Preview لبنان عاجز عن مواجهة التغيّر المناخي

لبنان عاجز عن مواجهة التغيّر المناخي

فيما لا يزال لبنان يتخبّط في أزمته الاقتصادية منذ أواخر العام 2019، يبرز تحدّي التغيّر المناخي ليُضاف إلى لائحة المخاطر التي تواجه البلاد. يحتلّ لبنان المراتب الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث الجهوزيّة لمجابهة التغيّر المناخي والتكيّف مع تداعياته، إذ حلّ في المركز 161 من أصل 192 دولة في العام 2022 كنتيجة مباشرة لعجز البنى التحتية وضعف المؤسّسات فيه، وذلك وفق تقرير البنك الدّولي «لبنان: تغيّر المناخ والتنمية» (Climate Change and Development Report, CCDR) الذي صدر اليوم.

التغير المناخي

يدرس التقرير تأثيرات التغيّر المناخي على أهداف لبنان للتعافي والتنمية، ويوائم بين الحاجات القصيرة الأجل ورؤية البلاد للتنمية المستدامة للعام 2040. في الواقع اللبناني الحالي، من المتوقّع أن يتسبّب التغيّر المناخي بارتفاع متوسّط درجات الحرارة بين 1.7 و2.2 درجة مئوية بحلول العام 2040، مقارنة بما كان عليه في الفترة الممتدّة بين العامين 1980 و2005، وأن تزيد الأيام التي سوف تتجاوز فيها الحرارة 35 درجة مئوية إلى ما بين 22 و25 يوماً بحلول العام نفسه. عمليّاً، يعني ذلك موجات حرّ أكثر تكراراً، مترافقة مع ظروف مناخيّة متطرّفة، وتقلّبات في مواسم هطول الأمطار والعواصف، ممّا يعرّض المدن الساحلية كافة لخطر أن تصبح مغمورة تحت المياه.

أعلن لبنان عن أهدف مناخيّة طموحة للعام 2030، إلّا أنها تفتقر للآليات التطبيقية، وإدخال آليّات مكافحة التغيّر المناخي في سياساته وعمل مؤسّساته. يسلّط التقرير الضوء على أربعة قطاعات حيوية وفقاً لدورها في إعادة تفعيل الخدمات الأساسية وهي: الطاقة والمياه والنقل والنفايات الصلبة، وذلك عبر اعتماد سيناريوهين؛ الأول هو سيناريو «التخبّط»، أي استمرار الأمور على ما هي عليه بغياب أي إصلاحات جوهرية، والسيناريو الثاني هو «التعافي الأقل كلفة»، الذي يفترض البدء بتنفيذ كافة الإصلاحات المطلوبة على الصعيدين النّقدي والمالي، وإعادة هيكلة المصارف والتفاوض مع الدائنين.

في الحقيقة، تساهم هذه القطاعات بالنسب الأكبر من التغيّر المناخي. في العام 2019، ساهم قطاع الطاقة وحده بنحو 50% من مجمل الانبعاثات في لبنان، ومن ثمّ قطاع النقل (25%)، والصناعة (11%) والنفايات الصلبة (6%)، أي أن الطاقة والنقل والنفايات الصلبة ساهمت مجتمعة بأكثر من 80% من هذه الانبعاثات.

عدم معالجة كلفة التغيّر المناخي تؤثّر على النمو

يتوقّع التقرير أن تأثيرات التغيّر المناخي على لبنان وتداعياته سوف تنعكس على نسب النمو، إذ سوف ينخفض الناتج المحلّي بنحو 1.1 إلى 2% سنوياً بحلول العام 2040، متأثراً بسوء الخدمات في قطاعات عدّة لا سيّما المياه والطاقة. ناهيك عن آثار الفيضانات وانخفاض المحصول الزراعي وضعف السياحة، ممّا يستدعي التحرّك سريعاً للتعامل مع هذه المخاطر.

في الواقع، على المدى القصير، سوف يعتمد بناء نظام أكثر متانة للتكيّف مع الخضّات المناخية المستقبلية على مدى قدرة لبنان على التعافي من وضعه الحالي وتطوير مشاريع تساهم على التأقلم. يستدعي ذلك الاستثمار بنحو 7.6 مليار دولار في القطاعات الأربعة المذكورة سابقاً موزّعة على الشكل التالي: 4 مليارات دولار للطاقة، 1.8 مليار دولار للمياه، 200 مليون دولار للنفايات الصلبة، بالإضافة إلى 1.6 مليار دولار للنقل.

