عوارض الداء الهولندي وعلاجه

  • إن مكاسب النفط والغاز غير المتوقّعة قد تؤدّي إلى المرض الهولندي، أي إن الانتعاش الاقتصادي في قطاع الموارد الطبيعية يُؤثّر سلباً على قطاعات مثل الصناعة والزراعة.
     
  • تشير الأمثلة التاريخية إلى وجود تجارب ناجحة لقلّة قليلة من البلدان الغنيّة بالموارد مثل النرويج وكندا وتشيلي التي تحوّلت إلى اقتصادات رائدة في التصنيع.

 

"توقّع دائماً ما هو غير مُتوقّع. إن قطاع النفط والغاز سيء في التنبّؤ بأي شيء. يجب أن يكون لدينا دائماً خطّة احتياطيّة".
ديفيد ديكسون - ممثّل وكاتب سيناريو إنكليزي

 

انطلاقاً من تجارب العديد من البلدان النفطية، ظهرت علاقة مُترابطة بين ازدهار اقتصادات هذه البلدان بسبب وفرة الموارد النفطية من جهةٍ، وانحسار قطاعيْ الزراعة والصناعات التحويلية من جهةٍ أخرى. إن الآلية التي تتجلّى من خلالها هذه العلاقة هي على النحو التالي: يؤدّي ارتفاع عائدات النفط والغاز نتيجةً لتصدير هذه الموارد الطبيعية إلى زيادة المعروض من العملات الصعبة في البلد المُصدِّر لها. وبالتالي، تُصبح العملة الوطنية لهذا البلد أقوى بالمقارنة مع عملات البلدان الأخرى، فتنخفض كلفة الواردات بالنسبة للبلد المصدِّر بينما ترتفع كلفة الصادرات، وهذا بدوره يؤدّي إلى تقويض القدرة التنافسية للقطاعات التي تنتج سلعاً قابلة للتبادل، ولا سيما قطاع الصناعات التحويلية. وعلى المنوال نفسه، غالباً ما تؤدّي مكاسب النفط والغاز غير المتوقعة إلى ارتفاع الأجور في القطاع المزدهر – أي النفط والغاز – فيتم اجتذاب العمالة إلى هذا القطاع المتوسّع فيما تتمّ إزاحة قطاعات اقتصادية أخرى.

يُصطلح على هذه الظاهرة اسم "الداء الهولندي"، وهو مصطلح ابتكرته مجلّة The Economist في سنة 1982، لوصف المصاعب التي واجهت القطاع الصناعي في هولندا جرّاء اكتشاف حقل "غرونينغن" للغاز الطبيعي في شمال شرقي البلاد في عام 1959. وبمعنىً آخر، إن مكاسب النفط والغاز غير المتوقّعة قد تؤدّي إلى المرض الهولندي، أي إن الانتعاش الاقتصادي في قطاع الموارد الطبيعية يُؤثّر سلباً على القطاعات الأخرى مثل الصناعة والزراعة.

شهد لبنان تدفّقات مالية هائلة نحو اقتصاده المحلّي اتخذت أشكالاً شتّى مثل المساعدات الأجنبية وتحويلات المغتربين وودائع القطاع الخاص غير المُقيم في المصارف التجارية

لكن لا بدّ من الإشارة إلى مسألة مهمّة في ما خصّ هذه الظاهرة. صحيحٌ أن مصطلح "الداء الهولندي" يرتبط غالباً باكتشاف الموارد الطبيعية، لكن يمكن ربطه – ومفاعيله – أيضاً بأي تطوّر اقتصادي ينتج عنه تدفّق كبير من العملات الأجنبية إلى بلدٍ ما، بما في ذلك ارتفاع أسعار الموارد الطبيعية التي يُصدّرها، أو زيادة التّدفقات المالية أو التحويلات أو المساعدات الأجنبية إليه، أو حتّى زيادة حادّة في الاستثمار الأجنبي المباشر فيه.

أمّا بالنسبة لهذه المقالة فهي تعالج احتمالية أن تنطبق ظاهرة "الداء الهولندي" على الحالة اللبنانية، خصوصاً في أعقاب إعلان السلطات الرسمية أن لبنان أصبح بلداً نفطياً بعد اتمام "التفاهم" حول ترسيم الحدود البحرية مع الإسرائيليين، بالإضافة إلى تصوير قطاع النفط والغاز على أنه خشبة خلاص تمكّن البلاد من عبور الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة والسائدة منذ أكثر من ثلاث سنوات.

المريض المُزمن

وفقاً للأدبيّات الاقتصادية التقليدية، تُقاس القدرة التنافسية للقطاعات التي تنتج سلعاً قابلة للتبادل، ولا سيما قطاع الصناعات التحويلية، على أساس تنافسية الأسعار. ويعتمد الاقتصاديون بشكل كبير على مؤشّر يُعرف ب "سعر الصرف الحقيقي" (Real Exchange Rate) لقياس القدرة التنافسيّة لاقتصادٍ ما في الأسواق العالمية. فعندما يرتفع هذا المؤشِّر يزداد سعر مُنتجات البلد بالمقارنة مع أسعار منتجات البلدان الأخرى، ما يؤدّي إلى تقويض القدرة التنافسية لمنتجات هذا البلد في الأسواق العالمية، والعكس صحيح.

منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، شهد لبنان تدفّقات مالية هائلة نحو اقتصاده المحلّي اتخذت أشكالاً شتّى مثل المساعدات الأجنبية، وتحويلات المغتربين، وودائع القطاع الخاص غير المُقيم في المصارف التجارية. وقد انطوت هذه التدفّقات على ارتفاع ملحوظ، في المتوسّط، في مؤشّر سعر الصرف الحقيقي خلال الفترة الزمنية نفسها. وفقاً للرسم البياني الأول، ارتفعت ودائع غير المقيمين في البنوك التجارية في لبنان من نحو 6 مليارات دولار في عام 2000 إلى  نحو 32.3 مليار في عام 2019. كما سجّلت تحويلات المغتربين ارتفاعاً، في المتوسّط، خلال الفترة الزمنيّة نفسها، حيث وصلت إلى مستوى 6.75 مليار دولار في عام 2019. واللافت أيضاً هو ارتفاع مؤشّر سعر الصرف الحقيقي، حيث سجّل ارتفاعاً بمعدّل 0.55% (معدّل نموّ سنوي مركّب) منذ مطلع الألفيّة وحتّى سنة 2019. ووفق دراسة للبنك الدولي (2012)، يُعتبر ارتفاع هذا المؤشّر نتيجة للتدفّقات الكبيرة لرؤوس الأموال الخارجية وتحويلات المغتربين التي ساهمت بزيادة الاستهلاك، وخصوصاً على السلع غير القابلة للتبادل، أي الخدمات.



 

إن الارتفاع البارز في مؤشّر سعر الصرف الحقيقي على مدى العقديْن السابقيْن يعكس تلاشي القدرة التنافسيّة للقطاعات الإنتاجية في لبنان. فلو شئنا التداعي إلى فحص تداعيات هذه الارتفاع، لوجدنا أنّ نسبة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلّي الإجمالي في لبنان انحسرت من نحو 12.5% إلى 7% بين عامي 1997 و2019.



 

تشير الأدلّة أعلاه إلى وجود علاقة بارزة ووطيدة بين التدفّقات الأجنبية الضخمة التي تلقّاها لبنان منذ بداية الألفيّة وحتى عشيّة اندلاع الانتفاضة في 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، وبين ارتفاع مؤشّر سعر الصرف الحقيقي وانحسار القطاع الصناعي. وإن دلّت هذه العلاقة على شيء، فإنما تدلّ على أن لبنان يُعاني أصلاً من أعراض الداء الهولندي. 

ظروف مقاومة المرض

هل انطباق الداء الهولندي على الحالة اللبنانية جاء نتيجة قصور السياسات الاقتصادية، المالية والنقدية، لجهة توظيف هذه التدفّقات في مجالات لها مساهمة حاسمة في تحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية على المدييْن المتوسّط الطويل، مثل مجالات النقل والبنى التحتية والصحّة والتعليم، وغيرها من الأنشطة الاقتصادية ذات القيمة المُضافة والقيمة المعرفيّة المرتفعة؟ أو إنه حصيلة الإطار المؤسّسي الضعيف والمُتهالك الذي يحول دون أي تغيير أو إصلاح جدّي في النموذج الاقتصادي والاجتماعي القائم منذ الطائف وحتّى اليوم، حتّى بات الاقتصاد والدولة في لبنان مسخّريْن لخدمة مصالح الحلقة المالية التي ساهمت – بالتعاون مع منظومة ما بعد الطائف – في إطالة أمد النظام السياسي-الاقتصادي، الذي يُمعِن في تهجير البشر، ويقتات على التدفّقات الخارجية وضرائب الاستهلاك، ويمنح امتيازات ضريبيّة للشركات، وخصوصاً تلك التي تعود ملكيّتها إلى أشخاص يرتبطون بشكل وثيق بالسلطتيْن السياسية والطائفية؟

إن مقاومة المرض الهولندي في حالة لبنان ليست بالأمر السهل على الإطلاق، خصوصاً أن الدولة فيه لم يكن لديها نظام اقتصادي متين قبل اكتشاف الموارد الطبيعية، ولا أي نموذج يُبنى عليه

على كلّ حال، لا مناص من أن ينكبّ القيّمون على الشأن العام في لبنان على التفكير في إمكانية إدارة قطاع الغاز، على نحو يُجنِّب الاقتصاد اللبناني العواقب الضارّة التي قد تترتّب على أي نشاط تصديري للمشتقّات الهيدروكربونيّة المُحتملة في الحقول التابعة للبنان، وبالتالي إمكانيّة تجنّب الداء الهولندي.

