Preview عسقلان

الحرب تضرب الاقتصاد الإسرائيلي

يجمع العديد من المحلّلين الاقتصاديين في إسرائيل على أن تكاليف الحرب على غزّة التي ستتكبّدها إسرائيل ستزيد أضعافاً عمّا تكبّدته في حرب تموز 2006 ضد لبنان، التي تعد واحدة من أكبر حروبها الحديثة وقد كلّفتها نحو 5,5 مليار دولار.

يعود هؤلاء إلى كتب التاريخ، ويتذكّرون حرب العام 1973 التي أعقبها استدعاء 200 ألف جندي من الاحتياط إلى الخدمة العسكرية وحجبهم عن الاقتصاد، ومن ثمّ زيادة الإنفاق العسكري على حساب نفقات أخرى، مما دفع إسرائيل إلى حافة الانهيار المالي بعد انتهاء الحرب، والذي لم تتعافَ منه إلا في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات. 

 الانتفاضات الفلسطينية كلّفت الاقتصاد الإسرائيلي معدّل 3.8% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً

لا يُخفى أن إسرائيل تخوض حربها الحالية من موقع اقتصادي ومالي أقوى ممّا كان عليه في سبعينيات القرن الماضي، فموازنتها العامة لعام 2023 تتجاوز 132 مليار دولار واحتياطات مصرفها المركزي بالعملات الأجنبية تصل إلى 170 مليار دولار، وهو ما يمدّها بقدرة أكبر على خوض الحرب والصمود فيها. مع ذلك، يقول البنك المركزي الإسرائيلي، وفق ما جاء في الإيكونوميست، إن الانتفاضات الفلسطينية التي استمرّت بشكل متقطع منذ أواخر الثمانينيات إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كلّفت الاقتصاد الإسرائيلي معدّل 3.8% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً. فما بالك بحرب لا يُعرف لليوم إلى أي مدى قد تتسع.

وعلى الرغم من أن تقدير تأثير الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي لا يزال أمراً صعباً بسبب ارتفاع مستوى عدم اليقين فيما يتعلّق بنطاق الصراع ومدته، إلا أن هناك إجماع بأن الاقتصاد الإسرائيلي سوف يسجّل تراجعاً حاداً بسبب تداعيات الحرب على قطاعات اقتصادية عدّة. وتتفاوت التقديرات بين مصادر عدّة، ففي حين توقّعت «جي بي مورغِن» انخفاض الناتج المحلي في الربع الرابع من العام الحالي بنحو 11% بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، توقّعت «ستاندرد آند بورز» تراجعاً أكبر قدّرته بنسبة 18,5% في خلال الفترة نفسها.

تكاليف الحرب الإسرائيلية

قوى عاملة عاجزة عن خدمة الحرب والاقتصاد معاً

منذ اليوم الثاني للحرب، استدعت إسرائيل أكثر من 300 ألف شخص من الاحتياط إلى الخدمة العسكرية، وهو ما يشكّل نحو 8% من مجمل القوى العاملة، ممّا انطوى على تأثيرات حادّة على العديد من الشركات التي فقدت جزءاً من موظّفيها، ولا سيما شركات التكنولوجيا التي فقدت نحو 20% من قواها العاملة للالتحاق بالخدمة العسكرية. 

الذين استدعوا من الاحتياط يندرجون ضمن الفئة العمرية الأكثر إنتاجية في الاقتصاد

ما يمكن قوله حالياً هو أن القوى العاملة الإسرائيلية غير كافية لخدمة الحرب والاقتصاد معاً، خصوصاً أن الجنود الذين استدعوا من الاحتياط يندرجون ضمن الفئة العمرية الأكثر إنتاجية في الاقتصاد الإسرائيلي، وضمن العاملين في القطاعات الأكثر تطوراً، أي في قطاع التكنولوجيا والصناعات المتقدّمة التي تعد ركيزة أساسية للاقتصاد الإسرائيلي.

