خطط الاستغناء عن العمّال الفلسطينيين: فصل من فصول التطهير العرقي
منذ قيامها، أحكمت إسرائيل قبضتها على الاقتصاد الفلسطيني في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، وخنقته. وأخضعت الفلسطينيين للحاجة إلى العمل في مستوطناتها وقطاعات اقتصادها كعمالة رخيصة. وفي جميع المحطّات، استخدمت إسرائيل هذه الحاجة كسلاح في حربها الاستعمارية الدائمة ضد الفلسطينيين بهدف تصفيتهم كشعب وإنهاء قضيتهم.
في سياق حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها على قطاع غزّة، لجأت إسرائيل إلى تشديد إجراءات الإغلاق في الضفّة الغربية والقدس، وسارعت إلى إلغاء تصاريح العمل كإجراء عقابي جماعي. ففي موازاة سعيها إلى تدمير مقوّمات الحياة كلّها في القطاع، بهدف تحويله إلى مكان غير صالح للعيش ودفع سكّانه إلى طلب الخروج من «الجحيم»، تسعى أيضاً إلى خلق أوضاع في الضفّة الغربية غير قابلة للتحمّل، ليس من خلال زيادة التحكّم الأمني وتقطيع أوصال المدن والقرى ومنع التنقّل بينها وإفلات عصابات المستوطنين وجنود الاحتلال لترويع الفلسطينيين وتهجيرهم، بل أيضاً من خلال زيادة معدّلات البطالة بينهم وحرمانهم من الدخل وتعظيم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية بهدف دفعهم إلى الرحيل أيضاً.
حتى عشية عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان خُمْس القوى العاملة الفلسطينية يعملون في قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي والمستوطنات، ولاسيّما في قطاعات البناء والصناعات التحويلية والتجارة والسياحة والزراعة. ووفق تقديرات منظّمة العمل الدولية، وصل عدد هؤلاء العمّال إلى نحو 193 ألف عامل وعاملة في العام 2022، معظمهم من الضفّة الغربية (نحو 174,500 عامل يمثّلون نحو 22.5% من مجمل القوى العاملة في الضفة الغربية، ونحو 18,500 عامل من قطاع غزّة يمثلون نحو 0.8% من مجمل القوى العاملة في القطاع).
إلغاء تصاريح العمل لهذا العدد الكبير من العمّال الفلسطينيين، بالإضافة إلى التضييق العنصري ضد الفلسطينيين في أراضي الـ48 واستدعاء نحو 360 ألف من جنود الاحتياط ونزوح المستوطنين من الجنوب والشمال والتغيّب الواسع عن العمل بسبب ظروف الحرب وتعطيل نظام التعليم، كلّها عوامل ساهمت في ظهور فجوة كبيرة في سوق العمل، ما دفع هيئات أصحاب العمل الإسرائيليين وقادة اليمين الصهيوني إلى المطالبة بتسريع الخطط الرامية للتخلص من حاجة الاقتصاد الإسرائيلي إلى العمالة الفلسطينية واستبدالها بعمالة أجنبية وافدة من بلدان مختلفة، ولاسيما من الهند. ويسود الاعتقاد في إسرائيل أن حرمان الفلسطينيين من العمل والدخل في ظل اقتصاد فلسطيني خاضع كلّياً للهيمنة والسيطرة الإسرائيليتين سوف يؤدي إلى سعي العمّال الفلسطينيين إلى الهجرة، أو «الترحيل الطوعي»، وفق المصطلح السائد حالياً للترانسفير الذي تحلم به النخبة الصهيونية، والذي دعمه وزير المال الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، وأبدى استعداد حكومته للمشاركة في دعمه مالياً، معتبراً أنه «الحل الإنساني الصحيح بعد 75 عاماً من اللجوء والفقر والمخاطر».
النكبة الثانية: إرهاب عسكري واقتصادي
الخطط الإسرائيلية لإحلال عمالة أجنبية محل العمالة الفلسطينية، ليست جديدة، وإنما يجري تنفيذها منذ سنوات طويلة سبقت الحرب الحالية، وقد وقعت الحكومة الإسرائيلية اتفاقيات ثنائية مع دول عدّة لنقل عشرات آلاف العمّال إلى فلسطين المحتلة.
في هذا السياق، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الحرب على غزة بحرب الاستقلال الثانية. وأعلن وزير الاقتصاد والصناعة، نير بركات، أن على إسرائيل أن لا تترك عجلات الاقتصاد الإسرائيلي في يد العمّال الفلسطينيين، وعليها تطوير الاستقلال من خلال إضافة العمّال الأجانب من جميع أنحاء العالم بشكل خاضع للرقابة والمسؤولية».
