عودة النقابات المستقلّة في مصر
أعلن مطلع هذا الشهر عن اتحاد عمّال مستقل عن السلطة في مصر واتحاد العمّال الموالي لها. الاتحاد الجديد الذي أعلن عن تأسيسه تحت رعاية دار الخدمات النقابية والعمّالية، وهي إحدى منظّمات المجتمع المدني المعنية بالحقوق العمّالية والنقابية، يضمّ في صفوفه 21 نقابة ونقابة عامّة تضمّ 25 لجنة نقابية، تتنوّع بين المجالات الخدمية والإنتاجية وتتوزّع بين العاملين في القطاعين العام والخاص.
لا شكّ أن تأسيس اتحاد عمّالي مستقل جيّد بذاته أياً كانت تفاصيل التجربة، فهو يعني أن استقلال العمل النقابي لم يجتث من الحركة العمّالية، وأن سيطرة السلطة على الحركة العمّالية والنقابية ومحاولة تدجينها لم تنجح. مع ذلك، تبقى إمكانات أي اتحاد نقابي مستقل مربوطة بالحركة العمّالية والنقابية ونشاطها الحالي ومدى قدرتها على انتزاع استقلالها، فضلاً عن الشروط الموضوعية المحيطة بها.
ارتبط صعود النقابات المستقلّة بعاملين أساسيين؛ الأول هو الحراك الديمقراطي والعامل الثاني هو الصعود الاستثنائي للحركة العمّالية
شهدت النقابات المستقلّة «مرحلة ذهبية» عشية ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، بدءاً من العام 2008، وارتبط صعودها بعاملين أساسيين؛ الأول هو الحراك الديمقراطي الذي شهدته مصر في تلك الفترة وامتدّ على مدار العقد الأول من الألفية الثالثة، والعامل الثاني هو الصعود الاستثنائي للحركة العمّالية في تلك الفترة، والذي شكّل مرحلة جديدة في تاريخها.
تمثّل العامل الأول في حراك سياسي ممتدّ بدأ مع انتفاضة الأقصى في أيلول/ سبتمبر 2000 التي لاقت صدى واسعاً في مصر، وبعد تراجع العمل السياسي في تسعينيات القرن الماضي، وهيمنة شعار الحرب على الإرهاب. ساهمت الانتفاضة الفلسطينية بإطلاق موجة تضامن في مصر، شملت الجامعات والنقابات المهنية والأحياء والمدن وحتّى المدارس، فعاد النشاط السياسي إلى مصر، ونظِّمت الوقفات الاحتجاجية وقوافل الإغاثة وحملات جمع التواقيع، ما أسهم في انضمام أجيال جديدة إلى العمل السياسي والعمل العام. من ثمّ شهدت حركة التضامن مع الانتفاضة زخماً جديداً بعد الغزو الأميركي للعراق. وكانت أكثر تعبئة في بداياتها، ونُظِّمت مظاهرات حاشدة في ميدان التحرير، لكن السلطة ردّت بقمعها، واستخدمت النقابات والأحزاب الموالية لها التي اقتحمت الميدان وفضّت المظاهرات بالقوّة.
المواجهات العنيفة وسعي الحكومة لمصادرة المساحات التي انتزعتها الحركة، نقلت حركة التضامن إلى مستوى آخر وهو المطالبة بالإصلاح الديمقراطي. فشرعت الحركة في صياغة مطالبها الديمقراطية التي تقضي بإلغاء حالة الطوارئ التي امتدّت طوال عهد الرئيس المصري السابق حسني مبارك، ورفض التمديد له أو توريث السلطة لنجله جمال مبارك. وبذلك تمكّنت الحركة من تجاوز الخطوط الحمراء التي كان ممنوع حتى الحديث فيها، ومع نهاية العام 2004 ظهرت حركة «كفاية» وهدفها المعلن إنهاء حكم حسني مبارك، الذي كان قد امتدّ وقتها لما يقرب من ربع قرن.
