Preview الدخل الأساسي الشامل

في عام 2013، تم إلقاء 8 ملايين قطعة نقدية من فئة 5 سنتيم، أي بمعدل قطعة نقدية واحدة لكل مقيم، في برن لدعم الاستفتاء السويسري لعام 2016 على الدخل الأساسي، والذي تم رفضه بنسبة 77%.

حدود «الدخل الأساسي الشامل»

  • «الدخل الأساسي الشامل» يفشل في تغيير أي شيء يتعلّق بنظام الإنتاج الكامن. فهو يقبل النظام القائم بشروطه الخاصة: لا يفعل شيئاً لتغيير مَن يسيطر على الإنتاج، وأنواع السلع والخدمات التي تُنتَج، وتحت أي ظروف، ولصالح مَن.
  • الكثير من الرأسماليين النيوليبراليين، ومن ضمنهم ميلتون فريدمان، لا يعارضون فكرة الدخل الأساسي الشامل. لكن تجاهل نظام الإنتاج يمثِّل مشكلة، لأن النظام الذي لدينا حالياً، أي الرأسمالية، مُدمِّر للغاية ولا يمكنه معالجة الأزمات المتعدّدة التي نواجهها.

استحوذ «الدخل الأساسي الشامل» (Universal basic income) على اهتمام العديد من التقدّميين على مدى الأعوام القليلة الماضية. ببساطة، يُعبِّر «الدخل الأساسي الشامل» عن فكرة مفادها أن كل مواطن يجب أن يحصل على تحويل غير مشروط للأموال على أساس مُنتَظِم، ومن المفترض بشكل مثالي أن يكفي هذا التحويل لتلبية احتياجاته الأساسية. وقد روّجت «للدخل الأساسي الشامل» مجموعةٌ من الشخصيات البارزة، من توماس بيكيتي إلى البابا فرانسيس، وظهر كعنصر أساسي في حملة أندرو يانغ الرئاسية لعام 2020 في الولايات المتّحدة. والعديد من المبادئ الجوهرية «للدخل الأساسي الشامل» قوية، بما في ذلك فكرة أن كل شخص يستحق عن جدارة حصّة مما ننتجه بشكل جماعي. وقد أظهرت التجارب الصغيرة نتائج مشجّعة فيما يتعلق بتخفيف حدّة الفقر. لكن يعاني «الدخل الأساسي الشامل» من العديد من أوجه القصور - والافتقار الشديد إلى الشعبية - التي تجعله غير مناسب كوسيلة أساسية لتحقيق التحوّل الاقتصادي الراديكالي الذي نحتاج إليه.

الشيء الأساسي الذي يجب أن نفهمه هو أن «الدخل الأساسي الشامل» يأخذ في الاعتبار الاقتصاد، ومشاكل الاقتصاد، من حيث الدخل والاستهلاك العَامَّين، وبعبارة أخرى، من دون النظر إلى أي سلع وخدمات محدَّدة. إنه يسعى إلى ضمان حصول كل فرد على حد أدنى مُعيَّن من القوة الشرائية على الأشياء التي تنتجها البلاد بالفعل. على سبيل المثال، أراد يانغ أن يحصل كل فرد في الولايات المتحدة على ألف دولار شهرياً.

يتعامل «الدخل الأساسي الشامل» مع مشاكل الاقتصاد من حيث الدخل والاستهلاك، ولكن من دون النظر إلى سلع وخدمات محدّدة، فهو يسعى إلى ضمان حصول كل فرد على حد أدنى من القوة الشرائية على الأشياء التي تنتج بالفعل

لكن «الدخل الأساسي الشامل» يفشل في تغيير أي شيء يتعلّق بنظام الإنتاج الكامن. فهو يقبل النظام القائم بشروطه الخاصة: لا يفعل شيئاً لتغيير مَن يسيطر على الإنتاج، وأنواع السلع والخدمات التي تُنتَج، وتحت أي ظروف، ولصالح مَن. وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت الكثير من الرأسماليين النيوليبراليين، بما في ذلك ميلتون فريدمان، مرتاحين تماماً للفكرة. لكن تجاهل نظام الإنتاج يمثِّل مشكلة، لأن النظام الذي لدينا حالياً - الرأسمالية - مُدمِّر للغاية ولا يمكنه معالجة الأزمات المتعددة التي نواجهها.

