Preview الاستعمار الاستيطاني

الخطيئة الأصلية لإسرائيل

بحسب دوانا إل ماكاي، وكيرستن فينيتا، وكاري ماري نورجارد، علماء الاجتماع الذين عالجوا المسألة مؤخراً، «يَصِف الاستعمار الاستيطاني منطق القوة وعملها عندما يصل المستعمرون ويستقرون في أرض مأهولة فعلاً من مجموعة أخرى من السكان. والأهم من ذلك أن الاستعمار الاستيطاني يعمل من خلال منطق الإلغاء، ويسعى إلى اجتثاث السكّان الأصليين عبر العنف وممارسات الإبادة الجماعية واستبدال النظم الروحية والمعرفية والسياسية والاجتماعية والبيئية القائمة بأنظمة المجتمع الاستيطاني». وتتموضع هذه الظاهرة في تناقض صارخ مع الاستعمار الاستغلالي، أو الإمبريالية الرأسمالية كما يمكن أن يُسمّى، والذي يستلزم سياسة اقتصادية تتمثل في غزو البلاد بهدف استغلال سكّانها كعمالة رخيصة، ومواردها الطبيعية كمواد خام. في الحالة الأولى، ربما يدوم الاستعمار إلى الأبد؛ أما في الحالة الثانية، فهو يستمر طالما ظل الشعب الأصلي خانعاً لا يتمرّد، وطالما أن الموارد لم تنفد.

يدين مجال الاستعمار الاستيطاني بأسره إلى المؤرّخ الأسترالي باتريك وولف، وهو خبير في مجموعة متنوّعة من الحقول مثل الأنثروبولوجيا، ودراسات الإبادة الجماعية، ودراسات الشعوب الأصلية، وتاريخ العرق، وما إلى ذلك. ومع هذا، وكما قال وولف: «إنني لم أخترع مجال الدراسات الاستعمارية الاستيطانية». «لقد كان السكّان الأصليين خبراء في هذا المجال لقرون عدّة». وبالإضافة إلى ذلك، تجيء أعمال وولف المتصلة بالشعوب الأصلية في أستراليا والأميركيتين تاليةً لعملِ المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي ماكسيم رودنسون، وهو ابن لأحد ضحايا معسكر الاعتقال في أوشفيتز، والذي نشر في العام 1967 مقالاً بعنوان «إسرائيل: هل هي دولة كولونيالية استيطانية؟». ولاحقاً، بعد الثورة الإيرانية في العام 1979، صاغ رودنسون مصطلح «الفاشية الإسلامية» لوصف الطبيعة الأصولية للنظام الجديد.

 النظام العالمي الغربي بُني على الإبادة الجماعية، وتسير إسرائيل على خطوات تقليد طويل

بعيداً من تأمّل المصطلحات المبتكرة، سوف أتعمّق في الموضوع. فكما أصبح واضحاً، يكمن الفارق بين الحركات الاستعمارية الاستيطانية والاستعمار التقليدي ـ من قبيل الحكم البريطاني في الهند على سبيل المثال ـ بحقيقة مفادها أن المستوطنين لا يطمعون في سرقة موارد السكان الأصليين فحسب، بل إنهم يسعون إلى الحلول محل السكان الأصليين بالكامل. وهناك العديد من الأمثلة على ذلك: قام المستوطنون الأوروبيون بإقصاء السكان الأصليين فيما نسمّيه اليوم الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. كما قام الغزاة الأسبان بتجريد قطاعات واسعة من السكّان الأصليين في أميركا الوسطى واللاتينية من ممتلكاتهم، وذلك عن طريق الحروب والأوبئة (أنظر: جاريد دايموند: «البنادق، والجراثيم، والفولاذ: تاريخ قصير للجميع على مدار 13.000 عام الماضية»).

يصف تعريف الإبادة الجماعية في القانون الدولي على وجه الدقة ما فعله هؤلاء الأوروبيون بالسكّان المحليين: القتل الجماعي؛ فرض الظروف الرامية إلى إلحاق التدمير المادي بكل المجتمع الأصلي أو بجزءٍ منه؛ الحدّ من الولادات بين السكّان المحليين؛ ونقل الأطفال الأصليين عُنوة إلى المستوطنين. لم يضطر المستوطنون الأوروبيون الذين يسمّون اليوم أنفسهم باسم الأميركيين والكنديين والأستراليين والنيوزيلنديين إلى مواجهة العقاب على جرائمهم بحقّ الشعوب الأصلية. تماماً كما لم يفعل نظرائهم من الإسبان والبرتغاليين الذين استعمروا أميركا الوسطى واللاتينية، واستقرّوا في أراضي السكّان الأصليين على أثر إبادة غير مسبوقة. وقد أثّرت تركة الهمجية الاستعمارية الاستيطانية والدمار فيما يبدو على تصور العالم الغربي المعاصر؛ والظاهر أنه قد «تغلغل» في حمضه النووي حتى النخاع بمعنى ما، حتى أنه لم يعد يرى، أو لم يعد يرى بوضح في أحسن الأحوال شروره القديمة، ومن ثم شروره الحالية التي تفوق الشرور القديمة فداحة، لأن من يقترفها هو أحد أعضاء المعسكر الغربي.

