شرق المتوسّط في الاستراتيجية الأوروبية للطاقة
- يندرج ترسيم الحدود البحرية بين مصر ودول المنطقة ضمن دبلوماسية الطاقة الذكية، إذ يهدف إلى استخراج كمّيات أكبر من الغاز الإقليمي من خلال الاستكشاف المشترك وربط خطوط الأنابيب الوطنية.
- لم يؤدِّ توسّع تركيا في شرق المتوسط على مدى السنوات الماضية إلى تأجيج الخلافات البحرية مع اليونان حول ترسيم مناطقهما البحرية فحسب، بل إلى إظهار علاقات أنقرة المتوتّرة مع كل دول المنطقة تقريباً ومع الاتحاد الأوروبي
يمكن لشرق البحر الأبيض المتوسّط أن يؤدّي دوراً مُتزايداً في أمن الطاقة في أوروبا، بالنظر إلى موارده العديدة واستمرار الحرب على أوكرانيا واستراتيجية الاتحاد الأوروبي لتقليل الاعتماد على الطاقة الروسية. في هذا السياق، يمكن لمصر وقبرص واليونان أن يلعبوا دوراً مهمّاً في أمن الطاقة في أوروبا.
إمكانيّات مصر وقبرص لتغيير قواعد اللعبة
في الواقع، يمكن لمصر أن تُصبح المُصَدِّر الرئيسي لفائض الغاز إلى أوروبا، وأن تعوِّض الخسائر التي تكبّدتها بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا (مثل خسائر القمح)، ولكن عليها توسيع قدرات محطّات تسييل الغاز الطبيعي في دمياط وإدكو من خلال إضافة وحدات تسييل جديدة، وهو مشروع مُجدٍ اقتصادياً يمكن إنجازه في غضون ثلاث سنوات، على أن يلاقيه تطوير محطّات إضافية في الدول الأوروبية لتسييل الغاز لتزويد أوروبا بالطاقة من دون عوائق، لا سيّما أن قدرة المحطّات القائمة على تلقّي الإمدادات محدودة. أيضاً يندرج ترسيم الحدود البحرية بين مصر ودول المنطقة مثل اليونان وقبرص ضمن دبلوماسية الطاقة الذكية، إذ يهدف إلى استخراج كمّيات أكبر من الغاز الإقليمي من خلال الاستكشاف المشترك وربط خطوط الأنابيب الوطنية. ويضاف إليه التنفيذ السريع لمشروع موصّل يورو-أفريكا (EuroAfrica)،1 الذي يربط شبكات الكهرباء الوطنية في مصر وقبرص واليونان، وسيساعد في إنشاء طريق بديل لنقل الطاقة الكهربائية من وإلى أوروبا، وتعزيز أمن الطاقة الإقليمي.
يمكن لمصر أن تصبح المُصدِّر الرئيسي لفائض الغاز إلى أوروبا بشرط توسيع قدرات محطّات تسييل الغاز في دمياط وإدكوإلى ذلك، يمكن لقبرص من جانبها أن تزوّد أوروبا في غضون خمس سنوات بثمانية مليارات متر مكعب سنوياً من الغاز من حقل أفروديت الذي تديره شركة شيفرون الأميركية. وهذا ليس سوى غيضٌ من فيض؛ فقد اكتشفت قبرص احتياطيات تقدّر بنحو 700 مليار متر مكعب بموجب أربعة اكتشافات حديثة تنقسم كالآتي: 1) نحو 70 مليار متر مكعب في حقل كرونوس من قبل شركتيّ توتال الفرنسية وإيني الإيطالية؛ 2) نحو 127 مليار متر مكعب في حقل أفروديت، يجري العمل عليها حالياً من قبل شركات نوبل إنرجي الأميركية وديليك الإسرائيلية وشل الإنكليزية-الهولندية؛ 3) نحو 170-226 مليار متر مكعب في حقل كاليبسو المملوك لشركتي إيني وتوتال؛ و 4) نحو 225 مليار متر مكعب في حقل غلوكوس من قبل شركتيّ إكسون موبيل وقطر للبترول. في الوقت الحالي، يتعيّن شحن هذه الإمدادات عبر مصر للتمكّن من تصديرها، لكن هناك مرافق عائمة لإعادة التغويز والتخزين ستبدأ عملها في قبرص خلال الشهرين المقبلين. لقد اقترحت شركة الطاقة اليونانية إنيرجين إنشاء خطّ أنابيب من حقول الغاز التي تديرها إلى محطّة عائمة لتسييل الغاز الطبيعي في فازيليكوس بقبرص. وبمجرّد تسييل هذا الغاز يصبح من الممكن تصديره إلى الأراضي الأوروبية. في الواقع، يملك هذا الخطّ جميع مكوّنات المشروع الناجح، فهو يصل إلى محطّات الغاز والإسالة، عدا أن شركة فيتول - أكبر تاجر مستقلّ للنفط والغاز في العالم - أبدت اهتمامها ببدء الأعمال فيه وتجارة الغاز في أوروبا.
