Preview الترانسفير

وثيقة إسرائيلية: تدمير غزّة كلّياً لفرض ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء

منذ بداية حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها دولة الاحتلال على غزّة، بدا واضحاً ومُعلناً أن هدفها «الاستراتيجي» هو تحويل القطاع إلى أرض محروقة ومكان غير قابل للعيش لدفع سكّانه قسراً إلى الانتقال إلى الجنوب ومنه إلى صحراء سيناء. وقد أتت وثيقة مُسرّبة صادرة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية في 13/10/2023 تحت عنوان «خيارات التوجيه السياسي للسكّان المدنيين في قطاع غزّة» لتوثّق ذلك وتؤكِّده.

أُعلِن عن هذه الوثيقة للمرّة الأولى في خلال الأسبوع الماضي في صحيفة «كاليكالِست» من دون نشر تفاصيلها، ومن ثمّ نشرها «موقع +972» مساء 30 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي. ووزارة الاستخبارات الإسرائيلية هي هيئة حكومية صغيرة تنتج أبحاثاً سياسية وتشارك مقترحاتها مع وكالة الاستخبارات والجيش من دون أن تكون توصياتها ملزمة، ولكن ما جاء في وثيقتها يتطابق مع ما أعلنته سلطات الاحتلال عن نيّتها القضاء على سلطة حركة «حماس» في غزّة. 

التخلّص من حماس، كما جاء في الوثيقة، يعني عملياً التخلّص من أكثر من مليوني فلسطيني، تقول الوثيقة إنهم «تشرّبوا أيديولوجيّتها». وبالنسبة لإسرائيل لا يمكن من خلال احتلالهم فحسب، لأن ذلك سيخلق مقاومة ضدّها بشكل مستمرّ، وإنّما عبر إطلاق آلة القتل الهمجية وقتل ما تمكّنت منهم لدفع الآخرين إلى ترك أرضهم نهائياً. وهذا ما باشر الجيش الإسرائيلي بتنفيذه فعلاً منذ اليوم الأول للحرب، بدعم مباشر وشراكة كاملة من الولايات المتّحدة.

حسب ما تعرض الوثيقة، فإن إسرائيل «لن تقاتل وتحتل القطاع لتسلّمه إلى الفلسطينيين، بما يُهدّد بتحويله مُجدّداً إلى كيان مُعاد لها، فهي لن تكرّر أخطاءً سابقة»، وما تودّه هو حلّ نهائي يقضي بتفريغ غزّة من سكانها والتخلّص منهم

بحسب الوثيقة المُسرّبة، تراهن إسرائيل على تأييد بعض الدول العربية لعملية التطهير العرقي لسكّان غزّة، إذ ترى مصلحة لهذه الدول في التخلّص من «حماس» المختلفة عنهم أيديولوجياً. وتراهن أيضاً على تعويض ضحايا «نكبة غزّة»، المُصابين والثكالى والمهجّرين من أراضيهم، بمساعدات توزّع عليهم في الخيام التي ستُنصَب لهم في سيناء، تمهيداً لبناء مدن لهم، وتشكيل منطقة عازلة من بضعة كيلومترات علي جانبيْ الحدود المصرية - الفلسطينية، تفصل بينهم وبين أراضي بلدهم، فضلاً عن إدراج البعض منهم ضمن لوائح التوطين في بلدان غربية مثل كندا واليونان وإسبانيا. 

هذه التطلّعات الإسرائيلية التي تعبِّر عنها الوثيقة، هي قديمة قدم العقيدة الصهيونية التي تقوم على منطق التطهير العرقي وطرد السكّان واستعمار الأراضي ومنعهم بشتى الوسائل من العودة إليها، وهناك العديد من الخطط الموجودة منذ زمن بعيد، ونفّذت ذرواتها في ظلّ الحروب، ولا سيما في أعوام 1948 و1967 و1973، ولم تتوقّف في أشكالها ووسائلها المتنوّعة في أي يوم الأيام حتى الآن، حيث تعمل الآلة الحربية الضخمة على تدمير كلّي للقطاع وجعله غير قابل للعيش، ويجري ذلك في الضفّة الغربية أيضاً عبر عمليات مُمنهجة يقوم بها جيش الاحتلال والمستوطنين.

