معاينة pharmacy Lebanon

التغطية الصحّية الشاملة في لبنان
دروس من جنوب شرق آسيا

تكشف الأزمات نقاط ضعف أنظمة الحماية الاجتماعية، ولا سيما الصحّة. تؤدي الانهيارات الاقتصادية والاضطرابات السياسية والتهديدات الأمنية إلى خلق حاجة ملحّة للإصلاح، لكنها في الوقت نفسه تمنح القوى الراسخة نفوذاً لمقاومة التغيير. وبينما نجحت بعض الدول في استغلال الأزمات لدفع عجلة التغطية الصحّية الشاملة والتأمين الصحّي الاجتماعي، شهدت دول أخرى ضياع فرص الإصلاح بسبب الانقسامات السياسية ومقاومة النخب. يستعرض هذا المقال كيف تمكّنت كل من نيبال وتايلاند وإندونيسيا من توظيف الأزمات الاقتصادية والسياسية لتوسيع نطاق التغطية الصحية، أو أخفقت في ذلك، استناداً على بحث نُشر مؤخراً في International Journal for Equity in Health ويستخلص العبر لتحويل أزمات لبنان الكثيرة إلى فرص لترسيخ نموذج التغطية الصحية الشاملة.

نيبال: توسّع تدريجي وسط اضطرابات سياسية

تشكّلت مسيرة نيبال نحو التغطية الصحية الشاملة نتيجة حالة انعدام الاستقرار السياسي المستمرة، وحرب أهلية دامت عقداً كاملاً (1996-2006) أدّت إلى الانتقال من نظام ملكي إلى جمهورية ديمقراطية فيدرالية، وزلزال مدمّر في العام 2015. أدّى اتفاق السلام الشامل لعام 2006 إلى خلق زخم للإصلاحات في مجال الحماية الاجتماعية، بما في ذلك تمويل الرعاية الصحية. أعطت الحكومة التي تلت الحرب الأولوية للرعاية الصحّية كوسيلة لكسب ثقة الناس. تطوّر برنامج الحوافز للأمهات (2005) إلى برنامج «آما» (2008-2009)، ما وسّع نطاق الرعاية المجانية للأمهات. كما شملت إصلاحات أخرى  توسيع الخدمات الصحية الأساسية المجّانية.

الأزمات في نيبال أوجدت فرصاً للتغيير، إلا أن ضعف المؤسسات والاعتماد المالي المفرط على الجهات المانحة الخارجية، كانا من العوامل التي ساهمت بخلق نظام تمويل متجزأ بدلاً من بناء نظام متكامل للتغطية الصحية الشاملة

كشف زلزال العام 2015 ضعف التغطية الصحية وارتفعت الضغوطات للإصلاح. لذلك، أطلق نظام التأمين الصحي الوطني في العام 2016 لتغطية الخدمات التي تتعدّى الرّزمة الأساسية وحدّد الدستور الجديد أن الرعاية الصحّية حقّ أساسي.

لكن ضعف الإقبال واستمرار المدفوعات المباشرة من المرضى (التي تتجاوز 50% من إجمالي الإنفاق الصحي) كشفت عن حدود هذه الإصلاحات. وعلى الرغم من أن الأزمات في نيبال أوجدت فرصاً للتغيير، إلا أن ضعف المؤسسات والاعتماد المالي المفرط على الجهات المانحة الخارجية، مثل البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية ووزارة التنمية الدولية البريطانية… كانا من العوامل التي ساهمت بخلق نظام تمويل متجزأ بدلاً من بناء نظام متكامل للتغطية الصحية الشاملة.

تايلاند: قصة نجاح مدفوعة بالأزمة

يُعدّ برنامج التغطية الصحية الشاملة في تايلاند، الذي أُطلق في العام 2002، واحداً من أنجح الإصلاحات الصحية التي جاءت استجابةً للأزمات. وقعت خسائر هائلة في تايلاند في الأزمة المالية الآسيوية في العام 1997، ما دفع بقضية إصلاح الرعاية الصحية إلى صدارة الأجندة السياسية. في الوقت نفسه، رسّخ دستور 1997 التغطية الصحية الشاملة كحقّ.