لا تنحصر أسباب نقص العمالة في استنزافها في الخدمة العسكرية، فثمة جزء كبير من المجتمع الإسرائيلي خارج هذه القوى بالأساس، ولا سيما المتدينين الذين لا يعملون بالأساس وتنفق عليهم الحكومة.

أيضاً، تعاني العمالة غير الماهرة من تراجع كبير في عددها، كون الجزء الأكبر منهم هم من الفلسطينيين الذين أوقفت سلطات الاحتلال تراخيص عملهم في المصانع والمستوطنات الإسرائيلية. تضمّ هذه العمالة نحو 200 ألف من الضفة الغربية و15 ألف من غزّة. وبحسب صندوق النقد الدولي، كان العمّال الفلسطينيون المحجوبين عن العمل في إسرائيل في خلال الانتفاضة الثانية سبباً رئيساً لتراجع النمو الإسرائيلي منذ منتصف الثمانينات وحتّى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

الإنتاج والاستهلاك المعطّلان وجهان للانهيار

«لا يوجد عمل»، هذا هو العنوان الذي اختارته «الفايننشال تايمز» لأحد تقاريرها عن الوضع في إسرائيل، وقد يكون الأكثر تعبيراً عن واقع الاقتصاد الإسرائيلي اليوم وما يخاف السياسيون من تداعياته بعد انحسار المعارك ومع الاندفاعة الشعبية لخوض الحرب. 

هناك تخوّف من نقص المواد الغذائية وبروز أزمة في توافر اللحوم الداجنة التي يُنتج 69% منها في شمال فلسطين

يقول أحد سائقي التاكسي في شمال إسرائيل في تحقيق «الفايننشال تايمز» أنه كان يجري 20 إلى 40 رحلة يومية، لكنه في الأسبوع الماضي أجرى معدل رحلة يومياً نتيجة فراغ الشوارع من حركتها.

بالإضافة إلى تأثر العديد من القطاعات الاقتصادية بتراجع القوى العاملة، أدّى إخلاء المستوطنات الإسرائيلية المتاخمة لغزة ولبنان والحذر الذي يسيطر على باقي الأراضي المحتلة، إلى إغلاق العديد من الشركات والمصالح الخدماتية  التي تشكّل نحو 69% من الناتج المحلّى الإجمالي. وهناك تخوّف من نقص المواد الغذائية بسبب توقّف الزراعة في شمال فلسطين وجنوبها نتيجة تعطّل اليد العاملة، عدا عن بروز أزمة في توافر اللحوم الداجنة التي يُنتج 69% منها في الشمال.

في مقابل تهاوى الإنتاج يبرز الوجه المقابل لتراجع النمو أي تهاوي الاستهلاك أيضاً، وهو ما يلقي تحدّيات إضافية على السياسيين في إسرائيل. يأتي ذلك، بعدما غيّر الإسرائيليون أنماط استهلاكهم نتيجة الذعر من الحرب وملازمتهم بيوتهم، وبحسب ما نقلت العديد من الصحف العبرية، يلازم هؤلاء منازلهم للأسبوع الثالث على التوالي، وتكاد تفرغ المطاعم والمولات من روّادها المعتادين.

عجز حكومي

في مواجهة التداعيات الاقتصادية زادت المطالبات بتدخّل الحكومة لتخفيف حدّة الأكلاف الاقتصادية، وقد أعلن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، السبت الماضي، عن «خطة لمساعدة الشركات لتغطية تكاليفها التشغيلية، وتقديم مساعدات مالية للعمّال الذين يعجزون عن الوصول إلى أماكن عملهم»، وهو ما قد يزيد بحسب وزير المالية العجز المالي الكلي إلى 3.5% من الناتج المحلي هذا العام، بارتفاع قدره 1.1 نقطة مئوية عما كان مقدّراً.