على ماذا تنصّ الوثيقة؟ 

تعرض وثيقة الاستخبارات الإسرائيلية ثلاثة خيارات؛ يقضى الخياران الأول والثاني على بقاء السكّان في قطاع غزّة، إنّما مع إسناد الحكم إلى السلطة الفلسطينية بموجب الخيار الأول، أو استحداث سلطة محلّية غير إسلامية من أوساطهم بحسب الخيار الثاني. فيما يقوم الخيار الثالث على إجلاء السكّان المدنيين من قطاع غزّة إلى سيناء.

بالنسبة إلى العقيدة الإسرائيلية «لا ينفع احتلال أرض وعلى سطحها سكّان، فالوجود العسكري في الضفْة الغربية لم يقُم ولم يُبرّر من دون وجود استيطاني»، لذلك لم يبقَ أمامها سوى التخلّص من غزّة ونقل سكانها قسراً من أراضيهم وجعلهم يقتنعون أن ما من إمكانية للعودة إليها

تعتبر الوثيقة أن الخيارين الأوليين «يعانيان من أوجه قصور عديدة»، فعدا عن المخاطر العملياتية المتمثّلة بخوض القتال في منطقة كثيفة السكّان، ممّا يرتب مخاطر على جنودها ويستنزفهم بحرب طويلة، ويفاقم خطر فتح جبهة ثانية في الشمال، ويفقدها الدعم الدولي مع استمرار نشر صور الضحايا المدنيين لفترة طويلة، فإن ذلك، وفق الوثيقة، لن يضمن لها في المقابل «اجتثاث حماس» وفرض أيديولوجيا جديدة تربّي الأجيال الجديدة على الاعتقاد بـ«شرعية دولة إسرائيل»، إمّا لعدم وجود حركات محلّية تعارض حماس ويمكن تنصيبها على القطاع وفق الخيار الثاني، وإمّا لأن السلطة الفلسطينية هي أيضاً مُعادية لإسرائيل ولا يوجد ما يضمن أنها ستروّج لشرعيّتها لا شرعية الاحتلال في حال تسليمها إدارة القطاع وفق الخيار الأول. 

بحسب ما تعرض الوثيقة، فإن إسرائيل «لن تقاتل وتحتل القطاع لتسلّمه في نهاية المطاف إلى الفلسطينيين، بما يُهدّد بتحويله مُجدّداً إلى كيان مُعاد لها، كما لن تمنح الحركة الوطنية الفلسطينية انتصاراً غير مسبوق ولن تكرّر أخطاءً سابقة، ولن تفضّ الانقسام بين الضفّة والقطاع الذي يعدّ المعوق الرئيس أمام قيام الدولة الفلسطينية». 

بالنسبة إلى العقيدة الإسرائيلية، ينمّ الخياران الأول والثاني عن ضعف إسرائيلي في العمق، ولا يحقّقان الردع المطلوب مع حزب الله، ولا يرمِّمان صورة القوّة التي ترسمها عن نفسها. عدا أنه بالنسبة إلى العقيدة الإسرائيلية «لا ينفع احتلال أرض وعلى سطحها سكّان، فالوجود العسكري الإسرائيلي في الضفْة الغربية لم يقُم ولم يُبرّر من دون وجود استيطاني. وبالتالي إن احتلال غزّة فيما سكّانها فيها سيفقدها الشرعية»، لذلك لم يبقَ أمامها سوى التخلّص منهم ونقلهم قسراً من أراضيهم وجعلهم يقتنعون أن ما من إمكانية للعودة إليها.

من هنا، توصي الاستخبارات الإسرائيلية في هذه الوثيقة باعتماد الخيار الثالث، أي ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء المصرية، كونه «الخيار الذي سيحقّق نتائج استراتيجية طويلة الأمد. لكن هناك حاجة إلى تحلّي المستوى السياسي بالصرامة في مواجهة الضغط الدولي، مع التركيز على استقطاب الولايات المتّحدة والدول المؤيدة لإسرائيل لدعم هذه الخطة».

