مليارات الغاز الموعودة

  • إنّ اتفاق المبادئ بين توتال وإيني من جهة وإسرائيل من جهة أخرى ما هو إلّا خضوع لبنان للإملاءات التي رافقت هذا الملف منذ عشر سنوات، وأنّ الشيطان سيكمُن في تفاصيل كلّ ما يتمّ التوقيع عليه جانبياً.
     
  • يربط اتفاق المبادئ عملية تطوير حقل قانا بشرط تحويل الدفعة أولى إلى إسرائيل ومن ثمّ تحويل دفعات مستقبلية وفق جدول مُحدّد مُسبقاً خلال مرحلة الإنتاج.

 

بعد توقيع اتفاقية ترسيم الحدود مع الحكومة الإسرائيلية بوساطة وضغوط أميركية في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ضجّت البلاد بأحاديث عن قرب انتهاء الأزمة الاقتصادية، وأنّ لبنان أصبح دولة مُنتجة للنفط والغاز. أمّا وقد برُدَت العقول وهدأت النفوس، لا بدّ من الخوض جدّياً في هذا النقاش ومعرفة حقيقة ما يمكن أنّ يَدُرَّه اكتشاف تجاري للغاز وفق الاتفاقيات السارية المفعول منذ عام 2018، وذلك من أجل إدارة التوقّعات للأجيال المُقبلة وتجنّب خلق أوهام جديدة.

في هذا السياق، وقّعت كلّ من توتال الفرنسية وإيني الإيطالية إتفاقاً جانبياً مع إسرائيل يتعلّق بتفاصيل عوائدها المالية في حال وجود اكتشاف تجاري في حقل قانا المُحتمل من ضمن البلوك رقم 9. يترتّب على ذلك أنّ تبدأ الشركتان (وشريكهما الثالث المتوقّع انضمامه إليهما ويُرجّح أن يكون شركة قطر بتروليوم التي ستحلّ محل الشركة الروسية المُنسحبة نوفاتك) بالتحضيرات اللوجستية اللازمة لحفر البئر الأول في الحقل. يعني ذلك استقدام باخرة للحفر كتلك التي أنجزت البئر الأول في البلوك رقم 4 في عام 2020، وثمّ تحليل المعلومات لمعرفة ما إذا كان يمكن القول أنّ هناك اكتشاف تجاري أو كمّيات واعدة في الحقل المُحتمل. في أحسن الأحوال يمكن الحديث عن جدول زمني يمتدّ حتّى آواخر عام 2023 المقبل لمعرفة مكنونات الحقل، وفي حال كانت العمليّة ناجحة، تبدأ بعدها عمليّات التطوير التي تمتدّ لسنوات. 

إتفاق توتال - إيني الجانبي مع إسرائيل

ما هي إلّا أسابيع على توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، حتى تمّ الإعلان منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 عن توقيع اتفاقية جانبية سُمِّيت باتفاق المبادئ بين شركتي توتال وإيني من جهة والحكومة الإسرائيلية من جهة أخرى، كان قد أُشير إليه في نصّ الاتفاق الأساسي. يدلُّ اتفاق المبادئ، من حيث الشكل والمضمون، أن الاتفاق الأوّل ما هو إلّا قبول بالعناوين العريضة المُقترحة، وخضوع لبنان للإملاءات التي رافقت هذا الملف منذ عشر سنوات، وأنّ الشيطان سيكمُن في تفاصيل كلّ ما يتمّ التوقيع عليه جانبياً في المستقبل حول الاكتشافات الغازية المحيطة بالخطّ 23 الذي أصبح خطّ لبنان الرسمي.

في الواقع، تؤكّد الاتفاقية الجانبية مشاركة إسرائيل في عائدات حقل قانا المالية خلال كامل مدة استكشافه، وتدحض مقولة حصول لبنان على كامل الحقل المُحتمل. وفي التفاصيل، ينصّ الاتفاق على ضرورة مشاركة الشركات للمعلومات الكاملة المُتعلّقة بالمكمن خلال المرحلة الأولى (2-4 سنوات)، ومن ثمّ الاتفاق على مبلغ التعويض الذي يجب دفعه لإسرائيل، كذلك توقيع اتفاقية مُفصّلة بين توتال وإسرائيل وتحويل الدفعة الأولى خلال مرحلة التقييم (من سنة لسنتين). ليس هذا فحسب، بل يربط اتفاق المبادئ عملية تطوير الحقل بشرط تحويل الدفعة الأولى ومن ثمّ تحويل الدفعات المستقبلية وفق جدول مُحدّد مُسبقاً خلال مرحلة الإنتاج.

هذا ولم يتمّ التوضيح من حصّة من ستحصل إسرائيل على هذه العوائد المالية، وما إذا كانت فعلاً من حصّة الشركات المُشغِّلة أو من أرباح حصّة لبنان.