اليونان بين الطاقة والجيوبوليتيك
تُعتبر اليونان بلداً إقليمياً آخر لديه بعض الاكتشافات الواعدة في مجال الطاقة، والتي وثِّقت في المسوحات الزلزالية ثلاثية الأبعاد التي أجرتها سفينة رصد الزلازل "نورديك إكسبلورر". تشير تقديرات علماء جيولوجيا البترول والمهندسين واقتصاديي الطاقة إلى وجود نحو 10 تريليون قدم مكعب من الغاز في أعماق البحر اليوناني في جنوب جزيرة كريت وغيرها من المناطق البحرية اليونانية.
دفعت الحرب على أوكرانيا بالحكومة اليونانية إلى إطلاق خطّة عمل تركّز على استكمال المسوحات الزلزالية والتنقيب في مناطق مختلفة في البحر الأيوني وجنوب غرب جزيرة كريت. اتفقت شركتا إيكسون وهيلينيك بيتروليام الأميركيتان على شراكة بنسبة 70/30 لتطوير حقول الغاز في جنوب وجنوب غرب جزيرة كريت. بالإضافة إلى ذلك، حدّدت هيئة إدارة الموارد الهيدروكربونية اليونانية أكثر من ثلاثين منطقة بحرية لم يتم استكشافها بعد، ويتوقّع أن تحتوي على كمّية من الغاز تتراوح بين 2 و 2.55 تريليون متر مكعب.
تشير التقديرات إلى وجود نحو 10 تريليون قدم مكعب من الغاز في أعماق البحر اليوناني وبالنظر إلى وضعها كمركز نقل، أنشأت اليونان محطّات عائمة لإعادة التغويز والتخزين في ألكساندروبولوس في شمال اليونان وريفيتوسا غرب أثينا. من المتوقّع أن تنتهي الأعمال في محطّة ألكسندروبولوس في عام 2023. وعند ربطها بخطّ الأنابيب بين اليونان وبلغاريا، الذي بدأ تشغيله في أيلول/سبتمبر 2022، ستكون قادرة على إمداد 5.5 مليار متر مكعب إلى بلغاريا وصربيا ومقدونيا الشمالية. من خلال هذا المشروع، ستنوّع الدول المعنية طرقها ومصادر إمدادها، وبالتالي ستكون قادرة على تقليل اعتمادها على الغاز الروسي. وفيما يتعلّق بمحطّة ريفيتوسا، فقد تمّ استخدامها بالفعل لتلقّي إمدادات الغاز المُسال من الولايات المتّحدة ودول أخرى، وشحنها إلى بقية أوروبا. تجدر الإشارة إلى أن إمدادات الغاز المُسال المتزايدة التي تصل إلى محطّة ريفيتوسا دعمت السوق البلغارية منذ أواخر نيسان/أبريل 2022 عندما أوقفت شركة غازبروم إمداداتها وحرمت البلاد من 90% من احتياجاتها من الغاز. تستقبل بلغاريا الآن كمّيات من الغاز الطبيعي عبر اليونان تعادل 90 ألف إلى 100 ألف ميغاواط/ساعة، من ضمنها 10 آلاف ميغاواط تأتي من الغاز الأذريبجياني وتُضخّ عبر خط الأنابيب العابر للبحر الأدرياتيكي وخطّ الأنابيب اليوناني البلغاري الحالي.