حتى عشية «طوفان الأقصى» كان خُمْس القوى العاملة الفلسطينية يعملون في قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي والمستوطنات، ولاسيّما في قطاعات البناء والصناعات التحويلية والتجارة والسياحة والزراعة
بالإضافة إلى خطط نقل عشرات آلاف العمّال من الهند، أعلنت وزارة الإسكان الإسرائيلية أنها أرسلت بعثة إلى مولدوفيا لاستيراد 1,200 عامل إضافي في مجال البناء. ووقّع وزير الداخلية الإسرائيلي موشيه أربيل إتفاقية مع السفير السريلانكي لدى إسرائيل، نيمال باندارانايكا، لاستيراد 10 آلاف عامل في قطاع الزراعة، ضمن سياسة الإحلال التي تحدّث عنها بركات.
ويقدّر عدد العمّال الأجانب، الذين تنوي إسرائيل استقدامهم عبر اتفاقيات ثنائية، بنحو 145,200 عامل من الهند وسريلانكا ومولدافيا، بالإضافة إلى أعداد أخرى غير محدّدة من الصين ودول شرق آسيا وأفريقيا.
يحتاج العمّال الفلسطينيين إلى تضامن العمّال في البلدان التي تستهدفها إسرائيل للحصول على العمالة البديلة، بهدف إفشال الخطط المذكورة، وهو ما لبّته النقابات العمّالية المركزيّة والاتحادات النقابيّة المستقلّة في الهند، التي أصدرت بياناً شديد اللهجة، طالبت فيه الحكومة الهندية بـ«الإلغاء الفوري لاتفاقية تصدير العمّال الهنود إلى إسرائيل. والوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين واحترام حقوقهم في وطن سيادي لأن هذا هو الطريق الوحيد إلى السلام».
وكانت حكومة مودي الهندية قد وقعت مع وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، في خلال زيارته للهند في أيار/مايو 2023، اتفاقية لإرسال 42 ألف عامل هندي إلى إسرائيل، منهم 34 ألف في صناعة البناء والتشييد، ليحلوا محل العمّال الفلسطينيين. فيما تخطّط الحكومة الهندية لتصدير نحو 90 ألف عامل بناء إلى إسرائيل حسب الطلب الإسرائيلي. ورأت النقابات الهندية أن هذه الاتفاقية تتعامل مع العمّال وكأنهم سلعة، ووصفت حكومة بلادها بأنها غير أخلاقية، وأنها متواطئة مع إسرائيل وتلعب «دوراً حقيراً في دعم المخططات الإسرائيلية لطرد العمّال الفلسطينيين».
تعامل الاحتلال مع قضية العمل الفلسطيني
على مدى 36 سنة بعد اندلاع الإنتفاضة الأولى، سعى الإسرائيليون إلى تقليص اعتمادهم على العمّال الفلسطينيين. تشير بيانات الأجانب في إسرائيل، الصادرة عن قسم تخطيط السياسات، إلى أن عدد العمّال الأجانب القانونيين في إسرائيل في الفصل الثالث من العام 2023 بلغ نحو 122,253 عاملاً، في حين ما زالت أعداد العمّال الفلسطينيين وازنة وتقترب من 200 ألف عامل.
في الواقع، انتهجت دولة الاحتلال سياسات القمع الاقتصادي في الضفّة الغربية وقطاع غزّة منذ احتلالهما في العام 1967. وفق مقال نشرته مؤسّسة الدراسات الفلسطينية حرصت إسرائيل على الاحتفاظ بتحكّمها المباشر بمنح التصاريح، ورخص البناء، والتحكّم بالمعابر والموانئ وفرض ضرائب على التجّار والمنشآت الاقتصادية لحماية المنتجات الإسرائيلية من أي منافسة فلسطينية محتملة، ما أسفر عن تقلّص سوق العمل وتراجع الأعمال.
وفي العام 1972، أصدر الجيش الإسرائيلي «تصريح الدخول العام»، الذي يعد بمثابة أمر من الحاكم العسكري الإسرائيلي يمنح سكان الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة إذن التجوّل والدخول إلى أراضي 1948، لكن من دون أن يُسمح لهم بالسكن أو حتى المبيت. في خلال تلك الفترة وحتى صدور قرار إلغاء التصريح العام في العام 1991 وإغلاق طرق المرور إلى الداخل الفلسطيني المحتل، وصل عدد الفلسطينيين العاملين داخل أراضي 1948 إلى حوالى ثلث القوى العاملة الفلسطينية. وتأتي هذه السياسة تعبيراً عن اتجاه تبنّاه وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، موشيه ديان، القائم على السيطرة الكاملة على الاقتصاد الفلسطيني، وامتصاص العمّال بدلاً من استيعابهم بالتنظيمات الفلسطينية المقاومة.