قطاع الطاقة أكبر عائق أمام اقتصاد لبنان وبيئته

تحلّ كلفة قطاع الطاقة على المستهلك من بين الأعلى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع بصمة كربونية عالية وزيادة في نسب التلوّث. استمرار الوضع الحالي في قطاع الطاقة على ما هو عليه، بحسب التقرير، سوف يزيد من الكلفة والانبعاثات كما استيراد الفيول، ممّا يبرز الحاجة الملحّة للاستثمار في مصادر طاقة أقل كلفة. في حال لم يُبنَ أي معمل جديد بحلول العام 2031، سوف تؤمّن معامل مؤسّسة كهرباء لبنان الحالية نحو 10% من الطّلب فقط، وهو ما سوف يفاقم الاعتماد على مولّدات الأحياء الملوّثة وباهظة الثمن (وصل سعر الكيلواط ساعة إلى نحو 60 سنتاً في العام 2020) ومشاريع الطاقة الشمسيّة الموزعة.

إن التحوّل نحو قطاع طاقة أكثر استدامة وأقل انبعاثاً للكربون سوف يخفّض الكلفة على الاقتصاد بنحو 41% والانبعاثات بنحو 43%، ناهيك عن آثاره طويلة الأمد. في سيناريو «التخبّط» الممتدّ من 2023 إلى 2040، يشير التقرير إلى أن التكلفة المباشرة السنوية سوف تكون أكبر بنحو 78% من الكلفة الحالية مع مزيد من الانبعاثات، فيما سوف ينخفض الطلب على الكهرباء بنحو 16% مقارنة باعتماد سيناريو «التعافي الأقل كلفة».

في المقابل، إن اعتماد سيناريو «التعافي الأقل كلفة» سوف يفتح المجال أمام استثمارات كبيرة في مجال الطاقة المتجدّدة كما في الغاز الطبيعي بين العامين 2023 و2040. تقدّر بنحو 5.9 مليار دولار بحلول العام 2040. وسوف يكون لذلك تداعيات كبيرة أبرزها إمكانيّة الوصول إلى إنتاج 4.2 غيغاواط من الطاقة الشمسيّة في العام 2030، و8.7 غيغاواط في العام 2040 (تبلغ القدرة الحالية نحو 1,100 ميغاواط بحسب المركز اللبناني لحفظ الطاقة في نهاية 2023)، مع انخفاض في كلفة الكهرباء بنحو 60%. أمّا على صعيد الغاز الطبيعي، فيمكن الوصول إلى 3.2 غيغاواط في العام 2030، و5.7 غيغاواط في العام 2040.

إنّ هدف لبنان بالوصول إلى 30% طاقة متجدّدة في العام 2030 ليس صعب المنال، لا بل يمكن اجتيازه والوصول إلى أعلى منه في سيناريو «التعافي»، إذ يقدّر الوصول إلى نحو 42% في العام 2030 مقارنة بنحو 19% فقط في سيناريو «التخبّط».

سوف يكون التحوّل الطاقوي في لبنان صعباً وموجعاً على المدى القصير، لكن تداعياته على الاقتصاد والناتج المحلّي ككل سوف تكون جيّدة على المدى البعيد. يبقى الأساس في معالجة المشاكل البنيويّة في مؤسّسة كهرباء لبنان وإصلاح الشبكة العامّة لكي تتمكّن من استيعاب كميّات الطاقة المتجدّدة المتوقّعة. 

قطاع المياه الأكثر هشاشة

يُعتبر قطاع المياه الأكثر هشاشة بين القطاعات الأربعة المشمولة في التقرير، على الرغم من أن المتساقطات هي من الأعلى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ يُتوقّع أن تنخفض نسبة توافر المياه بنحو 9% بحلول العام 2040، وصولاً إلى 50% في فترات الجفاف، ما قد يتسبّب بخسائر على الاقتصاد وتأثيرات على قطاعات أخرى مثل الزراعة نتيجة تراجع الريّ إذ تُقدّر خسائر الزراعة بنحو 250 مليون دولار سنوياً، وعلى السياحة التي تقدّر الخسائر التي قد تلحق بها بنحو 500 مليون دولار سنوياً. 