التحدّيات التي تواجه التعاون الإقليمي في مجال الطاقة
مع ذلك، تواجه المنطقة تحدّيات رئيسية تحول دون وصولها إلى كامل إمكاناتها في مجال الطاقة مثل الجيولوجيا المُعقّدة، والتكلفة العالية لأنشطة الاستكشاف والحفر في المياه العميقة في جميع أنحاء المنطقة، وكذلك الخلافات حول الحدود البحرية مع دول مثل تركيا في بحر إيجة والبحر الليبي. لقد اتّبعت تركيا دبلوماسية "مدافع الأسطول"، ووقّعت مذكّرة تفاهم غير قانونية مع ليبيا لترسيم الحدود البحرية، تتجاهل فيها الحقوق السيادية لليونان وقبرص ومصر، وكذلك الحقيقة الجغرافية المتمثّلة بعدم امتلاك تركيا وليبيا مناطق بحرية مُتداخلة أو حدوداً مُشتركة.
لإبطال مذكّرة التفاهم بين تركيا وليبيا وحماية حقوقهما السيادية، وقّعت اليونان ومصر في آب/أغسطس 2020 اتفاقية بشأن الترسيم الجزئي للمناطق الاقتصادية الخالصة بينهما، وصادق عليها البرلمانان المصري واليوناني. تحدّد الاتفاقية منطقة بحرية تمتدّ من الجزء الشرقي من جزيرة كريت حتّى جزيرة رودس اليونانية، بنسبة 55% لمصر و45% لليونان. أتت هذه الاتفاقية نتيجة مفاوضات استمرّت 15 عاماً، وهي تعترف بجميع حقوق الجزر اليونانية في مناطقها البحرية بما يتوافق مع اتفاقية الأمم المتّحدة لقانون البحار. عملياً، تعيد هذه الاتفاقية الشرعية إلى المنطقة، والتي حاولت مذكّرة التفاهم الليبية-التركية غير الشرعية تقويضها.
اتبعت تركيا ديبلوماسية "مدافع الأسطول" ووقعت مذكرة تفاهم غير قانونية مع ليبيا لترسيم الحدود البحرية
فيما تعبّر اليونان عن استعدادها لاستئناف المفاوضات مع ليبيا لترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما وحلّ الخلافات البحرية التي برزت في جولات المفاوضات بين عامي 2009 و2010، وذلك بعيد تشكيل حكومة قانونية جديدة في ليبيا تمثّل الإرادة الشعبية التي ستنبثق عنها الانتخابات المقبلة، بدأت أنقرة وطرابلس في تشرين الأول/أكتوبر 2022 بتوقيع بروتوكول بشأن التنقيب عن الهيدروكربونات وتطويرها من قبل شركات الطاقة التركية والليبية بالاستناد إلى مذكرة التفاهم غير القانونية الموقّعة بينهما، وبهدف تعزيز التدخل التركي في الدولة العربية والمنطقة.
في الواقع، لم يؤدِّ توسّع تركيا في شرق المتوسط على مدى السنوات الماضية إلى تأجيج الخلافات البحرية مع اليونان حول ترسيم مناطقهما البحرية فحسب، بل إلى إظهار علاقات أنقرة المتوتّرة مع كل دول المنطقة تقريباً ومع الاتحاد الأوروبي. لقد انتقلت تركيا من سياسة "صفر مشاكل" مع جيرانها إلى "افتعال المشاكل" مع كلّ جارٍ لها. يُنظر إلى الاستراتيجية التركية على أنها تمنع دول المنطقة من الاستفادة من مواردها من الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسّط، بالتوازي مع توسيع تواجدها العسكري في شمال سوريا وشمال العراق وقطر ومقديشو والصومال وليبيا. ويُعزى هذا التحوّل إلى النظرة التركية للعالم، والنظر إلى نفسها بصفتها الخليفة الشرعي للإمبراطورية العثمانية، ما يفرض التعامل معها كمحور لإعادة تأسيس منطقة الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسّط.
