سراب الغاز اللبناني

  • لنفترض اكتشاف كمّيات تجارية قابلة للتصدير، إلى أين تصدّر؟ وعبر أي أنابيب؟ ومن خلال أية اتفاقيات؟ ومع أي شركاء؟ الكلّ بدأ يوقّع الاتفاقيات للبيع والنقل والشراكة في المنطقة، ما عدا لبنان وسوريا
     
  • وفق أكثر السيناريوهات إيجابية، قد يتراوح مدخول لبنان السنوي من إيرادات الغاز بين 2.8 مليار و1.8 مليار دولار بحسب تقلّبات أسعار النفط، في حين أن خسائر القطاع المصرفي تتجاوز 80 ملياراً

 

يبدو أن ثمّة قناعة عند الطبقة الحاكمة في لبنان بأنه ليس مطلوباً منها أن تقوم بأي جهدٍ أو عملٍ في سبيل تصحيح الأوضاع القائمة، على الرغم من أنها طبقة حاكمة، والمفروض أن تكون منكبّة ليلاً ونهاراً على تحسين مستوى الخدمات العامّة، وعوامل الاستقرار، وشبكات الأمان الاجتماعية، والبنى التحتية… وغيرها من مسؤوليّات أي حكومة أو أي هيئة وظيفتها أن تحرص على رفاهية الشعب، أو على الأقل، على حاجاته الأساسية، لا سيّما في نظام يُفترض أنه برلمانيٌ، أي أن الشعب له ممثّلوه المنتخبين.

تُترجم هذه القناعة بشكل عملي، ومنذ زمنٍ طويل، بانكفاء عدد كبير من المسؤولين عن محاولة الإصلاح أو المبادرة، والتعويض عن ذلك بالاكتفاء بوصف الوضع والتكهّن حول المستقبل، وغالباً ما يكون ذلك بالتعبير عن انتظار حدثٍ ما – يكون عادة خارجاً عن متناولهم – ويُتوقع أن يقلب المعايير كافة لوحده، ليعود لبنان مستقيماً ومستقرّاً وجميلاً ومتقدّماً وواعداً، بل جنّة على الأرض. وذلك كأن أي حدث، ولو كان إيجابياً في المطلق، ليس بحاجة إلى عمل جدّي ودؤوب ودائم من السلطات بكاملها لمواكبته ومواكبة آثاره والبناء على إيجابيّاته وتحصين ارتداداته الإيجابية.

توالت فترات الانتظار، من حدثٍ إلى آخر. انتظر لبنان نهاية الحرب ليعود بلداً رائعاً من دون أي حاجة لإعادة بنائه وبناء مؤسّساته بشكل مناسب، ثمّ انتظرنا انسحاب الاحتلال الإسرائيلي، وبعده انسحاب الجيش السوري، كما انتظرنا السلام وانتخابات أميركا وفرنسا وإيران وغيرها من المناسبات، التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل. وبعد الكارثة التي حلّت بالبلد انتظرنا صندوق النقد والمجتمع الدوليين، وكأن مجرّد التوقيع على اتفاق كفيل بانتقالنا إلى جنّة الخلد، متناسين مئات الإجراءات والإصلاحات الضرورية ليؤدّي أي توقيع إلى أي نتيجة جيّدة. والآن، وبعد أن ثبُت للمرّة العاشرة أن كلّ ما هو مُراد هو تمرير الوقت لإطفاء أي نفس تغييري، جاء سراب الغاز ليخنق أي وعي لضرورة الإصلاح.

احتسبت الدراسة مداخيل الدولة المرتقبة من كلّ مليار متر مكعب، وقدّرتها بين 51.4 و77.3 مليون دولار في البلوك رقم 4، وبين 45,7 و66,4 مليون دولار في البلوك رقم 9

العمل الجدّي لم يبدأ بعد

بعد ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، انهمرت التوقّعات المُفرطة بإيجابيتها، وبدأ بعض المسؤولين يتصرّف كأن العمل انتهى قبل أن يبدأ. ولكن، على الرغم من كلّ الخطوات التي سارت ببطء شديد حتّى اليوم، لم يبدأ العمل الجدّي لاستكشاف حقول الغاز المُحتملة في المياه اللبنانية، ما عدا محاولة واحدة في البلوك رقم 4 شمال لبنان وتوقّف هذا العمل بعدها كلّياً. لذلك يجب التعامل مع التقديرات حول ثروة الغاز بحذر شديد.

أجرت المؤسّسة اللبنانية للمواطنة دراسة حول الغاز في المياه اللبنانية، ونشرتها في شهر آب/ أغسطس 2022، بعد ندوةٍ  في المعهد العالي للأعمال (ESA) في بيروت عرضت خلالها النتائج والتوصيات.