كيف التطبيق العملاني للخطّة؟ 

يبدو واضحاً من سياق العمليات العسكرية والتصريحات السياسية أن إسرائيل تمشي خطوة خطوة باتجاه هذا الخيار. فمن الناحية العملياتية تقضي الخطّة المعبَّر عنها في الوثيقة بالدعوة إلى إخلاء السكّان المدنيين من ميادين القتال، ومن ثمّ تنفيذ عمليات جوّية مع التركيز على شمالي القطاع من أجل إفساح المجال أمام المناورة البرّية في المنطقة التي سيتمّ إخلاؤها بحيث لا تتطلّب قتالاً في مناطق مكتظّة بالسكان المدنيين. 

تقضي الخطة بإنشاء خيام ومن ثم مدن في منطقة إعادة توطين الفلسطينيين في شمالي سيناء، على أن تقام منطقة عازلة خالية بعمق كيلومترات عدة على جانبي الحدود الأراضي المصرية-الفلسطينية، تمنع عودة المدنيين إلى أراضيهم

في خلال الاجتياح البري، ستحتل إسرائيل الأرض تدريجياً ابتداءً من الشمال وعلى امتداد الحدود الشرقية، وصولاً إلى استكمال احتلال كل القطاع و«تطهير» الأنفاق من مقاتلي «حماس». وطوال هذه الفترة ستعمد إسرائيل إلى ترك المحاور المرورية باتجاه الجنوب مفتوحة، وفق الوثيقة، لإتاحة الفرصة لإخلاء السكّان باتجاه رفح. وتعتبر الوثيقة أن مصر ملزمة من ناحية القانون الدولي بالسماح بمرور الفلسطينيين إلى سيناء. وتراهن إسرائيل بكل الأحوال على هجرة السكّان بيوتهم خصوصاً أنه كان هناك سعي كبير قبل الحرب للخروج من قطاع غزّة. 

إلى ذلك، تقضي الخطّة بحسب ما ورد في الوثيقه بإنشاء خيام لإيواء الفلسطينيين مؤقتاً، ومن ثم تشييد مدن في منطقة إعادة توطينهم في شمالي سيناء. على أن تقام منطقة عازلة خالية بعمق كيلومترات عدّة على جانبي الحدود  المصرية-الفلسطينية، وعدم السماح بعودة السكان المدنيين إلى النشاط أو السكن قريباً من الحدود. 

أما لناحية استقطاب التأييد للخطة، فتقترح الوثيقة أن تروّج إسرائيل لحربها بأنها «حرب دفاعية ضدّ تنظيم إرهابي قام بتنفيذ غزو عسكري للأراضي الإسرائيلية»، وأن تسعى إلى «إطلاق مبادرة دبلوماسية واسعة النطاق بهدف استقطاب دول لتقديم المساعدة للسكّان الذين سيتم تهجيرهم، إمّا عبر تقديم المساعدات لهم أو دمجهم ضمنها مع منحهم الجنسية، ولا سيّما كندا في إطار سياسة الهجرة المتسامحة التي تتبعها، وأيضاً اليونان وإسبانيا عبر توفير الميزانيات والدعم المالي من الدول الغربية، وفي دول في شمال أفريقيا مثل المغرب وليبيا وتونس حيث تتولّى الدول العربية توفير الدعم المالي». 

ووفق الوثيقة أيضاً، يبرز تعويل على الولايات المتّحدة للمساعدة للدفع قدماً بهذه المبادرة، في رهان على  مصلحة أميركية بتحقيق نصر إسرائيلي واستعادة قدرة الردع التي تضرّرت في أعقاب هجوم حماس، واستعادة دورها كقائدة العالم ودولة رائدة في حل الأزمات. ويشمل ذلك ممارسة الضغط على كل من مصر وتركيا وقطر والسعودية والإمارات من أجل تمويل المبادرة إمّا من ناحية الموارد وإمّا من ناحية استيعاب النازحين.  