إن السمة الجوهرية المُعرِّفة للرأسمالية هي أنها غير ديمقراطية في الأساس. نعم، يعيش الكثير منا في أنظمة سياسية انتخابية، حيث نختار القادة السياسيين من وقت لآخر. لكن عندما يتعلق الأمر بنظام الإنتاج، حيث نقضي معظم حياة اليَقَظَة، فإن الديمقراطية قليلة أو معدومة. في ظل الرأسمالية، يُتَحَكَم في الإنتاج في المقام الأول من خلال رأس المال: الشركات الكبرى، والمكاتب المالية الكبرى، ونسبة الـ1% من الأفراد الأثرياء الذين يمتلكون غالبية الأصول القابلة للاستثمار. يقرِّر هؤلاء ما نُنتِجه، وكيف ينبغي لنا أن نستخدم قدراتنا الإنتاجية الهائلة: عملنا وموارد كوكبنا. وبالنسبة إلى رأس المال، فإن الغرض الأساسي من الإنتاج ليس تلبية الاحتياجات البشرية أو تحقيق أهداف اجتماعية وبيئية واضحة، بل تعظيم الأرباح ومراكمتها. هذا هو الهدف الأسمى بالنسبة إلى رأس المال.

ولذلك نحصل على أشكال ضارَّة من الإنتاج. يحشد رأس المال عملنا ومواردنا لإنتاج أشياء مثل سيّارات الدفع الرباعي، والموضة السريعة، والوقود الأحفوري، والسفن السياحية، والأسلحة ولحوم البقر الصناعية، وهي أشياء غير ضرورية ومدمِّرة بيئياً لأنها مربحة لرأس المال. لكننا نعاني من نقص حاد في الأشياء العاجلة والضرورية اجتماعياً مثل المساكن الشعبية عالية الجودة، والرعاية الصحية العامة، والنقل العام، والطاقة المتجدّدة، والأغذية الصحية المنتَجة في ظل ظروف متجدِّدة بيئياً، وما إلى ذلك، لأن هذه الأشياء أقل ربحية أو غير مربحة على الإطلاق بالنسبة إلى رأس المال.

والنتيجة هي أنه على الرغم من مستويات الإنتاج المرتفعة للغاية، والمستويات العالية من الأثَر البيئي، فإن اقتصادنا لا يزال يفشل في تلبية العديد من الاحتياجات الإنسانية الأساسية. ومن الواضح أن الحرمان أكثر قسوة في «الجنوب العالمي»، الذي يخضع لديناميات مُزمِنة من الاستملاك الإمبريالي، وحيث لا يملك مليارات الناس أشياء أساسية مثل الرعاية الصحية، وأنظمة الصرف الصحي، والثلاجات، ومواقد الطبخ النظيفة. لكن الحرمان واضح أيضاً في «الشمال العالمي» - في أغنى البلدان في العالم - حيث يعيش عشرات الملايين من الناس في مساكن دون المستوى المطلوب ولا يحصلون على الرعاية الصحية الكافية أو الطعام المغذِّي.

السمة الجوهرية المُعرِّفة للرأسمالية هي أنها غير ديمقراطية. يعيش الكثير منا في أنظمة سياسية حيث نختار القادة السياسيين من وقت لآخر. لكن عندما يتعلق الأمر بنظام الإنتاج فإن الديمقراطية معدومة

وعندما يجب تحويل الاقتصاد نفسه - أهداف الإنتاج ومحتواه - لا يكفي ببساطة إعادة توزيع القوة الشرائية داخل الاقتصاد.

يمكن للناس شراء ما يُنتَج فقط. والحصول على دخل أساسي لا يمكِّن الناس من شراء مساكن لائقة بأسعار معقولة أو الحصول على رعاية صحية عامة إذا لم تُطرَح عليهم هذه الأشياء في المقام الأول، أو لم تكن متوفِّرة بكميات كبيرة بالقدر الكافي. لن يساعدك الدخل الأساسي في الوصول إلى وسائل النقل العام إذا لم تكن هناك شبكة نقل عام في مدينتك. أو لنأخذ على سبيل المثال أزمة المناخ بشكل خاص. نعلم أننا في احتياج إلى تحقيق تحوّل سريع باتجاه الطاقة المتجددة، لكن رأس المال لا يستثمر في توسيع البنية التحتية للطاقة المتجددة وغيرها من التكنولوجيات الخضراء بالمعدلات المطلوبة لأن الأمر ليس مربحاً بالقدر الكافي. ولن يُغيِّر هذا أي مبلغ من الدخل الأساسي.