استخدمت حكومة ثاكسين آنذاك الأزمة الاقتصادية كفرصة لدفع الإصلاحات في النظام الصحّي. واستعجلت الحكومة في إقرار التعديلات قبل أن تتبلور معارضة القطاع الخاص خصوصاً المستشفيات الخاصة وبعض المعارضين في وزارة الصحة. كان ذلك عاملاً أساسياً في نجاح الإصلاحات التي وحّدت صناديق التأمين الصحي في صندوق واحد يموّل من الضرائب، ووسّعت رزمة الخدمات الصحية المقدّمة، وأسّست هيئة مستقلّة لشراء الأدوية والمعدات الطبية، ووضعت سقوفاً للإنفاق تمنع مقدّمي الرعاية الصحية من رفع قيمة الفواتير الصحية.

أدّى الالتزام السياسي للحكومة التايلاندية الدور الأساسي في إرساء التغطية الصحية الشاملة، واقتصر دور الخبراء (التكنوقراط) على عملهم في وزارة الصحة نفسها، ودور المنظّمات غير الحكومية على تأمين الدعم الشعبي للحكومة

أدّى الالتزام السياسي للحكومة التايلاندية الدور الأساسي في إرساء التغطية الصحية الشاملة، واقتصر دور الخبراء (التكنوقراط) على عملهم في وزارة الصحة نفسها، ودور المنظّمات غير الحكومية على تأمين الدعم الشعبي للحكومة.

لم يقتصر تأثير هذه الإصلاحات على خفض المدفوعات المباشرة من المرضى بشكل كبير (من 34% إلى 9%)، بل حسّن أيضاً إمكانية الوصول إلى الخدمات الأساسية، وبقي صامداً على الرغم من الاضطرابات السياسية التي أعقبت تنفيذه. تُبرز تجربة تايلاند كيف يمكن لتحالف منظّم أن يتجاوز المصالح الراسخة ويستغل الأزمات لدفع إصلاحات اجتماعية كبرى.

إندونيسيا: صراع بين التقدّم والاستدامة

تسببت الأزمة المالية الآسيوية في العام 1997 في موجة مطالبات لتأمين الحماية الاجتماعية في إندونيسيا، حيث كان نظام الضمان مجتزأ في صناديق عدّة. أدّى سقوط نظام سوهارتو في العام 1998 ووصول رئيس جديد، إلى استخدام مسألة إصلاح الضمان الاجتماعي كأداة سياسية لترسيخ شرعية النظام الجديد.

دفع الرئيس الجديد إلى إقرار قانون الضمان الاجتماعي الوطني في العام 2004. ومع ذلك، تأخر التنفيذ بسبب معارضة شركات التأمين الخاصة والمجموعات الاقتصادية وبقي نظام الضمان مجزأ.

أطلق وزير الصحّة برنامج «جامينان كيسيهاتان ناسيونال» في إندونيسيا في العام 2014 بهدف توحيد صناديق التأمين الصحي المتفرقة ضمن نظام وطني موحّد للتأمين الصحي الاجتماعي حيث يُجبر الجميع على المساهمة فيه باستثناء الفقراء الذين تؤمن الدولة قيمة اشتراكاتهم. وقد تسبّب ذلك باعتراض أصحاب الشركات الذين اقتطعت اشتراكات موظّفيهم من أرباحهم.

جاءت جائحة كوفيد-19 لتكشف عن مخاطر في سبل التمويل، إذ أدّى ارتفاع الإعانات الحكومية المخصّصة للفقراء إلى تهديد استدامة الصندوق. واليوم، بات 96% من الإندونيسيين مشمولين في نظام الضمان الصحي، إلا أن المخاوف بشأن التمويل لا تزال قائمة كون مستويات الفقر لم تنخفض بعد.