في المقابل، تكثّف البلدان الإقليمية، التي تدعو إلى علاقات حسن الجوار، آليّات تعاونها في شرق المتوسّط لمواجهة التحدّيات المشتركة واستكشاف الفرص بشكل جماعي. ويندرج منتدى غاز شرق المتوسّط ضمن هذه الفئة. لقد أصبح المنتدى، وهو منبر تعاون إقليمي للحوار بين الحكومات، وسيلة للتواصل بين الدول وشركات صناعة الطاقة ومركز لتبادل الأفكار والخطط ذات المنفعة المُشتركة والمتعلّقة بتنمية الطاقة.
استكشاف خيارات الهيدروجين
من بين العديد من البلدان الإقليمية، تهدف اليونان إلى التموضع كواحدة من مراكز الهيدروجين الرئيسية في أوروبا. يندرج مشروع "التنين الأبيض"، الذي يتضمّن مجموعة مشاريع فرعية، ضمن هذه الفئة إذ يخطّط لاستخدام الكهرباء المُتجدّدة على نطاق واسع لإنتاج الهيدروجين الأخضر في غرب مقدونيا من خلال التحليل الكهربائي للطاقة الشمسية، على أن توزّع عبر خطّ الأنابيب العابر للبحر الأدرياتيكي. صدّقت المفوضية الأوروبية على "التنين الأبيض" باعتباره مشروعاً هاماً ذي مصلحة أوروبية مشتركة. وتشارك مجموعة من الشركات الرائدة فيه من ضمنها شركة الغاز العامّة، وAdvent Technologies، وCopelouzos Group، وCorinth Pipelines، وTAP، وDESFA، وTerna Energy، وMotor Oil وPPC.
إلى ذلك، تدعم السعودية رؤية جيويبوليتيكة أخرى تتموضع اليونان في وسطها، وتتمثّل في تصدير الهيدروجين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أوروبا عبر اليونان، في ظل النيّة الأوروبية على ضوء استمرار الحرب على أوكرانيا باستيراد 10 ملايين طن من الهيدروجين المُتجدّد سنوياً حتى عام 2030، ومن المتوقّع أن تزداد أكثر تبعاً للمؤشّرات القائمة.
وبالفعل أطلِق أول مشروع هيدروجين رئيسي يلبّي متطلّبات الإنتاج الصناعي في منطقة نيوم، شمال غرب السعودية، المُرخّصة كمنطقة للطاقة المُتجدّدة والهيدروجين حصرياً. ومن المتوقّع أن تكون الحصّة الإنتاجية كبيرة في عام 2024، وأن يبدأ إنتاج الهيدروجين المتجدّد على نطاق واسع في عام 2026. إلى ذلك، تُعدُّ خطوط الأنابيب أفضل طريقة لنقل الهيدروجين في الفترة الانتقالية وإلى حين إنشاء البنية التحتية المناسبة، من المتوقّع أن تلعب اليونان دوراً مركزياً في نقل الهيدروجين مستفيدة من أسطولها التجاري الكبير. وبالفعل تمّ الاتفاق على إطار للتعاون بين اليونان والسعودية في مجالات الطاقة المُتجدّدة والهيدروجين النظيف ونقلها إلى أوروبا بموجب مذكّرة تفاهم وقِّعت خلال الزيارة الرسمية لولي العهد السعودي إلى أثينا في شهر تموز/يوليو الماضي.
ملاحظة أخيرة
من الواضح أن الحرب على أوكرانيا والمخاطر السياسية في المنطقة تتصاعد، لكن هناك مجموعة من الدول الإقليمية المُصمِّمة على البقاء في طريق الاستقرار والنمو. ويظهر العزم المشترك على إشراك شرق المتوسّط في استراتيجية أوروبية للطاقة تعود بالمنفعة على الجميع من خلال تطوير حقول الغاز وتنفيذ مشاريع البنية التحتية للطاقة عبر التآزر الإقليمي والدولي.
- 1 موصّل للكهرباء بسعة 2000 ميغاواط يربط شبكات الكهرباء الوطنية في مصر وقبرص واليونان من خلال خطّ توتر عالي تحت سطح البحر بطول 1396 كيلومتراً.