ممّ تتكون العائدات النفطيّة؟

وفق نموذج الاتفاقيات الموقّعة بين كونسورتيوم الشركات والدولة اللبنانية، ليس كلّ ما يتمّ إنتاجه من أي حقل مكتشف هو من حصّة الدولة بالطبع، حيث يتمّ تقاسم الأرباح بطريقة تسمح للشركات باسترداد كلفة الاستثمارات المُسجّلة خلال فترة الاستكشاف والتطوير. يخضع البترول المُنتج لأتاوة مُحدّدة في قانون الضرائب البترولي (وهي 4% للغاز وتتراوح بين 5 و12% للنفط)، ليبقى ما يُعرف بالبترول المُتاح. وينقسم هذا الأخير إلى شقَّين: بترول الكلفة، أي الكلفة المطلوبة لاسترداد أكلاف الإنتاج، وبترول الربح الذي يوزَّع بعدها بين الدولة والشركات (توتال وشركائها) بعد احتساب الضريبة. فما الذي يضمن أنّ يكون ما ستحصل عليه إسرائيل من عوائد هو من حصّة هذه الأخيرة؟ ووفق أي منهجيّة سيتمّ تحديد هذه العوائد؟



هل يمكن توقّع العائدات؟

يتمّ التداول في الآونة الأخيرة بأرقام متفاوتة حول الاحتمالات المُختلفة للعوائد الماليّة المتوقّعة نتيجة الاختلاف في المنهجيّات المُتبعة. في الحقيقة، تختلف هذه السيناريوهات فيما بينها من حيث المعايير الواجب أخذها بالاعتبار عند الحديث عن نماذج تقاسم الإنتاج وهي تتمحور حول ثلاثة عوامل أساسية:

  • الكميّات التجارية القابلة للاستخراج، وهي عادة ما تُقاس بمليارات الأمتار المكعبة أو تريليونات الأقدام المكعبة، وهي كمّيات لا يمكن تحديدها بدقّة إلّا بعد القيام بعمليّات الحفر. وبالتالي، فإنّ التقديرات المُعتمدة لحقل قانا ليست سوى توقّعات مبنّية على المعطيات الجيولوجية والمسوحات الجيوفيزيائيّة المتوفّرة، التي، على الرغم من تقليلها للمخاطر، تحتمل الكثير من عدم الدقّة إلى حين الحفر. 
  • أسعار الغاز أو النفط العالميّة عند الاستخراج، وهي مُتقلِّبة بحسب العرض والطلب، ولا يسعنا إلّا التذكير بالأسعار القياسية التي وصل إليها الغاز في الصيف المُنصرم، وتحديداً في أوروبا، نتيجة الطلب الكبير من جراء الحرب الروسية - الأوكرانية، والحاجة إلى تخرين الغاز قبل فصل الشتاء، ليعود وينخفض تدريجياً اليوم. بالتالي، يتأثّر هذا العامل بالظروف السياسية والجيوسياسية التي تنعكس بدورها على العوائد المالية.
  • النظام النقدي اللبناني، وكيفيّة احتساب المؤشِّرات الاقتصادية المُتّصلة بوضعيّة البلد المالية، مثل الآتوات والضرائب ومعدّلات الفائدة والتضخّم، إلخ.

تؤثّر هذه العوامل على السيناريوهات التي تطوِّرها الشركات، فمنها ما يكون متفائلاً ومنها ما يكون متشائماً. من هنا أهمّية أنّ لا يتمّ استخدام الأرقام لأغراض سياسية وغير واقعية، بهدف التقليل أو الإكثار في التفاؤل، والتركير على ضرورة مباشرة الشركات العاملة في حقل قانا بعمليّات الحفر بالسرعة القصوى، وإعادة تفعيل دورة التراخيص الثانية، وتلزيم بعض البلوكات الأخرى غير المحيطة بالخطّ 23 الحدودي.

الاستثمار في البنى التحتية

عند التأكّد من وجود اكتشاف تجاري، لا بدّ من البدء أيضاً بالتفكير بأمرين أساسين: أولاً الأسواق التي يمكن للبنان تصدير الغاز إليها، والعمل مع الدول على إنجاز الإتفاقيّات اللازمة بالتوازي مع عمليّات تطوير الحقل. ثانياً، لا بدّ من البدء بإعداد الخطط والدراسات من أجل ربط المكامن المُكتشفة بالساحل اللبناني، وخصوصاً معامل الكهرباء، ومن ثمّ ربط المعامل الساحلية بعضها ببعض من خلال خطّ الغاز الساحلي.

تُعدّ عمليّة تغويز إنتاج الكهرباء، كما الصناعات الكبرى على الساحل، من الأولويات لما لها من انعكاسات اقتصادية على كلفة الإنتاج وعلى الأمن الطاقوي ككلّ، بحيث ينخفض الاعتماد تدريجياً على مصادر طاقة باهظة وملوِّثة.