Preview التضخم في مصر

التضخّم في مصر: انخفاض اسمي وارتفاع فعلي

تبدو مؤشّرات التضخّم في شهر تشرين الثاني/نوفمبر في مصر جيّدة. بحسب نشرة التضخّم الشهرية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، انخفض معدّل التضخّم على أساس سنوي من 38.5% إلى 36.4%، وهو أدنى مستوى له منذ أيار/مايو الماضي عندما بلغ 33.7%، كما أنه الانخفاض الثاني على التوالي، بعدما وصل التضخّم إلى أعلى مستوى له في أيلول/سبتمبر الماضي مسجّلاً 40.3%.

تتوقّف الأخبار الجيّدة عند هذا الحدّ لتبدأ الأخبار السيّئة. 

التضخم في غزّة

أولاً، انخفض التضخّم بالفعل في الشهر الماضي لأدنى مستوى له منذ ستة أشهر، ولكن معدّلاته ما زالت عند مستويات مرتفعة للغاية، فمعدّل التضخّم في تشرين الثاني/نوفمبر كان أعلى على نحو ملحوظ من معدّلات التضخّم القياسية التي سجِّلت في الطفرة التي شهدتها مصر في نهاية العام 2016، إذ لم يتجاوز معدّل التضخّم حينها 33%. 

تلك الطفرة حرّكتها مجموعة من العوامل الصادمة، كان أبرزها تحرير سعر الصرف الذي ضاعف تقريباً سعر الدولار في سوق الصرف، ورفع معدّلات الضريبة على القيمة المضافة ورفع أسعار الطاقة… هذه الحزمة شكّلت صدمة يومها وأدّت إلى رفع معدّلات التضخّم إلى مستويات قياسية، ولكن الواضح الآن أن تلك المستويات لم تعد قياسية على أي حال وتم تجاوزها صعوداً.

ثانياً، يقاس التضخّم السنوي في شهر معيّن بمقارنته مع الشهر نفسه من العام الماضي. وبالتالي، انخفض التضخّم السنوي في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي قياساً إلى تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2022، الذي مثّل ذروة التضخّم في العام الماضي، إذ بلغت نسبته 19.2%. وهو ما قد يجعل انخفاض معدّل التضخّم اسمياً وليس حقيقياً. فقد بدأ العام 2022 بمعدّلات تضخّم من رقم واحد (8% في كانون الثاني/يناير 2022)، ثمّ تسارعت وتيرة الارتفاع ليصل إلى ذروته قبل نهاية العام. وبالتالي، ما يجعل معدّلات التضخّم تبدو متراجعة مع انتهاء العام الجاري هو ارتفاعها القياسي في شهر القياس، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وليس نتيجة تباطؤ ارتفاع الأسعار.

ثالثاً، لا يعبِّر الرقم العام للتضخّم عن كلّ شيء، فهناك تباين دائم بين أرقام التضخّم بحسب السلع والخدمات المختلفة، فالأسعار لا ترتفع بالنسب نفسها إلّا في حالات خاصّة، مثل تطبيق ضريبة بنسبة موحَّدة على جميع السلع والخدمات. 

لا تكشف تركيبة التضخّم عن أثاره الاجتماعية فحسب، بل تكشف أيضاً انحيازاته الاجتماعية. فارتفاع أسعار بعض السلع والخدمات يكون أكثر تأثيراً على الطبقات الفقيرة من ارتفاع أسعار سلع أخرى. تؤثّر أسعار الغذاء مباشرة على مستويات معيشة الطبقات الفقيرة وأنماط استهلاكها، ليس لأن الأسر الفقيرة تنفق النسبة الأكبر من دخلها على الغذاء، وتصل نسبة هذا الإنفاق إلى 44.6% من دخل الشريحة الأفقر في المجتمع بالمقارنة مع 20% لدى الشرائح الأغنى، وفقاً لبحث الدخل والإنفاق الأخير الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بل أيضاً لأن السلع الغذائية بالنسبة للطبقات الفقيرة لا توجد لها بدائل أرخص، إذ تعتمد أصلاً في استهلاكها على السلع الأرخص، كما أنه لا يمكن الاستغناء عنها مثل الكماليات والسلع الترفيهية.