تفترض الوثيقة الإسرائيلية «دوراً لمصر يتمثّل بفتح المعابر والاستيعاب الفوري لسكان قطاع غزة الذين سيخرجون إلى سيناء، وتخصيص مناطق لتوطينهم، في مقابل الحصول على مساعدات مالية لحل أزمتها الاقتصادية». كما تراهن الوثيقة على السعودية «لتوفير سلّة دعم وتخصيص ميزانية لتنظيم نقل السكان إلى مختلف الدول، وبطريقة غير علنية تخصيص ميزانيات لحملات تظهر الضرر الذي تسبّبت به حماس»، وفي المقابل، تحصل السعودية على «التزام أميركي باستخدام حاملات الطائرات الأميركية لمواجهة إيران، وتقديم السعودية كمقدمة العون للمسلمين في الأزمات». 

في العقيدة الصهيونية: تحويل غزّة إلى «حديقة 7 أكتوبر»

إن خطط نقل السكّان الذي أعيد إحياؤها مع بدء حرب الإبادة على غزّة لا ينحصر تداولها على المستوى السياسي في إسرائيل فحسب، بل يبدو أنها تحظى بتأييد إسرائيلي شعبي، كما بدأ التسويق لها بين النخب الأكاديمية ذات الميول الصهيونية واليمينية.  

فعدا عن موجة العنف والكراهية التي عبّر عنها الكثير من الإسرائيليين على المنابر ووسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي مطالبين بتدمير غزّة فوق رؤوس أهلها ومن ثم إعادة بنائها وتسميتها «نوفا» تيمّناً بالحفلة التي اقتحمها مقاتلو حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، أيضاً نشر معهد «مسغاف» اليميني للأبحاث، والتي تعدّ إدارته مقرّبة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ورقة موقف في الأسبوع الماضي دعت إلى النقل القسري لسكّان قطاع غزة إلى سيناء، قبل حذفه المنشور عن منصّة «أكس» ومن موقعه على الإنترنت بعد تعرّضه لانتقادات دولية شديدة. 

يروّج اليمين الصهيوني إلى أنه «لن يتم بناء أي مستوطنات يهودية على أنقاض غزة، بل ستقوم دولة إسرائيل ببناء حديقة 7 أكتوبر تخليداً لذكرى ضحايا المجزرة التي ارتكبتها حماس في ذلك اليوم»

وليست هذه العلاقة الوحيدة بين الليكود ووزارة الاستخبارات ومؤسّسات الفكر اليمينية. فقد تزامنت الوثيقة مع نشر مقال لإيفياتار ماتانيا، أستاذ في جامعة تل أبيب، في صحيفة «ماكور ريشون» المرتبطة بالصهيونية الدينية واليمين المحافظ في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2023 يقول فيه صراحة، ما عبّرت عنه وثيقة وزارة الاستخبارات، وهو إن «تدمير غزة لن ينطوي على قتل الناس على نطاق واسع، لأن هدفه هو التدمير وليس قتل السكّان. ولذلك، سيتم تنفيذها من خلال نقل واسع النطاق للسكّان إلى الجنوب، واحتلال المنطقة الواقعة بين غزّة وجنوب القطاع. سيتم تقليص القطاع إلى جزئه الجنوبي». ويتابع أنه «لن يتم بناء أي مستوطنات يهودية على أنقاض غزة والجزء الشمالي من القطاع. بل ستقوم دولة إسرائيل ببناء حديقة 7 أكتوبر تخليداً لذكرى ضحايا المجزرة التي ارتكبتها حماس في ذلك اليوم، والتي ستصبح رئة خضراء في قلب غزّة ورمزاً لمسار جديد يمكن المضي فيه. ستترك هذه الخطوة علامة لا تُمحى ويمكن أن تؤدّي إلى نتيجة استراتيجية وجوهرية وتغيير في التوقّعات، وهو تغيير مهم لمستقبل الشمال ولكن أيضاً للآخرين في المنطقة الذين بدأوا يعتقدون أنه يمكن تدمير إسرائيل». ما سيحدث لغزّة بتعبير ماتانيا «سيكون مشابهاً لما فعله الرومان بقرطاجة التي حاربتهم قرابة قرن من الزمان، ودمّرت بالكامل ثم أعيد بناؤها كمدينة رومانية».