معاينة lebanon exports imports

نزيف العملات الصعبة المستمرّ: 59.5 مليار دولار سدّدها لبنان للخارج في 5 سنوات

بعد توقّف دام عاماً كاملاً، استأنفت إدارة الجمارك اللبنانية نشر البيانات المتعلّقة بتجارة لبنان الخارجية. وبحسب الإحصاءات بلغت قيمة صادرات لبنان السلعية الصناعية والزراعية نحو 3.8 مليار دولار في العام 2024، فيما بلغت قيمة الواردات نحو 17.3 مليار دولار. وبالنتيجة، سجّل الميزان التجاري في لبنان عجزاً بقيمة 13.5 مليار دولار، وهو ما يتجاوز نصف الناتج المحلي الإجمالي للبنان (55.6%)، الذي يقدّره البنك الدولي بنحو 24.3  مليار دولار.

لا تغطّي الصادرات سوى نسبة قليلة من الواردات (20.2%). ويعود هذا الضعف إلى أسباب بنيوية في النموذج الاقتصادي اللبناني ترسّخت منذ تسعينيات القرن الماضي، عندما شجّعت السياسات المعتمدة الاستيراد لتلبية الطلب المحلّي وعاقبت الإنتاج. إلا أن بقاء فاتورة الاستيراد عند هذا المستوى المرتفع بعد انهيار سعر صرف العملة في العام 2019 يشير إلى الفرصة الضائعة التي فوّتها لبنان لتخفيف الاعتماد على الاستيراد. والواقع أن قوى السوق تُرِكت لتعيد تموضعها، وكانت النتيجة أن أعاد النموذج اللبناني إحياء بعضاً من سماته القديمة، ولكن هذه المرّة بصورة أكثر رداءة، وبعطبٍ أساسي هو تعطّل الجهاز المصرفي الذي شكّل في السابق عموده الفقري. لقد أعاد النموذج اللبناني إنتاج نفسه بتشوّهات أكثر وأفدح، خصوصاً أن قيمة العجز التجاري لا تزال مصدر النزف الأكبر والأهم والأخطر للعملات الصعبة والاحتياطيات الأجنبية للبنان.

نزف العملات الصعبة

بين عامي 2020 و2024، استورد لبنان سلعاً من الخارج بقيمة 80.1 مليار دولار وصدّر سلعاً بقيمة 20.6 مليار دولار. وبالنتيجة نزف منه نحو 59.5 مليار دولار لتغطية العجز في الميزان التجاري.

يُفترض بأي برنامج إصلاحي أن يفكّر بالطريقة التي تحدّ من هذا النزيف، وتساهم في تخفيف الحاجة إلى تدفّق الدولارات لتمويل الاستهلاك، خصوصاً أن 81.4% من فاتورة الاستيراد أو ما يساوي 14.1 مليار دولار جرى إنفاقها في العام الماضي على سلع ومنتجات كان يمكن استبدالها بمنتجات محلّية مثل الصناعات الغذائية والأدوية، أو التخفيف منها عبر تبنّي سياسات عامّة مختلفة مثل المشتقّات النفطية والسيارات والألواح الشمسية عبر الاستثمار في إنتاج الطاقة وتبنّي خطط للنقل العام المشترك.

مصادر نزف العملات الصعبة

39.5% من فاتورة الاستيراد: مشتقات نفطية وسيارات ومولّدات وألواح طاقة شمسية

تعدّ المشتقات النفطية مسؤولة عن أكثر من ربع فاتورة الاستيراد (26.6%)، وقد بلغت قيمتها نحو 4.6  مليار دولار في العام 2024. يستخدم لبنان كمّيات كبيرة من المازوت والفيول أويل لإنتاج الكهرباء سواء في المصانع العامّة أو عبر المولّدات الخاصّة لتعويض النقص في الطاقة الإنتاجية لمؤسّسة كهرباء لبنان. كما يستخدم كمّيات كبيرة من البنزين لتأمين حاجات النقل عبر السيّارات الشخصية بسبب الافتقار إلى نظام عام للنقل المشترك.

هذه المشكلات موروثة منذ ما قبل انهيار العام 2019. وبدلاً من إعادة صياغة السياسات العامّة لتأمين الكهرباء عبر الاستثمار في إنتاج الطاقة وتنويع مصادرها، وكذلك تطوير النقل العام المشترك، تُرِكت الأمور لمجراها. ومن أجل حماية مصالح مستوردي المشتقات النفطية وتجّار السيارات، تُهدر سنوياً بضعة مليارات من الدولارات على استهلاك سلع ملوّثة ومُستنزفة للموارد.

