هل مصر رهينة الغاز الإسرائيلي؟
تضاعفت واردات مصر من الغاز الإسرائيلي أكثر من 3 مرّات في غضون 3 سنوات، من 2.2 مليار متر مكعب في العام 2020، إلى 8.6 مليار متر مكعب في العام 2023.
يحاجج بعض المُعلّقين الإسرائيليين أن النظام المصري ليس لديه القدرة على تنفيذ تهديداته بمراجعة العلاقة السياسية مع إسرائيل، مع استمرار حرب الإبادة التي تشنّها الأخيرة في قطاع غزة، لأن مصر أصبحت أكثر اعتماداً على الغاز الإسرائيلي، ليس لإعادة تصديره إلى الخارج بعد تسييله فقط، بل لتلبية الطلب المحلّي المتنامي أيضاً بعد تراجع إنتاج الغاز من الحقول المصرية.
يتبيّن من البيانات التي نشرها موقع MEES أن إنتاج مصر من الغاز هو الآن في أدنى مستوى له منذ العام 2017، إذ تراجع للعام الثاني على التوالي، ووصل إلى 5.82 مليار قدم مكعب يومياً في العام 2023، علماً أن حقل ظهر المصري، الذي كان يُعدّ أكبر حقول الغاز المُكتشفة في البحر المتوسط، تراجع إلى المرتبة الثالثة بعد حقلي ليفياثان وتمار اللذين تحتلّهما إسرائيل، ووصل إنتاجه في أيار/مايو الجاري إلى أدنى مستوياته منذ اكتشافه قبل نحو 9 سنوات، هذا وسط تفسيرات تنكرها الحكومة المصرية عن أن أحد الآبار في الحقل قد تعرض لتشقّقات، وتسرّبت مياه البحر إلى داخله وتوقّف عن الإنتاج تماماً. ووفقاً لبيانات S&P Global، شهدت مصر في العام الماضي أكبر انخفاض في صادرات الغاز الطبيعي المسال على أساس سنوي، إذ وصلت إلى 3.7 مليون طن متري بانخفاض أكثر من 50% بالمقارنة مع صادرات الغاز في العام 2022.
تصدّر مصر الغاز المنتج من حقولها أو تعيد تصدير الغاز الوارد إليها من إسرائيل بعد تسييله في منشآتها وتحميله على الناقلات البحرية. وهكذا، وبعد أن كانت من أكبر مُصدّري الغاز في المنطقة، عادت مصر إلى وضعيّتها السابقة كمستورد صاف للغاز، يعتمد على وحدة تغويز للغاز المسال كباقي الدول المستوردة، علماً أن الغاز الوارد من إسرائيل بات يغطّي 18% من الطلب المحلي، وهذه نسبة مرتفعة جداً.
انخفاض إنتاج حقل ظهر تزامن مع ارتفاع استهلاك مصر للغاز بمقدار 300 مليون قدم مكعبة يومياً في خلال أيار/مايو الجاري، وفق تقديرات نشرتها العربية، إذ وصل الطلب المحلي إلى 6.1 مليار قدم مكعبة يومياً، ويجري تلبيته بمقدار 5 مليارات قدم مكعبة من الإنتاج المحلي للغاز، وبين 1.1 و1.15 مليار قدم مكعبة من الغاز الإسرائيلي الوارد إلى مصر.
أحد أسباب الزيادة في استهلاك الغاز هو تنامي استهلاك البلاد للكهرباء، إذ يستهلك توليدها نحو 60% من الطلب المحلي على الغاز، وتحاول الحكومة المصرية احتواء نمو الطلب منذ أواخر العام 2023، وذلك عبر قطع التيار الكهربائي لمدة ساعتين أو أكثر على مدار اليوم، بالتناوب في جميع مناطق الجمهورية، بحسب ما رصد موقع «الطاقة». علماً أن مصر ستواجه في هذا الصيف الحار، ارتفاعاً في الطلب على الغاز، يصل إلى نحو 30% أكثر من المتوسط السنوي. وفي مواجهة الأزمة، قد تضطر الحكومة المصرية إلى وقف صادرات الغاز كلياً وزيادة استيراد الغاز من مصادر مختلفة، وقد لجأت إلى استئجار وحدة تخزين وتغويز عائمة لتحويل الغاز الطبيعي المسال المستورد عبر الناقلات إلى صورته الأصلية الصالحة للاستهلاك المباشر.
هل تعني هذه الوقائع أن مصر باتت رهينة الغاز الوارد من إسرائيل؟ ربما، لكن هذه ليست القصة كاملة. لفهم الأمر بشكل أوضح، يجدر النظر إلى هذه القصّة من جانب إسرائيل نفسها، فهل تستطيع إسرائيل الاستغناء عن مصر كبلد مستورد لغازها؟ الإجابة هي كلا، وتبيان ذلك يستلزم شرح الطريقة التي تقوم بها إسرائيل بتصدير غازها.
