Preview الزراعة في فلسطين

حقّ الشعب الفلسطيني في الحياة والأرض والسيادة

لقد تطوّر الردّ الإسرائيلي الانتقامي على الهجوم الذي شنّته حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بسرعةٍ، ليبلغ مرحلة لا يمكن وصفها سوى بحملة للإبادة الجماعية الرامية إلى إبادة وتهجير أهل غزة، البالغ عددهم 2.2 مليون إنسان. وحتى لحظة نشر هذا المقال (27 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، أسفرت الغارات الجوّية العشوائية التي شنّها الجيش الإسرائيلي عن مقتل أكثر من 7 آلاف شخص غالبيتهم من النساء والأطفال، وتدمير أكثر من 200 ألف وحدة سكنية، فضلاً عن المدارس والمستشفيات ودُور العبادة. وقد عمدت إسرائيل إلى قطع الإمدادات الأساسية من الغذاء والمياه والوقود والكهرباء والأدوية عن غزة لأكثرِ من أسبوعين، مما أدَّى إلى نشوء «أزمة إنسانية وصحية وصلت إلى أبعاد كارثية» بحسب منظمة الصحة العالمية.

يُشكّل تقويض قطاع الزراعة وصيد الأسماك في فلسطين المستمر لعقود أحد الأبعاد المتعدّدة للمشروع الاستعماري الإسرائيلي

وحتى قبل التصعيد الأخير للعنف، كان سكّان غزّة يعانون بالفعل من أزمة إنسانية. فمنذ العام 2007، تفرض إسرائيل حصاراً غير شرعي حول القطاع، وهو ما أجبر 77% من سكّانه على الاعتماد على المساعدات الغذائية. واليوم، تقول منظمات مثل «لا فيا كامبيسينا» و«أوكسفام» إن الحكومة الإسرائيلية تلجأ إلى استخدام المجاعة كاستراتيجية حرب.

يُشكّل تقويض قطاع الزراعة وصيد الأسماك في فلسطين المستمر لعقود أحد الأبعاد المتعدّدة للمشروع الاستعماري الإسرائيلي. قبل شرين الأول/أكتوبر 2023، كان 35% من الأراضي الزراعية في غزّة يندرج ضمن «منطقة محظورة الدخول» تمتدّ على الحدود مع إسرائيل. ونتيجة لذلك، فَقَدَ 113 ألف مزارع إمكانية الوصول إلى أراضيهم الواقعة ضمن هذه المنطقة. وعلاوة على ذلك، منذ العام 2014، تقوم طائرات تابعة لإسرائيل برش مبيدات الأعشاب،  بما فيها مبيد الغليفوسيت بصورة منتظمة في خلال فترات الحصاد، وغالباً ما تفعل ذلك بالتزامن مع هبوب الرياح باتجاه غزة. وفي كانون الثاني/يناير 2020 وحده، ألحق رش المبيدات أضراراً بنحو 281 هكتاراً من المحاصيل الفلسطينية، وأضرّ بنحو 350 مزارعاً وتسبّب في خسارة تزيد على مليون دولار.

وقد حوّل الأبارتهايد الإسرائيلي صيد الأسماك في غزة - وهي مهنةٍ تضرب بجذورها عميقاً في الثقافة والاقتصاد الوطنيين - إلى واحدة من أكثر المهن الخطرة وغير الآمنة في فلسطين. إن نقص وقود المعدات الناجم عن القيود المفروضة على دخول البضائع إلى غزة، يجعل من ارتياد البحر أمراً عسيراً. وكثيراً ما يتعرّض الصيّادون الذين يجازفون بتخطّي الأميال البحرية الستة المحدَّدة للسجن أو لإطلاق النار مباشرة من جانب الإسرائيليين. وهو ما ينتهك القانون الدولي الذي يسمح للدولة الفلسطينية بممارسة السيادة الدائمة على مسافة 60 ميلاً بحرياً. بالمحصلة، لا يستطيع سوى نصف الصيّادين المسجّلين في غزّة والبالغ عددهم 3,800 صيّاد لا أكثر مواصلة عملهم، مما يضرّ في نهاية المطاف بما يقرب من 35 ألف إنسان يعتمدون على هذا القطاع في كسب عيشهم.

يدفع نظام الفصل العنصري المزارعين الفلسطينيين إلى استخدام بذور ومواد كيميائية تبيعها الشركات الإسرائيلية، وهو ما يلحق الدمار بالتربة وتنوّعها البيولوجي ويترك المزارعين في حالةٍ من الديون والفقر

وفي الضفّة الغربية، انتهز المستوطنون الإسرائيليون فرصة الهجوم الحالي على غزة لتصعيد هجماتهم العنيفة والاستيلاء على المزيد من الأراضي، مما أدّى إلى تشريد المئات من المزارعين الفلسطينيين. مرّة أخرى، هذه هي الاستراتيجية المستخدمة منذ سنوات.