شهد عام 2005 اتساع مساحة الإعلام المستقل من صحف وقنوات فضائية، وكسر احتكار السلطة للإعلام ومنح القوى المعارضة مساحة لم تتوفر لها في أي وقت سابق
لم يكن ظهور حركة «كفاية» ذروة الحراك الديمقراطي الذي شهدته مصر في تلك الفترة، إذ شهد العام 2005 اتساع مساحة الإعلام المستقل من صحف وقنوات فضائية، وكسر احتكار السلطة للإعلام ومنح القوى المعارضة مساحة لم تتوفر لها في أي وقت سابق، وساهم التطوّر المتلاحق في وسائل الاتصالات والتواصل الاجتماعي في استخدامها لتأدية دور لافت في تسييس قطاعات الشباب والحشد والتعبئة كما حدث في 6 نيسان/أبريل 2008، ثم في ثورة كانون الثاني/ يناير 2011.
لا يقدّم هذا العرض الموجز للحراك السياسي والديمقراطي في مصر في العقد الأول من الألفية الثالثة صورة شاملة وواضحة لما حدث في تلك الفترة، وهو لا يهدف ذلك بالأساس، بل يوضح المناخ العام الذي ظهرت فيه النقابات المستقلة، وتبلورها الفعلي في العام 2008 في سياق صعود الحركة العمّالية.
مثّل صعود الحركة العمّالية السابق على انطلاق النقابات المستقلّة تحولاً كيفياً هاماً في طبيعة الحركة العمّالية. يمكن اعتبار إضراب عمّال شركة الغزل والنسيج في مدينة المحلّة في كانون الأول/ديسمبر 2006 البداية الحقيقية لموجة الإضرابات العمّالية التي تأسست على خلفيتها النقابات المستقلة لاحقاً. فالإضراب الذي استمرّ ثلاثة أيام وانتهى بتحقيق مطلب العمّال بصرف مكافأة سنوية، تلاه موجة عارمة من الإضرابات في مختلف محافظات مصر رفعت مطالب متنوّعة تتعلّق بالأجور وظروف العمل.
إن الاتساع الكبير في الإضرابات العمّالية التي استمرت طوال العام 2007 وما بعدها، والانفتاح الإعلامي الذي شهدته تلك الفترة، بالإضافة إلى الحراك الديمقراطي، كل تلك العوامل جعلت تعامل السلطة مع احتجاجات العمّال أقل خشونة من فترات سابقة، وفي كثير من الأحيان استبدلت القمع بالتفاوض مع المضربين وممثّليهم، مما ساهم بدوره في تزايد وتيرة الإضرابات واستمرارها لفترات أطول، وبالتالي ظهور آليّات تنظيمية أنتجت قيادات عمّالية ممثلة للعمّال وتحمل مطالبهم. هذا الصعود الذي شهدته الحركة العمّالية أعطى الفرصة لإرساء أسس العمل النقابي وآليّاته من تنظيم وتمثيل وتفاوض بين العمّال، في حين كانت النقابات الموالية للسلطة تفقد السيطرة على الحركة. أيضاً كانت الإضرابات والاحتجاجات العمّالية تنتقي القيادات الطبيعية بديمقراطية مباشرة من صفوف العمال وتدفعهم لممارسة الدور النقابي المفقود.
انتهى إضراب عمّال شركة الغزل والنسيج بتحقيق مطلب العمّال بصرف مكافأة سنوية، تلاه موجة عارمة من الإضرابات في مختلف محافظات مصر رفعت مطالب لتحسين الأجور وظروف العمل
ربما تمثل حالة موفِّي الضرائب العقارية مثالاً نموذجياً على ولادة النقابات المستقلة. انطلقت احتجاجاتهم في أيلول/سبتمبر 2007، واستمرّت حتى كانون الأول/ ديسمبر 2007، للمطالبة بتعديل وضعهم الوظيفي ومساواتهم بأقرانهم في الضرائب العامة، وانتقلت احتجاجات الموظّفين من مقرّات العمل إلى مقرّات المسؤولين وصولاً إلى الاعتصام أمام مجلس الوزراء، وفي خلال مسيرة نضالهم تشكّلت لجان لإدارة وتنظيم الاحتجاج والتفاوض على المطالب، وجرى انتخاب ممثلي الموظّفين بشكل مباشر من بين الفروع والقطاعات المختلفة. وبعد أن تكلّلت احتجاجاتهم بالفوز بالمطالب، انتقلوا إلى مرحلة تأسيس نقابة مستقلّة عن التنظيم النقابي الرسمي الذي اتخذ موقفاً مناوئاً للموظّفين في خلال حركتهم.