يعاني القطاع من ضعف الإدارة وتداخل الصلاحيّات بين العديد من الوزارات والمؤسّسات، وهو ما يعيق مواجهة تداعيات التغيّر المناخي، فيما يغيب التنسيق ويصعب الحصول على معطيات دقيقة بهدف بناء الخطط وإقرار وتطوير السياسات. في سيناربو «التخبّط»، أكثر من 70% من السكّان سوف يعانون من نقص المياه وارتفاع كلفة تأمين الخدمة، فيما اعتماد سيناريو «التعافي الأقل كلفة» سوف يسمح بزيادة المرونة في قطاع المياه وخفض نسبة تأثره بالتغيّر المناخي، إلّا أن ذلك يحتاج إلى استثمارات بنحو 1.8 مليار دولار.

يدعو التقرير إلى معالجة موضوع كفاءة المياه، وزيادة الإنتاجية في استخدامها، وزيادة نسبة توافر المياه خصوصاً في بيروت الكبرى بين العامين 2024 و2027. وهو ما يتطلّب على المدى القصير إصلاح الشبكات وتطويرها وفصل شبكات الصرف الصحي، وخفض نسبة هدر المياه (Non-Revenue Water)، وبناء قدرة استيعابية أكبر، وتطوير محطّات للمعالجة. أيضاً، لا بد من البحث عن إجراءات وتقنيات صديقة للبيئة للمساهمة في خفض استخدامات المياه مثل الاستثمار في الصناعات الغذائية.

54% من طرقات لبنان معرضّة للانهيارات

تشير دراسة لشبكة الطرقات في لبنان إلى أن 54% منها معرّضة للتأثيرات المناخية التي سوف تتسبّب بانهيارات تضرب البنى التحتيّة وتعيق حركة النقل. يعدّ مطار بيروت والمرافئ اللبنانية معرّضة لارتفاع منسوب مياه البحر، وبالتالي تبرز حاجة لإعادة النظر بسبل مكافحة هذه المخاطر.

لقد ساهم هذا القطاع، ولا يزال، بنحو 25% من إجمالي استهلاك الفيول في البلاد للعام 2018، ويعاني من شحّ في الأطر القانونية وغياب المحفّزات، التي تشجّع على التنقّل الأخضر، ما ينعكس سلباً على الاقتصاد ككلّ. يُقدّر التقرير تكلفة الآثار المباشرة للفيضانات والانهيارات المتوقّعة على الطرقات بنحو 1.4 مليار دولار من دون احتساب تكلفة إعاقة التنقّل على الأشخاص. ويقدّم رؤية لتحويل وسائل النّقل العام على الطاقة الكهربائية، من خلال وضع 4,000 باص صغير (electric minibuses) بكلفة 370 مليون دولار، و2,000 باص كبير بكلفة 530 مليون دولار في الخدمة بحلول العام 2040. إن التحوّل من السيارات إلى وسائل النقل العام سوف يخفّف الانبعاثات بنحو مليون طن من ثاني أوكسيد الكاربون بحلول العام 2040. أيضاً، إن إصلاح الطرق الأكثر عرضة للمخاطر يقدّر بكلفة 465 مليون دولار.  

99% من نفايات لبنان في المطامر في 2023

على الرغم من إقرار القوانين اللازمة المتعلّقة بالنفايات الصلبة منذ العام 2018، ووجود خطة لوزارة البيئة للعام 2026، لا تزال قلّة الكفاءة وغياب التنسيق بين مختلف الأطراف المعنيّة طاغيين. بحسب تقديرات البنك الدولي، تغطّي منشآت معالجة النفايات نحو 8% فقط من مجمل النفايات المنتجة في لبنان. يُعتبر قطاع النفايات رابع أكبر مساهم للانبعاثات على الصعيد الوطني، علماً أن 90% منها على شكل الميتان (Methane)، في حين يذهب أكثر من 75% من ميزانيات البلديّات على جمع النفايات والتخلّص منها.

يشير التقرير إلى أن نسبة النفايات التي تنتهي في المطامر ارتفعت من 77% في العام 2018 إلى 99% في العام 2023، مع تضاعف نسبة المكبّات العشوائية الذي ارتفع بحدود 42% عن العام 2018. من هنا، تعد إدارة جمع النفايات الصلبة وفرزها أكثر الحاحاً لمواجهة آثارها الكارثية على البيئة والصحّة، ويُطرح إصلاح القطاع عبر اعتماد أساليب الإدارة المتكاملة التي ستخفّف الانبعاثات، وإعادة تأهيل معامل الفرز والمعالجة الحالية، وبناء معامل جديدة والاستثمار في بناء وتجهيز مراكز طمر صحيّة.