بالنظر إلى تركيبة التضخّم في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، يظهر أن تضخّم أسعار الغذاء والمشروبات بلغ 63.9% بالمقارنة مع مؤشّر التضخّم العام البالغ 36.4%، ويمكن اعتبار أن النسبة الأخيرة هي النسبة الوسطية، فكلما انخفض دخل الأسرة ازداد معدّل التضخّم بالنسبة لها، والعكس صحيح، كلما ازداد الدخل انخفض معدّل التضخّم.

إن الفارق بين معدّل التضخّم العام ومعدّل التضخّم في الأطعمة والمشروبات واسع جداً، ويكاد يقترب من الضعف، ويتجاوزه أحياناً، وهذه الظاهرة مزمنة، ولا شك أنها تنطوي على تجريد واضح للأسر الفقيرة والمتوسطة من دخلها لصالح الأثرياء.

لا تكشف تركيبة التضخّم عن أثاره الاجتماعية فحسب، بل تكشف أيضاً انحيازاته الاجتماعية. فارتفاع أسعار بعض السلع والخدمات يكون أكثر تأثيراً على الطبقات الفقيرة من ارتفاع أسعار سلع أخرى

تبيّن هذه القراءة المبسّطة لمؤشر التضخّم العام وتركيبته أنه مؤشّر غير محايد، فالتضخّم يصيب الفقراء بمعدّلات أعلى ممّا يصيب غيرهم، وأنّ الفجوة الكبيرة بين رقم التضخّم العام ورقم التضخّم في الغذاء تعني أن الفقراء هم الذين يتحمّلون العبء الأكبر من الأزمة وأنهم سيكونون الأكثر تأثراً بارتفاع الأسعار. والحقيقة أن هذه الفجوة في مصر هي الأكبر في العالم، وفق ما تظهره نشرة الأمن الغذائي الصادرة عن البنك الدولي في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، إذ تحل مصر في المرتبة الخامسة عالمياً في تضخّم أسعار الغذاء بنسبة 71%، بعد فنزويلا ولبنان والأرجنتين وتركيا. ولكنّها تحل في المرتبة الأولى في مقياس التضخّم الحقيقي في أسعار الغذاء، أي التضخم في الغذاء مطروحاً منه التضخّم العام، الذي بلغ 35%.

تمثل هذه النسبة الفارق بين التضخّم في أسعار الغذاء والتضخّم العام، وتعبّر  عن انحيازات التضخّم الاجتماعية، فكلّما زاد الفارق بين التضخّم في الغذاء والتضخّم العام كلّما كانت آثار التضخّم على الفقراء أكثر فداحة.

ربّما لا يحتاج إدراك مدى ما يعانيه الفقراء جراء ارتفاع الأسعار لتلك الحسابات المعقّدة، سواء من المؤسّسات الدولية أو المؤسّسات الوطنية، إذ أن تضاعف أسعار السلع الغذائية الأساسية، مثل السكر والأرز والمعكرونة والبقول والخبز والخضروات وزيوت الطعام، فضلاً عن منتجات الألبان، يطرح سؤالاً ملحاً عن كيفية تدبّر الأسر الفقيرة أمورها. 

منذ نهاية العام 2016، مع بدء تطبيق وصفة صندوق النقد الدولي، لم تنقطع طفرات التضخّم في مصر، لقد تضاعفت أسعار السلع كافة مرّات عدّة في خلال تلك الفترة، وأقصت الفقراء كلّياً من الحسابات والسياسات، وعلى الرغم من فداحة النتائج لا تزال الوصفة نفسها هي المطروحة، ويبدو أنها ستجد طريقها للتطبيق قريباً لتحقّق طفرات جديدة في التضخّم، لم يعد الفقراء قادرين على تحمّلها.