وكما غرّد جوناثان كوك، الكاتب والصحافي الذي نصّب نفسه ناقداً إعلامياً، والحائز على جائزة مارثا غيلهورن للصحافة، «الحق أن النظام العالمي الغربي بُني على الإبادة الجماعية، وتسير إسرائيل على خطوات تقليد طويل. لا تنتهي الحركات الاستعمارية الاستيطانية دائماً إلى ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية. ففي جنوب أفريقيا، جاء نفر من المستعمرين المستوطنين «للإقامة» مع السكّان الأصليين في نظام من الفصل العنصري، وقد فاقوهم عدداً. استحوذت المجموعة البيضاء على كافة الموارد والامتيازات. لم يُسمح للسكّان الأصليين بالعيش إلاّ في الأحياء الفقيرة وفي بؤس. في مثل هذه الظروف، لن يكون السلام ممكناً إلا بشرط التخلّي عن المشروع الاستعماري الاستيطاني، وتقاسم السلطة وتوزيع الموارد على نحوٍ أكثر إنصافاً. وقد تحقّق ذلك ولو بصورة منقوصة مع سقوط نظام الأبارتهايد. يتمثّل النموذج الآخر للاستعمار الاستيطاني في تهجير السكّان الأصليين عبر الحدود ضمن عملية تطهير عرقي. وكان هذا هو الخيار الذي آثرته إسرائيل في العام 1948 ومرّة أخرى في العام 1967، عندما اعتزمت توسيع حدودها عبر الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية المتبقية في الضفّة الغربية والقدس الشرقية وغزّة. يمثّل الفلسطينيون في غزةِ درساً ملموساً في الطرق المختلفة التي يمكن للحركة الاستعمارية الاستيطانية أن تسيء من خلالها إلى السكّان الأصليين. وعلى النقيض من جنوب أفريقيا البيضاء، لا تسعى إسرائيل إلى السلام والمصالحة. إنها تفكّر في الخيارات الاستعمارية الاستيطانية الأخرى. وفي الهجوم الحالي على غزة، فإن اسرائيل تنفّذ نموذجاً مختلطاً: الإبادة الجماعية لأولئك الذين بقوا في غزة، والتطهير العرقي لأولئك الذين يستطيعون الخروج (على افتراض أن مصر سوف تلين في نهاية المطاف وتفتح حدودها). ولا علاقة لذلك بحماس. وأقصى ما يمكن للمرء قوله هو أن مقاومة حماس قد أطلقت يد إسرائيل. كان يتعيّن على إسرائيل أن تتخلّى عن نموذج الحصار والفصل العُنصري والسجن المؤبّد لسكّان محرومين من موارد، ومن حرية الحركة، ومن المياه النظيفة، ومن العمل. ولكنها عوضاً عن ذلك، عادت إلى الصيغ المجربة والمُختبرة للإبادة الجماعية والتطهير العرقي. تمثّل حماس إحدى نتائج المحنة التي يحياها الفلسطينيون في غزة منذ عقود، وليس سبب تلك المحنة».

في الهجوم الحالي على غزة، فإن اسرائيل تنفّذ نموذجاً مختلطاً: الإبادة الجماعية لأولئك الذين بقوا في غزة، والتطهير العرقي لأولئك الذين يستطيعون الخروج

ومن اللافت أن هناك باحثين وأكاديميين قد أدلوا بالملاحظات نفسها أو بتعليقات مماثلة، مثل لورنزو فراسيني من معهد البحوث الاجتماعية التابع لجامعة سوينبرن للتكنولوجيا في ملبورن بأستراليا، مؤلف كتاب «إسرائيل والمجتمع الاستيطاني» (2006)، و«الحاضر الاستعماري الاستيطاني» (2015)؛ وجوزيف مسعد، أستاذ السياسة العربية الحديثة والتاريخ الفكري في قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا في جامعة كولومبيا، مؤلف كتاب «استمرار القضية الفلسطينية: مقالات عن الصهيونية والفلسطينيين» (2006)، وغيره من المراجع العديدة الأخرى؛ وإيلان بابيه، وهو مؤرّخ إسرائيلي وباحث سياسي مغترب، وأستاذ في كلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية في جامعة إكستر في المملكة المتحدة، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في الجامعة والمدير المشارك لمركز إكستر للدراسات العرقية والسياسية، الذي ولد في حيفا، وكان لمدة عقدين من الزمن محاضراً كبيراً في جامعة حيفا، حيث شغل منصب رئيس معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية (2000-2008)؛  بابيه هو مؤلف كتاب «عشر أساطير عن إسرائيل» (2017)، و«التطهير العرقي لفلسطين» (2006)، و«الشرق الأوسط الحديث» (2005)، و«تاريخ فلسطين الحديثة: أرض واحدة وشعبان» (2003)، تلك الأعمال التي أُجبر من أجلها على الرحيل عن إسرائيل، وهو الأمر الذي يثبت وجهة نظره في جوهر حجته. علاوة على ذلك، طرح نفر من الصحافيين اليهود اليساريين الحجج نفسها لفترةٍ طويلةٍ، مثل جدعون ليفي، وكذلك الصحف المنتشرة على نطاق واسع مثل صحيفة هآرتس. وعلى هذه الحجج استند «حل الدولتين» برمّته في خلال التسعينيات، الذي أسفر عن اغتيال أحد مهندسيه الرئيسيين في إسرائيل، وهو رئيس الوزراء السابق والحائز على جائزة نوبل للسلام إسحق رابين.