تشكّل مساحة الضفّة الغربية نحو 90% من الأراضي الزراعية، بيد أن شطراً كبيراً منها يخضع للسيطرة الإسرائيلية المباشرة منذ اتفاقية «أوسلو» في العام 1993. وعن طريق فصله بين المزارع والمراعي وبين القرى، يَحوُل الجدار العازل الذي يقوم الجزء الأكبر منه داخل الضفة الغربية دون وصول آلاف المزارعين الفلسطينيين إلى أراضيهم. في العام 2019، فُتحت 12 بوابة فحسب من أصل 76 بوابة مخصّصة لعبور المزارعين يومياً، في حين ظل العبور من 56 بوابة منها مشروطاً بالتصاريح. وإضافة إلى ذلك، يدفع نظام الفصل العنصري المزارعين الفلسطينيين إلى استخدام البذور والمواد الكيميائية الزراعية التي تبيعها الشركات الإسرائيلية، وهو ما يلحق الدمار بالتربة وتنوّعها البيولوجي ويترك المزارعين في حالةٍ من الديون والفقر. وقد أدّى ذلك إلى تراجع  الزراعة بصورة كبيرة، وهو القطاع الحيوي بالقياس إلى المجتمع الفلسطيني والهوية الفلسطينية من الناحية التاريخية.

وحتى قبل التقليص الأخير للخدمات الأساسية في غزة، كان وضع الفلسطينيين أليماً بالفعل. وفيما يتّصل بالحصول على المياه، فرضت الحكومة الإسرائيلية قيوداً مُشدّدة، وهو ما تسميه منظمة «الحق» لحقوق الإنسان بـ«الفصل العنصري المائي». ويعتمد الفلسطينيون على إسرائيل منذ العام 1982 للحصول على إمدادات المياه، حيث تسيطر شركة المياه الوطنية «مِيكوروت» على البنية التحتية. ويِمثل استخراج إسرائيل للمياه الجوفية في الضفّة الغربية 85% من إمدادات البلاد. وفي الوقت الذي تعمل فيه شركة مِيكوروت على ضمان ربط المستوطنات غير الشرعية بشبكة المياه، يُمنع على الفلسطينيين باستمرار الحصول على التصاريح اللازمة لبناء آبار مياه جديدة، وغالباً ما يعمد الجيش الإسرائيلي إلى تدمير الصهاريج المستخدمة في تجميع مياه الأمطار الخاصة بالفلسطينيين.

ويتجلّى هذا التمييز الأساسي على نحوٍ صارخ عندما نأخذ في الاعتبار أن المستوطنين الإسرائيليين في الضفّة الغربية يستهلكون في المتوسّط ​​ستة أضعاف ما يستهلكه الفلسطينيون من المياه.

ولا تقتصر آثار الفصل العنصري المائي على الزراعة فحسب، بل إنها تمتد لتشمل الصحة كذلك. لقد أصبحت الأمراض المنقولة بالمياه السبب الرئيسي للوفاة في غزة بسبب نقص المياه في المدن والقرى، فضلاً عن عدم إمكانية الوصول إلى المياه الجارية في المجتمعات الريفية. بيد أن السيطرة على المياه تعني القدرة على ضبطِ السدود. وقد أفاد مركز «الميزان» لحقوق الإنسان أن تلاعب السلطات الإسرائيلية بسدود مياه الأمطار أو حواجز المياه قد تسبّب في حدوث فيضانات مباغتة على الأراضي المزروعة في غزة.  

ويتجلّى هذا التمييز الأساسي على نحوٍ صارخ عندما نأخذ في الاعتبار أن المستوطنين الإسرائيليين في الضفّة الغربية يستهلكون في المتوسّط ​​ستة أضعاف ما يستهلكه الفلسطينيون من المياه

وقد طوّرت المنظمات الفلاحية والمدافعين عن السيادة الغذائية عدداً من المبادرات لمواجهة تلك الظروف الصعبة. وتتخذ هذه المبادرات شكل التسويق التضامني وسلال الكرامة لنساء غزة، وبنوك البذور المحلية، والزراعة البيئية. ونظراً لخطر التجريم والقمع الذي تواجهه تلك المجموعات وأمثالها من جانب إسرائيل، فمن المهم الاعتراف بهذه المبادرات ودعمها.

إن الوضع الذي تواجهه غزة أبعد ما يكون عن الحرب بين الجيوش، وأقرب ما يكون إلى إبادة شعب بأسره. والهدف من وراء ذلك لا لبس فيه: السيطرة على الأرض الفلسطينية كاملة، ولكن هذه المرة على نحوٍ أكثر سُفوراً وعن طريق الإفراط الهائل في العنف. وهو الأمر الذي لطالما سعت إسرائيل إلى تحقيقه من دون عقاب أو انقطاع منذ العام 1948، عندما قامت بتهجير 750 ألف فلسطيني قسراً. ولهذا السبب، لا بد من مواصلة الضغط الجماعي للدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، فضلاً عن إنهاء نظام الفصل العنصري. من حقّ السكّان والمزارعين والصيّادين الفلسطينيين أن يستعيدوا السيادة على حياتهم وأرضهم.

نشر هذا المقال في مدونة GRAIN في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2023.