انتهجت دولة الاحتلال سياسات القمع الاقتصادي في الضفّة الغربية وقطاع غزّة منذ احتلالهما في العام 1967، وتحكّمت بمنح التصاريح ورخص البناء والمعابر والموانئ لحماية المنتجات الإسرائيلية من أي منافسة فلسطينية
ألغت إسرائيل بعد الانتفاضة الأولى تصريح الدخول العام واستبدلته بالتصاريح الفردية. وبدأ العمل على استقدام العمالة الأجنبية لمنع أي ضرر يلحق بالقطاعات الاقتصادية الاسرائيلية بسبب انقطاع العمّال الفلسطينيين عن العمل. وعلى الرغم من استقدام العمالة الأجنبية إلا أن تشغيل الفلسطينيين استمر بعد توقيع اتفاقية أوسلو في العام 1994. فعادت نسبة الفلسطينيين من القوى العاملة الفلسطينية التي تعمل داخل الأراضي المحتلة إلى الارتفاع من جديد وازدادت من 16.2% في العام 1995 إلى 22.9% عشية الانتفاضة الثانية في العام 1999.
ويشير تقرير صادر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينية تحت عنوان «العنصرية ضد العمّال الأجانب: وجه آخر لعنصرية اليهود في إسرائيل»، إلى أن إسرائيل بدأت باستقطاب العمالة الأجنبية من الدول الفقيرة إثر الانتفاضة الأولى، فقد هبطت نسبة الفلسطينيين من 4.5% من القوى العاملة الإسرائيلية في مقابل 1.6% للعمّال الأجانب قبل الانتفاضة الأولى، إلى 3.3% في مقابل 8.7% للعمال الأجانب في خلال العام 2003. ومع انتهاء الانتفاضة الثانية في بداية العام 2005 عادت تصاريح العمل للفلسطينيين للارتفاع مجدّداً.
طرد العمال الفلسطينيين إجراء عقابي وليس اقتصادي
أسقطت التجربة الطويلة، فرضية ديان التي تعتبر أن تشغيل الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة في العام 1948، يحول دون استيعابهم في منظّمات المقاومة الفلسطينية. فقد اندلعت انتفاضتين، انطلقت الأولى بشرارة عمّالية فلسطينية بعد أن دهست شاحنة إسرائيلية سيّارة تقل عمّالاً فلسطينيين على معبر بيت حانون (إيريز) شمال قطاع غزّة في العام 1987. كذلك لم يحد ارتفاع أعداد التصاريح من تنفيذ عشرات العمليات العسكرية للفصائل والمجموعات الفلسطينية.
أسقطت التجربة الطويلة، فرضية ديان التي تعتبر أن تشغيل الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة في العام 1948، يحول دون استيعابهم في منظّمات المقاومة الفلسطينية
ويبيّن تأرجح نسبة القوى العاملة الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة في العام 1948، ارتباط التشغيل وتصاريح العمل بالمواجهات الأمنية الكبرى، كإجراء عقابي جماعي إذ أن هذه النسبة تراجعت مع اندلاع الانتفاضتين، الأولى والثانية. لتعاود نسبة الفلسطينيين الذي يعملون داخل أراضي 1948 إلى الإرتفاع مجدّداً في كل مرة. ولم تكن نسبة التشغيل تتأثر بشكل كبير نتيجة الأعمال العسكرية المحدودة بما فيها عمليات الأسر، كأسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في العام 2006، أو معركة الرصاص المصبوب في العام 2008، أو الحرب على غزة في العام 2014.
وعلى العكس من ذلك يعبّر تشغيل الفلسطينيين عن حاجة الاقتصاد الإسرائيلي لهذه العمالة ليس في قطاعي البناء والزراعة فحسب. فوفق مكتب العمل الإسرائيلي أدّت القيود المفروضة على دخول الفلسطينيين إلى المصانع والمناطق الصناعية في إسرائيل بسبب حرب السيوف الحديدة إلى زيادة الحاجة للعمّال الصناعيين من 11 ألف وظيفة قبل الحرب إلى حوالى 20 ألف وظيفة.