وفي مقابل هذه الحجّة تقوم حجّة موهومة تعدّ وصف الصهيونية بالحركةِ الاستعمارية الاستيطانية نوعاً من الطعن في شرعية الدولة الإسرائيلية، أو شكلاً من أشكال معاداة السامية. وقد أكّد موسى ليساك أن نظرية الاستعمار الاستيطاني تَنفي الفكرة القائلة بأن الصهيونية هي الحركة القومية الحديثة للشعب اليهودي الهادفة إلى إعادة تأسيس الكيان السياسي اليهودي على أرضه التاريخية. ويرى ليساك أن الصهيونية قد شكَّلت حركة قومية وحركة استيطانية في الوقت نفسه، ومن ثم فلم تكن حركة استيطان استعمارية بحكم تعريفها. وانسجاماً مع تلك الحجّة يدافع آخرون عن الاستيطان الإسرائيلي على غرار يهودا بيرل وراشيل بوشريدج. بيد أن قراءة ومقارنة تلك الحجج مع حقائق خمسة قرون من الممارسات الاستعمارية الاستيطانية الغربية وأكثر من قرن من ممارسات الاستعمار الاستيطاني اليهودي، يكشف عن الطابع العقيم والسطحي لتلك المحاولات وعدم اتساقها مع المنطق والتجربة اليومية بوصفهما أساس العلم.

أثبت الغرب كلياً أنه لم يعد ملتزماً بالقانون الدولي ولم يعد يعترف بالإطار المؤسّسي الذي صِيغ بعد الحرب العالمية الثانية - بعد الكثير من الدماء والكثير من الألم

إن ما يجري اليوم في فلسطين، وليس في غزة فحسب ولكن في الضفة الغربية أيضاً، يتّسق مع التقاليد القديمة لممارسات الاستعمار الاستيطاني الغربي، كما يتماشى مع التقاليد الأحدث نسبياً لممارسات الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. وتنتهك هذه الممارسات أحكام القانون الإنساني الدولي كافة واتفاقية جنيف، على اعتبار أنها تؤسّس بالمثل للتطهير العرقي. ويقترف مرتكبو هذه الأعمال جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ولا بد من تقديمهم إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي تتمتع بالولاية القضائية الكاملة على هذه القضية. فإذا لم يحدث ذلك، أثبت الغرب كلياً أنه لم يعد ملتزماً بالقانون الدولي ولم يعد يعترف بالإطار المؤسّسي الذي صِيغ بعد الحرب العالمية الثانية - بعد الكثير من الدماء والكثير من الألم، بعد أن قال العالم «سوف لن يتكرّر ذلك أبداً» - بوصفه الضامن النهائي لسلام ورفاه شعوب العالم. أما إذا تحقّق ذلك، فسوف يدفع العالم بقانون الغابة إلى الوراء، حيث تسود مقولة «الإنسانُ ذئب الإنسان». أمّا فيما يتصل بالحضارة التي قطعت شوطاً طويلاً حتى بلغت الفهم والأحكام القانونية التي تمتلكها اليوم، فسوف يكون ذلك تطوراً مخيفاً، وسيكون كل  ذلك بسبب طبيعة الاستعمار الاستيطاني في الماضي الغربي.

وختاماً، في مقابلةٍ أُجريت معه مؤخراً، قال الدكتور غابور ماتي، وهو طبيب نفساني من أصل إسرائيلي فَقدَ غالبية أفراد عائلته في المحرقة وأمضى معظم حياته معانياً من تلك الصدمة، مُعلقاً على ما يراه الآن في غزة «بمعنى عميق، أشعر أن هذا أسوأ ما رأيته في حياتي كلها!». وإني على يقين من أن الشعور نفسه قد خلف تأثيراً مأساوياً على السواد الأعظم من البشر في العالم، سواء في الغرب أو خارجه. لذا، دعونا نبذل قصارى جهدنا للحيلولة دون تفاقُم هذه التراجيديا؛ فلنبذُل ما في وسعنا لدعم جهود الأمم المتحدة وأمينها العام أنطونيو غوتيريش من أجل فرض وقف إطلاق النار على الأطراف المتحاربة، حتى ينهض السلام من جديد وتنتهي المعاناة الإنسانية، مع انتهاء معاناة النظام البيئي. لا أحد منا يستطيع تحمُّل المزيد من الألم. وفلسطين لا تستطيع أن تتجشّم احتمال المزيد من الموت.

نشر هذا المقال في The European Sting في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2023.