أيضاً من المتوقّع أن يرتفع الدين الحكومي من 60% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 62% في نهاية العام. وقد سجّل حتّى الآن ارتفاعا لافتا في كلفة التأمين ضدّ التخلّف عن دفع سندات دين الحكومة الإسرائيلية لخمس سنوات، من 55 نقطة قبل الحرب إلى نحو 137 نقطة. وهو ما يعد تعبيراً عن الضغوط الاقتصادية على المالية الإسرائيلية على المدى القصير.

تكاليف الحرب الإسرائيلية

التكنولوجيا والسياحة… والغاز

أكثر القطاعات تأثراً بالحرب هي القطاعات الأبرز في الاقتصاد الإسرائيلي، ولا سيما قطاع التكنولوجيا. فوفقاً لمسج أجرته هيئة الابتكار الإسرائيلية تبيّن أن «70% من شركات التكنولوجيا تواجه صعوبات تشغيلية، إذ تضرّر أكثر من ربعها نتيجة النقص في كوادرها الرئيسة، وتواجه 40% منها صعوبات في الحصول على تمويل بعد إلغاء مجموعة من الاستثمارات أو تجميدها. وأيضاً «اضطرت أكثر من 70% من الشركات إلى تأجيل أو إلغاء مشاريعها، وأفادت بعدم قدرتها على إجراء التجارب التقنية أو المضي بمشاريع البحث والتطوير، ومواجهة مشاكل في الاستيراد والتصدير». 

بلغ عدد الرحلات الجوية التي ألغيت حتى 19 تشرين الأول/ أكتوبر أكثر من 2000 رحلة

إلى ذلك، لم يكن القطاع السياحي بمنأى عن تداعيات الحرب، وهو بالأساس قطاع شديد التقلّب وتأثراً بأوضاع مشابهة. في الواقع، تعد الأشهر الممتدّة من تشرين الأول/أكتوبر إلى كانون الأول/ديسمبر الأكثر نشاطاً سياحياً في إسرائيل، ويعد القطاع السياحي من أهم القطاعات الاقتصادية بعد القطاع التكنولوجي والصناعات المتطوّرة، وقد أدّت الحرب إلى تعطلّه بالكامل. يقول غانيت بيليبغ رئيس منظّمة الجولات السياحية في إسرائيل إنه جرى إلغاء جولات سياحية حتّى عامين مُسبقاً. وقد بلغ عدد الرحلات الجوية التي ألغيت حتى 19 تشرين الأول/ أكتوبر أكثر من 2000 رحلة. يضاف إلى ذلك «إلغاء العديد من العطلات والحفلات والمهرجانات بسبب ملازمة الأشخاص بيوتهم». 

تكاليف الحرب الإسرائيلية

يُعد حقل تمار ثاني أكبر الحقول الإسرائيلية بعد ليفياتان، وهو متوقّف عن الإنتاج منذ 9 تشرين الأول/أكتوبر. ينتج هذا الحقل نحو 46.5% من الغاز الإسرائيلي، ويذهب أكثر من 90% من إنتاجه لتغذية الاستهلاك المحلي. وهذا ما يعني إعادة تحويل الإنتاج في حقلي ليفياتان وكاريش نحو الحاجات المحلية، وبالتالي خسارة عائدات تصدير الغاز التي  بلغت نحو 2.5 مليار دولار في العام الماضي. يشار إلى أن 42% من مجمل الغاز المنتج في إسرائيل يتم تصديره إلى الأردن لتغطية حاجاتها المحلّية من الغاز، وإلى مصر التي تعيد تصدير نحو 80% من هذه الكميات إلى أوروبا وتستهلك الكميات الباقية محلياً. قد يكون تصدير الغاز الإسرائيلي حديث العهد وإيرادات تصديره متواضعة بالمقارنة مع حجم الاقتصاد، ولكن إسرائيل تضع الكثير من الآمال السياسية والاقتصادية عليه.