كما أن الدخل الأساسي لا يفعل شيئاً لتغيير مَن يسيطر على الإنتاج، ويتركه في أيدي رأس المال غير الديمقراطي. فهو لا يغير مدى التسليع في مجتمعنا - بعبارة أخرى، قدرة الأسعار، التي قد تظل مرتفعة، على تحديد استفادة شخص ما من السلع والخدمات الأساسية. وهو لا يفعل الكثير لتغيير ظروف العمل التي يتمُّ الإنتاج في ظلها. نعم، قد يمنح «الدخل الأساسي الشامل» الحرية للعمّال في ترك الوظيفة، وبالتالي زيادة نفوذهم للمطالبة بتحسين الأجور وظروف العمل - لكن من ناحية أخرى، قد يتعامل أصحاب العمل معه وكأنه شكل من أشكال دعم الأجور ويحاولون خفض الرواتب بالتبعية.

وبالنظر إلى الأزمات الاجتماعية والبيئية التي نواجهها، يتعيَّن علينا أن نعمل على تعبئة العمالة وقوانا الإنتاجية لإنتاج السلع والخدمات الضرورية التي لا تُنتَج حالياً بالقدر الكافي أو التي لا تُنتَج على الإطلاق. هناك قدر هائل من العمل الذي يتعيَّن علينا إنجازه، ولابد من إنجازه بسرعة - خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بمعالجة الأزمة المناخية. والدخل الأساسي وحده لا يستطيع تحقيق ذلك. نعم، لقد أشار أنصار «الدخل الأساسي الشامل» بشكل صحيح إلى أنه عندما يتحرَّر الناس من ضرورة العمل مدفوع الأجر، فإنهم يميلون إلى استخدام وقتهم بطرق مفيدة اجتماعياً. يريد الناس الإسهام في خلق مجتمع أفضل. لكن هناك حدود لما يمكن أن يفعله الأفراد بأنفسهم. فحتى لو كنا نرغب في بناء نظام نقل، أو إنتاج ألواح شمسية، أو ابتكار أجهزة أكثر كفاءة، فمن الواضح أننا لا نستطيع أن نفعل هذه الأشياء بمفردنا. يتطلّب هذا النوع من الإنتاج التدريب، والتنسيق، والآلات، والمصانع، والمواد.

من الممكن معالجة هذه المشاكل من خلال تنفيذ برنامج خدمات عامة شاملة، جنباً إلى جنب مع برنامج ضمان تحرّري للوظائف العامة. ومن شأن هذه المقاربة أن تُغيِّر بشكل جذري طبيعة الاقتصاد، بما في ذلك الإنتاج، بالإضافة إلى ضمان دخل كافٍ للجميع.

بالنسبة إلى رأس المال، فإن الغرض الأساسي من الإنتاج ليس تلبية الاحتياجات البشرية أو تحقيق أهداف اجتماعية وبيئية واضحة، بل تعظيم الأرباح ومراكمتها. هذا هو الهدف الأسمى بالنسبة إلى رأس المال.

الحصول على دخل أساسي لا يمكِّن الناس من شراء مساكن لائقة بأسعار معقولة أو الحصول على رعاية صحية عامة إذا لم تُطرَح عليهم هذه الأشياء في المقام الأول، أو لم تكن متوفِّرة بكميات كبيرة بالقدر الكافي