إن إضافة تجارة السيّارات والدرّاجات الجديدة والمستعملة وقطع الغيار ومولدات الكهرباء والطاقة الشمسية والبطاريات وغير ذلك من سلع متصلة بالطاقة والنقل، يرفع فاتورة استيراد السلع ذات الصلة بالطاقة والنقل إلى 6.8 مليار، ليشكّل نحو 39.5% من مجمل فاتورة الاستيراد. وهذا يبيّن حجم السوق الذي نما على هامش أزمتي الكهرباء والنقل، وبالتالي لا يمكن تصوّر إصلاح الميزان التجاري من دون تصوّر سياسات تهدف إلى التخفيف من حاجة الناس إلى حلول شخصية وخصرصاً للحصول على الكهرباء ووسائل النقل.

18.9% من فاتورة الاستيراد تنفق على الصناعات الغذائية والمنتجات النباتية والحيوانية

استورد لبنان صناعات غذائية بقيمة 1.2 مليار دولار في العام الماضي، كما استورد 2.2 مليار دولار من المنتجات النباتية والحيوانية، ليشكِّلا معاً نحو 18.9% من مجمل فاتورة الاستيراد، أو ما مجموعه 3.27 مليار دولار. علماً أن القمح والسكر يشكّلان نحو 10% من مجمل فاتورة الصناعات الغذائية والمنتجات النباتية والحيوانية.

يأتي ذلك، فيما لبنان يمتلك مساحة واسعة ومنوّعة من الأراضي الزراعية غير المُستغلّة، ويأتي أيضاً على الرغم من امتلاكه قطاعاً من الصناعات الغذائية نما في خلال الأزمة لتلبية الاحتياجات المحلّية. فوفق الحسابات الوطنية للبنان، نمت حصّة قطاع التصنيع، حيث تحتل الصناعات الغذائية مرتبة متقدّمة فيه، من 10% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2019 إلى 20% في العام 2021. في المقابل، احتلّت الصناعات الغذائية والمشروبات المرتبة الأولى بين الصادرات في العام 2024، واستحوذت على 22.7% من مجمل الصادرات، وبلغت قيمتها نحو 613 مليون دولار، ولا تختلف هذه النسب والقيم عمّا كانت عليه قبل الأزمة، ما يؤشّر إلى أن التطوّر في هذا القطاع جرى استثماره لتلبية الحاجات المحلّية وهو ما يمكن البناء عليه.

14.9% من فاتورة الاستيراد أنفقت على المعادن الثمينة واللآلئ والمجوهرات

استورد لبنان أحجاراً كريمة ومعادنَ ثمينة بقيمة 2.57 مليار دولار، وهو ما يشكّل نحو 15.2%من مجمل فاتورة الاستيراد في العام 2024. تستحوذ السبائك الذهبية على النسبة الأكبر في هذا البند، وقد بلغت قيمة الواردات منها نحو 2.23 مليار دولار أو 87% من مجمل فاتورة هذا البند. والواقع أن سعر الذهب واصل ارتفاعه طوال العام الماضي، وسجّل في بداية هذا العام أعلى مستوياته على الإطلاق. ومن هنا، يأتي الطلب الزائد على الذهب كوسيلة لحفظ القيمة أو تحقيق أرباح سريعة.

في المقابل، احتلت اللآلئ والأحجار الكريمة والمجوهرات مركزاً متقدّماً بين الصادرات اللبنانية، إذ شكّلت 21.1% من مجمل هذه الصادرات في العام 2024 وبلغت قيمتها نحو 572 مليون دولار. ولكن لبنان ليس منتجاً للمواد الخام المستعملة في صناعة المجوهرات، التي تمثل القسم الأكبر من القيمة التبادلية لهذا النوع من السلع، بل هذه الصادرات هي في غالبيتها مستوردة، ويعاد تصديرها إما بحالتها المستوردة وإما بعد أعمال صناعيّة بسيطة عليها تتسم بقيمة مضافة منخفضة.

8.1% من فاتورة الاستيراد أنفقت على المنتجات الكيماوية

شكّلت منتجات الصناعات الكيماوية نحو 8.1% من مجمل فاتورة الاستيراد في العام 2024، وبلغت قيمتها 1.39 مليار دولار، علماً أن 43% منها (أي 552 مليون دولار) هي لاستيراد الأدوية. لا يزال كارتل الأدوية قوياً ونافذاً في السوق والدولة، وقد نجح في الحفاظ على مصالحه على الرغم من وجود صناعة أدوية في لبنان، وأيضاً على الرغم من الأزمة الاجتماعية والاقتصادية المستمرّة منذ 6 سنوات التي ساهمت في تدهور معيشة الناس وقدرتهم الشرائية وحاجتهم.

في المقابل، شكّلت صادرات المنتجات الكيميائية نحو 12.2% من مجمل الصادرات بقيمة 330 مليون دولار، وهي عبارة عن صادرات عطور ومواد تجميل وغيرها من المواد الكيماوية المركّبة.