استندت هذه الدراسة إلى تقديرات لكمّيات الغاز في شرق المتوسّط وضعتها US Geological Survey في عام 2010، وهي تتراوح بين 1,418 و6,441 مليار متر مكعب. أمّا الهيئة اللبنانية للبترول، فقد قدّرت كمّيات البلوك 1 بنحو 422 مليار متر مكعب، والبلوك 4 بنحو 368 مليار متر مكعب، والبلوك 9 بنحو 430 مليار متر مكعب (وذلك بنسبة احتمالية توازي 50%).

بالطبع، لا علاقة على الإطلاق بين هذه التقديرات وبين الافتراضات الهائلة التي يطلقها البعض، ويعد بآلاف المليارات من الدولارات مقابلها. على سبيل المثال، إن مخزون الغاز المقدّر اليوم لقطر يصل إلى 23,860 مليار متر مكعب، وبالتالي تكفي هذه المقارنة بين الكمّيات التي تختزنها الدول المُصدِّرة للغاز والإمكانيّات المُفترضة في البحر اللبناني لدحض الوعود الزائفة، فلبنان لن يكون دولة نفطية، بمعنى ان المعطيات المتاحة لا تسمح بالاعتقاد ان ريوع تصدير الغاز ستكون كافية للاعتماد عليها وحدها، على غرار بعض الدول المصدرة للنفط.

تُقدّم ثروة الغاز المفترضة في لبنان كحلّ سحري لكلّ المشاكل، وما علينا إلّا انتظار استخراجها وبيعها حتّى ننعم بالدولارات التي نحتاجها، فنسدِّد الودائع ونوفي الديون ونموّل المشاريع، وتعود الأمور إلى مجاريها. ولكن علينا التعامل مع الحقائق لا السراب، فالتقديرات المُتاحة، حتّى في أكثر السيناريوهات إيجابية، لا تدعم هذه الوعود بأي شكل من الأشكال.

إن نظرة مُعمّقة إلى إنتاج الطاقة الحالي في لبنان وتقدير تطوّرها، تبيّن أن إنتاج الكهرباء من الغاز يكون أرخص بنحو الثلث من الكلفة الحالية. وبالتالي، من البديهي الافتراض أن الاولوية في استخراج الغاز ستكون مُخصّصة لتأمين حاجات لبنان لإنتاج الكهرباء داخلياً

ماذا تخبرنا التقديرات؟

قدّرت دراسة المؤسّسة اللبنانية للمواطنة الكلفة المفترضة المتوسّطة لاستخراج الغاز، وقد استندت إلى مقاربات مع حقول الغاز في المتوسّط، وتوصّلت إلى تقدير لحدّ المردودية المطلوب يتراوح بين 1.5 دولار/MMBTU و2 دولار/MMBTU ليكون السعر النهائي ما بين 3.75 و5 دولار/MMBTU، أي بهامش يتراوح بين 2.25 و3 دولار/MMBTU. (الـMMBTU هو مصطلح يعني مليون وحدة حرارية وهي وحدة القياس الُمعتمدة في مجال الغاز). وانطلاقاً من هذه المعادلة احتسبت الدراسة مداخيل الدولة المرتقبة من كلّ مليار متر مكعب، وقدّرتها بين 51.4 و77.3 مليون دولار في البلوك رقم 4، وبين 45,7 و66,4 مليون دولار في البلوك رقم 9.

تُعدُّ هذه المداخيل جيّدة، ولكن تحقيقها وتحديد حجمها الإجمالي وقيمة التدفّقات السنوية ليس بالبساطة التي يجري تسويقها، فما الذي سنكتشفه في الواقع؟ كيف ستُدار العملية برمّتها؟ ما هي الأهداف؟ ولمصلحة من؟ هي الأسئلة التي تحدِّد أجوبتها سقف التوقّعات.

إن نظرة مُعمّقة إلى إنتاج الطاقة الحالي في لبنان وتقدير تطوّرها، تبيّن أن إنتاج الكهرباء من الغاز يكون أرخص بنحو الثلث من الكلفة الحالية. وبالتالي، من البديهي الافتراض أن الاولوية في استخراج الغاز ستكون مُخصّصة لتأمين حاجات لبنان لإنتاج الكهرباء داخلياً. استندت الدراسة لتقدير الحاجات لإنتاج الكهرباء في خلال السنوات المقبلة على توقّعات الاستهلاك المبنية على تطوّر الناتج المحلّي والناتج المحلّي للشريك التجاري الأساسي للبنان، ليشكّل ذلك عنصراً أساسياً لمعرفة الكمّيات من الغاز التي قد تستعمل للإنتاج المحلّي، ليصار بعد ذلك إلى تقدير ما يمكن تصديره وتقدير قيمة صادراته.

