بالدولار بأي طريقة، ما يمكّنها من امتصاص صدمة تحرير سعر الصرف. وهذا ما وجدته الحكومة بالفعل في صفقة خليج رأس الحكمة، التي أبرمتها مع الإمارات العربية، وتمنح الأخيرة بموجبها حصة الغالبية لتطوير مدينة رأس الحكمة، فيما تحصل مصر على 35 مليار دولار، من ضمنها 11 مليار ودائع إماراتية في البنك المركزي المصري. وبالفعل، عقب إعلان الصفقة حصلت مصر على 10 مليارات على دفعتين.

ظهر تأثير صفقة رأس الحكمة سريعاً، فتراجع سعر الدولار في السوق الموازية لأقل من 50 جنيه، بعد تجاوزه 70 جنيه قبل أسابيع، كما تراجع سعر الذهب وسعر حديد التسليح والأسمنت والأجهزة الكهربائية، والكثير من السلع التي كان يتم تسعيرها على أساس سعر الدولار في السوق الموازي.

واللافت هنا أن حصول مصر على تدفق دولاري ضخم، لا تعتبره الحكومة حلاً للأزمة، بل مدخلاً يؤهلها للاقتراض مجدداً من صندوق النقد عبر تلبية أهم شروطه، وهو تحرير سعر الصرف من دون السقوط الحر للجنيه. واللافت أكثر، أن الحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، يعد بدوره شهادة ثقة للاقتصاد المصري تؤهّله للحصول على قروض جديدة من مقرضين دوليين. هكذا أصبح معنى «حل الأزمة» بالنسبة للحكومة هو أن تكون قادرة على الحصول على قروض جديدة، وليس الاستغناء عن الاقتراض.

تركت سياسة الاقتراض آثاراً واضحة على الاقتصاد المصري. ومع تزايد الاعتماد على صندوق النقد الدولي تزايدت أعباء الدون عاماً بعد آخر، إذ ارتفعت فوائد الديون في الموازنة العامة للدولة من 243 مليار دولار في العام المالي 2015/ 2016، إلى 1.12 ترليون جنيه في العام المالي الجاري 2023/ 2024، وارتفعت أقساط الديون من 250 مليار جنيه إلى 1.316 ترليون جنيه. لترتفع جملة أعباء الديون إلى استخدامات الموازنة العامة من 44.4% في 2015/ 2016 إلى 56% في العام المالي الجاري.

فخّ المديونية

تزايدت الديون الجديدة عاماً بعد الآخر، وباتت الديون لا تفضي إلّا إلى ديون جديدة. بلغت قيمة الديون الجديدة نحو 591 مليار جنيه في العام المالي 2015/2016، ووصلت إلى 1.14 ترليون جنيه في العام المالي الجاري. وهو ما يعني بدوره أن القادم سيكون أسوأ.

تزايدت الديون الجديدة عاماً بعد الآخر، وباتت الديون لا تفضي إلّا إلى ديون جديدة

الديون وأعبائها ليست النتيجة الوحيدة لسياسة الاستدانة وما يصاحبها من إجراءات. لطالما ترافقت اتفاقات صندوق النقد الدولي مع حزمة من السياسات التي انعكست بقوة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وأبرزها خفض قيمة العملة المحلية، من أقل من 9 جنيه للدولار قبل اتفاق تشرين الثاني/نوفمبر 2016، إلى نحو 50 جنيه للدولار مع الاتفاق الأخير. ومع الاعتماد على الواردات بنسبة كبيرة في المواد الغذائية ومدخلات الإنتاج، فإن أي صعود في سعر الدولار يرافقه ارتفاع في معدلات التضخّم. ولا يحدث ذلك بسبب سعر الصرف فقط إنما أيضاً بسبب تحرير سعر الطاقة، الذي تؤدي أيضاً لرفع أسعار النقل والمواصلات والمنتجات المستخدمة للطاقة، ورفع الضريبة هعلى القيمة المضافة. وبالنتيجة، شهدت الفترة بين نهاية العام 2016 ومطلع العام 2024، معدلات تضخم قياسية، لم تشهدها مصر في فترات الحروب التي خاضتها، وتجاوزت في بعض الأشهر 40%.

مع الاتفاق الجديد مع صندوق النقد، وتدفقات صفقة رأس الحكمة، تتوافر حصيلة دولارية معتبرة، قد تعني قدرة الحكومة على ضبط الأسواق لفترة، وقد تعني توحيد سعر الصرف والسيطرة على السوق الموازية للدولار. ولكن يبقى أثر تلك التدفقات مؤقت، لأنها ليست تدفقاً مستداماً، بل على العكس جانب من تلك التدفقات يعني أعباء جديدة على الموازنة العامة، واحتياجات مستقبلية للعملة الأجنبية، لم توفرها الموارد الذاتية، وهو ما يعني أن الانفراجة التي قد تخلقها تلك التدفقات ليست سوى مقدمة جديدة للأزمة التالية.