استغرق تأسيس النقابة المستقلّة للضرائب العقارية عاماً كاملاً، وشهدت حركة الضرائب العقارية وعملية تأسيس النقابة تضامناً ومساندة واسعين من القوى السياسية المعارضة كافة. والتعبئة التي خلقتها الحركة وسط الموظّفين، والتجربة التنظيمية التي استمرّت لأشهر في الاحتجاجات، أرست دعائم العمل النقابي قبل أن تبدأ النقابة في اتخاذ إطارها التنظيمي الرسمي. بدا ذلك واضحاً عندما حرص الآلاف من الموظّفين على حضور الجمعية التأسيسية للنقابة في مقر نقابة الصحافيين في كانون الأول/ ديسمبر 2008، وعندما تظاهر المئات من الموظّفين أمام وزارة القوى العاملة في نيسان/ أبريل 2009 مصرِّين على تسليم أوراق اعتماد النقابة في الوزارة، ليتمكّن الموّفون في نهاية الأمر من تأسيس أول نقابة مستقلة بعد نصف قرن من مصادرة الدولة للعمل النقابي، ليتوالى بعد ذلك تأسيس النقابات المستقلة من قلب الحركة العمالية المتصاعدة.
ما قام به موظّفو الضرائب العقارية ليس إلا تكراراً وتأكيداً لمسار الحركة النقابية في مصر تاريخياً، فالنقابات العمّالية في مصر لم تبرز إلا عبر الحركة العمّالية ونضالها، فأول نقابة تأسّست كانت نقابة لفافي السجائر في العام 1900 على خلفية إضراب لفافي السجائر، والذي تبعه أيضاً موجة من الاحتجاجات العمّالية لتحسين الأجور، وموجة من تأسيس النقابات العمّالية، ومع كل تراجع في الحركة العمّالية وتراجع في هامش الديمقراطية كانت النقابات العمّالية تتراجع وتذبل لتصعد من جديد مع صعود الحركة العمّالية. حتى جاءت مصادرة العمل النقابي من قبل السلطة الناصرية في 1957، ليتم تأميمه بالكامل وفرض تنظيم نقابي رسمي واحد موالي للدولة وخاضع لها بالكامل.
مع كل تراجع في الحركة العمّالية وهامش الديمقراطية كانت النقابات العمّالية تتراجع وتذبل لتصعد من جديد مع صعود الحركة العمّالية
إعلان تأسيس اتحاد نقابي مستقل اليوم يأتي في سياق مختلف، فمن ناحية تبدو الحركة العمّالية متراجعة بوضوح عن تلك الفترات التي دشنّت فيها نقابات ممثلة للعمّال. ومن ناحية أخرى تبدو الأوضاع السياسية غير مواتية في مصر للعمل السياسي بشكل عام.
لكن على الرغم من عدم توافر الشروط الذاتية والموضوعية لنجاح تأسيس اتحاد نقابي مستقل، وبغض النظر عن تقييم التجربة وتوقع نجاحها من عدمه، فإن كل محاولة لرفع راية استقلال النقابات العمّالية وحقّ العمّال في التنظيم المستقل عن السلطة هي في حدّ ذاتها محاولة لحماية فكرة استقلال النقابات حتى لو لم تتحقق. لقد تبنّت طليعة الحركة العمّالية لعقود شعار استقلال العمل النقابي وحق العمال في التنظيم المستقل من دون أن تتوافر عوامل بناء التنظيم المستقل، ولكن استمرار رفع الشعار كان ضرورياً لمقاومة الهيمنة الفكرية للحكومة على الحركة العمّالية، حتى لو تمكّنت من الهيمنة التنظيمية، وهو ما جعل فكرة استقلال النقابات حاضرة عندما توافرت عواملها.