يجب الاستعداد بالإصلاح والحوكمة الجيّدة لإمكانية الحصول على أصول بحجم لا بأس به، لا الاتكال على هذه الأصول لتحل أزمة قياسها هائل على البلد من دون عناء الإصلاح

السيناريو الأكثر إيجابية

يوجد أربع سيناريوهات مُرتبطة بالكمّيات التى ستُستكشف، الأول يرتكز على اكتشاف كمّية قليلة – الأقل الذي يبرّر الاستخراج – وهي 30 مليار متر مكعب. يضع هذا الاحتمال لبنان في حالة القدرة على الاستخراج لا تتعدّى 15 سنة، وتقتصر فترة الاكتفاء الذاتي إلى 8 سنوات مع سقف إنتاج سنوي يصل إلى 3 مليار متر مكعب.



ومن دون الغوص بالسيناريوهين المتوسّطين، نشير إلى أن السيناريو الأكثر إيجابية (أي الرابع) يفترض اكتشاف 500 مليار متر مكعب مباشرة، وهذا يعني إمكانية استخراج 15 مليار متر مكعب بالسنة، على مدار 20 سنة ويمكن أن تطول  إلى 50 سنة، ويبقى لبنان يكفي حاجاته بكلّ سهولة إلى ما بعد عام 2060. وفي هذا السيناريو يصل أقصى رقم للغاز المُصدّر إلى 14 مليار متر مكعب في السنة الرابعة ثمّ الخامسة من الاستخراج. وهذه الكمّيات جيّدة جدّاً بالطبع، وتجعل من لبنان لاعباً مهمّاً في المنطقة شرط أن يُحسِن إدارة موارده. إلّا أن ذلك يعني أنه بأسعار اليوم المرتفعة، يصل أقصى مدخول سنوي إلى 2.8 مليار دولار، والأرجح ألا يتخطّى الـ1.8 مليار دولار عند عودة الأوضاع العالمية إلى شيء من الاستقرار.



بالطبع، هذه أرقام جيّدة جدّاً، ولكنها ليست أرقاماً تغيّر وجه البلد. إنها تشبه دعماً خارجياً لفترة معيّنة أكثر من انتقال لبنان إلى دولة يكون فيها الغاز مكوّناً أساسياً للناتح القومي. ولذلك، يجب الاستعداد بالإصلاح والحوكمة الجيّدة لإمكانية الحصول على أصول بحجم لا بأس به، لا الاتكال على هذه الأصول لتحل أزمة قياسها هائل على البلد من دون عناء الإصلاح. هل من الضروري التذكير بأن خسائر القطاع المصرفي، بما فيها المصرف المركزي، تتخطّى 80 مليار دولار؟

وكيف للبعض أن يدّعي أن الغاز يعيد الودائع؟ الكل يعرف ما يجب القيام به لتنقية القطاع المصرفي وإعادته إلى الحياة، فلماذا الانتظار، وبأية حجّة زائفة؟

ليبقى في ذهننا أن الغاز هو أصول ثابتة، وهو ملك لجميع اللبنانيين. لذلك، من الضروري أن يتحوّل إلى أصول مالية تُحفَظ في صندوق سيادي، ولا تُستهلك كأنها مداخيل، وعند تحويلها إلى أصول مالية وحفظها لدى صندوق، ومن أجل استفادة الجيل الحالي والأجيال الصاعدة منها، توظّف هذه الأصول خارج لبنان، تفادياً للداء الهولندي الذي ينتج عن الاستثمار المُفرط من الداخل دون إنتاج يوازيه. ثمّ تستعمل عائدات التوظيف كمدخول للدولة. بالطبع، في حالة الطوارئ، يمكن أخذ الجزء البسيط من الأصل للتصدّي لها، على أن يكون استعمال هذا المال لصالح الجميع، وليس لصالح مجموعة من المنتفعين على ظهر الشعب.

ولا داعي للإشارة إلى أن حوكمة الصندوق السيادي يحب أن تبتعد كلّ البعد عما نعرفه من حوكمة على مستوى الحكومة.

ماذا بعد؟

لنفترض اكتشاف كمّيات تجارية قابلة للتصدير، إلى أين تصدّر؟ وعبر أي أنابيب؟ ومن خلال أية اتفاقيات؟ ومع أي شركاء؟ الكلّ بدأ يوقّع الاتفاقيات للبيع والنقل والشراكة في المنطقة، ما عدا لبنان وسوريا، والأخيرة ما زالت في حالة حربٍ. هل نستثمر بأنابيب لنا؟ وماذا يحلّ بها بعد الغاز؟ وماذا عن الخطّ العربي؟ أو خطّ طرابلس – صور؟ أو طرابلس – فازيليكوس؟ وغيرها؟

الأسواق المُمكنة للغاز اللبناني بحسب كمّياته، تضم كلٌّ من الأردن وسوريا ومصر وتركيا والاتحاد الأوروبي. لكلّ شريك ظرفه المناسب، ومن المُفترض أن تكون الحكومة منهمكة الآن في دراسة هذه الاحتمالات بأقصى سرعة، لتقوم بعد ذلك بالمفاوضات الضرورية، لأن آخر اللاعبين يتحمّلون أكبر كلفة للعب.