إن مقاومة المرض الهولندي في حالة لبنان ليست بالأمر السهل على الإطلاق، خصوصاً أن الدولة فيه لم يكن لديها نظام اقتصادي متين قبل اكتشاف الموارد الطبيعية، ولا أي نموذج يُبنى عليه. فلبنان بلدٌ فيه اعتماد مُفرط على التدفّقات الخارجية، وتعجز فيه المؤسّسات الإدارية - المُصادرة من قبل الحلقتيْن الطائفية والمالية - على التعامل مع التجلّيات الاقتصادية للداء الهولندي أو لعنة الموارد. ذلك أن النظام السياسي-الاقتصادي في لبنان قائم على توزيع دقيق للأدوار بين زعماء الحرب والطوائف من جهة وأصحاب المصارف وحاكمية المصرف المركزي من جهة أخرى، وكلاهما يعمل على استجلاب الأموال من الخارج وتنظيم قنوات التوزيع فشراء الولاءات وإطالة أمد النظام البائد.

هل لبنان محكومٌ بالفشل؟

تشير الأدبيات الاقتصادية والأمثلة التاريخية إلى وجود تجارب ناجحة لقلّة قليلة من البلدان الغنيّة بالموارد مثل النرويج وكندا وتشيلي، وحتّى الولايات المتّحدة الأميركية التي كانت من أوائل البلدان في العالم تصديراً للمعادن والنفط قبل أن تتحوّل إلى اقتصاد رائد في التصنيع. وتُعزى هذه التجارب الناجحة إلى قدرة الدولة في هذه البلدان على إدارة الثروات والموارد على نحو يُخفِّف من المخاطر والآثار السلبية ذات الصلة، من خلال تبنّي حزمة من السياسات المالية والنقدية، وسياسات سعر الصرف، والإصلاح الهيكلي. علاوةً على ذلك، إن القاسم المشترك بين هذه الدول هو إدارتها لقطاع الموارد الطبيعية ضمن إطار تخطيط اقتصادي واجتماعي شامل، يكون مصحوباً بالتشريعات المُنظِّمة له، والخطوط العريضة المُتعلّقة بتقييم عمل القطاع وتطويره، وكيفيّة إنفاق الإيرادات المتأتّية منه والتدقيق فيها.

ينبغي ألّا تقوم هذه السلطات بتوسيع النفقات بشكل متهوّر خِشية أن يستلطف المجتمع الإنفاق الاستهلاكي البذخي، فتتعزّز بالتالي احتمالية تفاقم ظاهرة الداء الهولندي

في لبنان، قد يكون الإطار القانوني الناظم لعمل القطاع لا يزال في طور النموّ. ولكن إطار التخطيط الاقتصادي والاجتماعي الشامل، وكيفيّة توظيف السياسات المالية والنقدية خدمةً لمصلحة المجتمع ورفاهيته على المدييْن المتوسط والطويل هو غائب بشكل كامل. من ناحية، قد تلعب عائدات الغاز المُحتملة دوراً في تحرير السلطات التنفيذية من القيود التي تفرضها صِغَر ميزانيّتها فتوفّر لها فرصة فريدة لعبور الأزمة المالية الخانقة – ولو بعد حين – كما الإنفاق على برامج تُعنى بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما الصحّة والتعليم والنقل والتعداد السكّاني. كما يُمكن توظيفها في سياق الإجراءات المالية والتحفيزية التي تُعنى بالحدّ من هجرة العمالة بين القطاعات، تحديداً من أنشطة الصناعات التحويلية إلى الأنشطة المُرتبطة بقطاع الموارد الطبيعية. ولكن، من ناحية أخرى، ينبغي ألّا تقوم هذه السلطات بتوسيع النفقات بشكل متهوّر خِشية أن يستلطف المجتمع الإنفاق الاستهلاكي البذخي، فتتعزّز بالتالي احتمالية تفاقم ظاهرة الداء الهولندي. القاعدة المالية المُثلى في هذا السياق هي تحقيق التّوازن بين هذين الهدفين: الإنفاق الاجتماعي من جهة والانضباط المالي (وليس التقشّف) من جهة أخرى.

لا توجد أية مؤشّرات تدلّ على أن السلطتين السياسية والمالية في لبنان سوف تتعاملان مع قطاع الغاز على نحوٍ يختلف عن نمط العمل المُعتاد. فلا رادِع من أن تقوما بتوزيع سياسي للريوع من شأنه أن يقود إلى المزيد من التشوّهات الاقتصادية، ويعزّز قدرتهما على مقاومة الإصلاح الاقتصادي والسياسي.

من نافلة القول إن الحلول التقنية لا تشكّل حلّاً مناسباً للمعضلة المتمثّلة بمقاومة الداء الهولندي وتجنّبه. فلا يوجد حلّ اقتصادي تقني منفصل في الواقع عن السياسة والاجتماع. ربّما الفشل في فرض أي تغيير جدي في النظام الاقتصادي-السياسي السائد منذ عقود يعود إلى غياب التنظيم السياسي الفاعل الذي يستطيع فرض التأثير على مجرى الأمور. من هنا تبرز أهمّية الانتظام ضمن مشروع اقتصادي وسياسي شامل، يساهم في قلب موازين القوى، ويُؤسّس لشرعية الدولة القادرة على إدارة الثروات والموارد على نحو يسمح للاقتصاد اللبناني بتحويل نقمة الموارد إلى نعمة!