لا تمتلك إسرائيل حتى الآن منشأة لتسييل الغاز كالمنشأتين التي تمتلكهما مصر. تصدّر إسرائيل الغاز بصورته الطبيعية من حقلي تمار وليفياثان، عبر ثلاثة أنابيب:
خط أنابيب غاز شرق المتوسط، بسعة 5.5 مليار متر مكعب سنوياً، ويمتد من مدينة عسقلان في جنوب فلسطين المحتلة، على بعد نحو 10 كيلومترات شمالي قطاع غزة، إلى العريش في مصر.
طريق شمال الأردن، بسعة حوالي 7 مليار متر مكعب سنوياً، يستخدم للتصدير إلى الأردن وكذلك لمواصلة التصدير إلى مصر عبر خط الأنابيب العربي.
طريق جنوب الأردن بطاقة استيعابية تبلغ حوالي مليار متر مكعب سنوياً، يستخدم للتصدير إلى مصانع البحر الميت في الأردن.
في العام 2023، تم إنتاج نحو 11.19 مليار متر مكعب من الغاز من حقل ليفياثان، وصُدّر 80.4% منه إلى مصر والأردن. أيضاً، تم استخراج نحو 9.17 مليار متر مكعب من حقل تمار، حيث صُدّر نحو 27.9% منه إلى مصر، أما الباقي فكان للاستهلاك المحلي. وفق هذه الأرقام، تصدّر إسرائيل لهاتين الدولتين حوالي 11.5 متر مكعب من الغاز الطبيعي، لمصر 8.6 مليار متر مكعب منه، أي حوالي ثلاثة أرباع إجمالي الصادرات.
إذن، أنابيب الغاز الإسرائيلي تمر عبر بلدين عربيين حصراً، تصدّر إلى مصر في المقام الأول ثم الأردن، فضلاً عن السلطة الفلسطينية. يعطي هذا جدية أكبر للتهديدات المصرية بمراجعة العلاقة السياسية مع الاحتلال، كون عملية تنويع وجهات الغاز بالنسبة إلى إسرائيل صعبة في الوقت الحالي.
تدرك إسرائيل أن الغاز الذي تريد تصديره هو رهينة مصر، كما مصر هي رهينة الغاز الذي تشتريه من إسرائيل، لذلك سعت إلى استغلال حاجة الاتحاد الأوروبي إلى تنويع مصادر الغاز الوارد إلى دوله واستبدال الغاز الروسي. وقد جرت محاولات حثيثة لتسويق مشروع إنشاء خط أنابيب إيست ميد، من حقول الغاز الإسرائيلية إلى قبرص، ثم إلى جزيرة كريت، ثم البر الرئيسي اليوناني، قبل أن يجتمع بخط أنابيب بوسايدن الحالي عبر البحر الأيوني إلى إيطاليا. لكن المشروع فشل في جمع التمويل اللازم لتغطية تكلفته البالغة 6 مليارات يورو.
وتدرس إسرائيل بناء منشأة لتسييل الغاز لتصديره عبر السفن كما تفعل مصر، لتستغني بذلك عن المنشآت المصرية، وتخفيف مخاطر اعتمادها على الأنابيب التي تعبر أراضٍ سيادية لدول في منطقة معقدة جيوسياسياً. فقد أصدر وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين تعليمات بإجراء فحص لخيارات بناء منشأة عائمة للغاز الطبيعي المسال في المياه الاقتصادية الإسرائيلية، حسبما ذكرت مصادر لموقع «غلوبز» الإسرائيلي. وكذلك إنشاء محطة برية للغاز الطبيعي المسال. إلا أن الكلفة الباهظة لهذا النوع من المشاريع تحدّ كثيراً من الاندفاعة الإسرائيلية للتحرر من الحاجة إلى مصر. إذ تشير التقديرات إلى أن بناء منشأة للغاز الطبيعي المسال في المياه الاقتصادية الإسرائيلية سوف يكلف 7 مليار دولار، وسيأخذ الأمر سنوات لتطوير منشأة كهذه، علماً أن عدد المنشآت العائمة للغاز الطبيعي النشطة في العالم تعد على أصابع اليدين. ولأخذ فكرة عن حجمه، يجدر معرفة أن القيمة السوقية لنيومد إنرجي، الشريك الأكبر في حقل ليفياثان (45.33%)، تقل عن 11 مليار دولار!
في الخلاصة، هل مصر رهينة الغاز الإسرائيلي؟ الإجابة: ربما، لكن إسرائيل رهينة الاستيراد المصري أيضاً.