أدّى سقوط نظام سوهارتو في العام 1998 ووصول رئيس جديد، إلى استخدام مسألة إصلاح الضمان الاجتماعي كأداة سياسية لترسيخ شرعية النظام الجديد

تُظهر تجربة إندونيسيا أن الأزمات تُوفّر زخماً للإصلاح يمكّن رئيساً أو وزيراً منفرداً من إطلاق عمليّة إصلاح النظام الصحي. لكن، تبقى مسائل الاستدامة المالية عوامل حاسمة لضمان نجاح أي نظام صحي شامل.

لبنان: تاريخ من الفرص الضائعة لتحقيق التغطية الصحية الشاملة

شهد لبنان واحداً من أكثر التواريخ اضطراباً في الشرق الأوسط الحديث، حيث عانى من انهيارات اقتصادية، ونزاعات مسلحة، وحروب. فاقمت حرب 2006 بين لبنان وإسرائيل، والأزمة الاقتصادية في 2019، ومن ثم جائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت في 2020، والحرب الأخيرة مع إسرائيل من حدة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك الوصول إلى الرعاية الصحية. ومع ذلك، وعلى عكس تجارب النيبال أو تايلاند أو إندونيسيا، لم تُستغل هذه الأزمات لإعادة النظر في هيمنة النظام الصحي المخصخص أو لدفع إصلاحات جذرية نحو التغطية الصحية الشاملة.

وعلى الرغم من الغضب الشعبي إزاء ارتفاع تكاليف العلاج وتراجع إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية، فشلت الحكومات اللبنانية المتعاقبة في اتخاذ خطوات جريئة لمواجهة المصالح الراسخة، بما في ذلك نفوذ المستشفيات الخاصة، وشركات التأمين، والنخب السياسية المرتبطة بالنظام الصحي المخصخص.

كان من المفترض أن تكون الأزمة المالية في العام 2019، التي قضت على أعمال ومدخرات المواطنين وحرمت الكثير من التأمين الصحي، لحظة فاصلة لتوسيع نطاق التأمين الصحي الاجتماعي. لكن بدلاً من ذلك، ازداد النظام الصحي اللبناني تفككاً، مع اعتماد مفرط على المانحين الخارجيين، والمنظمات غير الحكومية، والمساعدات الطارئة بدلاً من الإصلاحات الهيكلية.

ازداد النظام الصحي اللبناني تفككاً، مع اعتماد مفرط على المانحين الخارجيين، والمنظمات غير الحكومية، والمساعدات الطارئة بدلاً من الإصلاحات الهيكلية

ظلت النخبة السياسية، المتشابكة بعمق مع قطاع الرعاية الصحية الخاص، عائقاً أمام أي تحوّل نحو نظام صحي مموّل من الاشتراكات والضرائب ويقدّم الرعاية بشكل أساسي من القطاع العام. كما افتقرت الحكومات إلى وزراء صحّة جريئين يقومون بالدفع في الإصلاحات قبل الاصطدام بمعارضة المصالح القائمة.

يجسّد لبنان مساراً معاكساً تماماً لمسارات دول آسيا الجنوبية، ويقدّم مثالاً حياً على كيف يمكن للأزمات أن تعزّز سلطة النخب بدلاً من زعزعتها.

تُظهر التجارب المتباينة لنيبال وتايلاند وإندونيسيا ولبنان أن الأزمات يمكن أن تكون محركاً لتوسيع التأمين الصحي الاجتماعي، لكنها قد تكون أيضاً عائقاً أمامه. يعتمد نجاح الإصلاح على الإرادة السياسية التي تحاكي الواقع، والقدرة المؤسسية (حيث يُحصر دور التكنوقراط)، والقدرة على مواجهة المصالح الراسخة عبر العمل السريع والتعاون مع المجتمع المدني (لدعم المسار السياسي لا لتقديم بدائل عن غياب الدولة).