لا أعني بالخدمات الشاملة الرعاية الصحية والتعليم فحسب، بل أعني أيضاً الإسكان، والنقل العام، والأطعمة المغذّية، والطاقة المتجدّدة، والمياه، والاتصالات، والمرافق الترفيهية، ورعاية الأطفال: باختصار، جميع ضروريات الحياة البشرية. (لقد وصفت مثل هذا النظام بمزيد من التفصيل هنا). ويجب أن تكون هذه الخدمات جذَّابة، وعالية الجودة، وأن تدار بشكل ديمقراطي، وأن تكون شاملة بشكل مناسب، وليس أنظمة مجزّأة تعاني نقص التمويل عن قصد على غرار تلك التي نراها في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان النيوليبرالية. تضمن هذه المقاربة إنتاج السلع والخدمات الضرورية دائماً بكميات كافية ومتاحة للجميع. إن توفير هذه الخدمات بطريقة غير سلعية يحمي الناس أيضاً من أزمات تكلفة المعيشة، مثل تلك التي تعصف بالمملكة المتحدة حالياً، من خلال خفض تكاليف المعيشة حرفياً.

ومن جانبه، فإن برنامج لضمان الوظائف العامة من شأنه أن يُنهي البطالة غير الطوعية بشكل دائم (وهو أمر لا تستطيع الرأسمالية تحقيقه). فبرنامج ضمان الوظائف العامة يكفل تمكين أي شخص يرغب في العمل من التدرُّب للمشاركة في المشاريع الجماعية الأكثر أهمية لجيلنا: توسيع قدرات الطاقة المتجدِّدة، وتجديد النظم البيئية، وتحسين الخدمات العامة، وأعمال الرعاية، وما إلى ذلك. ويمكن للناس في هذا السياق القيام بعمل مُلح وضروري اجتماعياً بأجور مناسبة وظروف ديمقراطية في مكان العمل.

في بعض الأحيان، يرفض أنصار الدخل الأساسي فكرة ضمان الوظائف باعتبارها توفِّر «وظائف الغرض منه إبقاء الشخص مشغولاً حتى لو كان لطبيعة العمل قيمة ضئيلة»، لكن في الواقع الأمر عكس ذلك تماماً. من شأن مثل هذا البرنامج أن يوجِّه العمالة والإنتاج بشكل مباشر نحو الغايات الاجتماعية والبيئية الضرورية، بدلاً من الوظائف الهُرائية التي تنتشر في ظل الرأسمالية، أو المهام التي توجد فقط لمساعدة الأثرياء على أن يصبحوا أكثر ثراء. ولن يتعلّق الأمر بتوفير العمالة للشركات الخاصة، بل بتعبئة الأشغال العامّة لتحقيق الأهداف الاجتماعية الرئيسة التي يعجز رأس المال عن تحقيقها أو لا يرغب في تحقيقها. وهناك العديد من الأمثلة التاريخية على ذلك، بما في ذلك في الولايات المتحدة خلال عصر «الصفقة الجديدة»، عندما أنفقت حكومة روزفلت نحو 4 مليارات دولار لتوظيف الناس بشكل مباشر لبناء طرق جديدة ومباني عامة.

ومن بين الفوائد القوية الأخرى لبرنامج ضمان الوظائف أنه يمكن استخدامه لوضع معايير تقدّمية للأجور، ووقت العمل، والديمقراطية في أماكن العمل في جميع أنحاء الاقتصاد، من دون الحاجة إلى انتظار تغييرات تشريعية تدريجية. ومهما كانت المعايير التي يحدّدها برنامج ضمان الوظائف، فإن الشركات الخاصة سرعان ما تتعرّض لضغوط لمطابقتها، أو المخاطرة بخسارة الموظّفين. ففي نهاية المطاف، لماذا يستمر الناس في العمل لساعات طويلة بالحد الأدنى للأجور والقيام بأشياء من شأنها تعظيم الأرباح للمساهمين، في ظل ظروف هرمية مهينة، في حين يمكنهم بدلاً من ذلك العمل مقابل أجور كريمة والقيام بمشاريع ذات معنى اجتماعي في ظل ظروف ديمقراطية في مكان العمل؟

من الممكن تمويل هذه المقاربة - الخدمات العامة الشاملة وضمان الوظائف - من المال العام. فبدلاً من انتظار رأس المال للقيام بالاستثمارات اللازمة، وهو ما لن يفعله أبداً، تستطيع الحكومات التي تتمتَّع بالقدر الكافي من السيادة النقدية أن تُصدِر العملات للقيام بذلك بشكل مباشر. وكما أشار كينز: أي شيء يمكننا القيام به فعلياً، فيما يتعلق بالقدرة الإنتاجية، يمكننا أن ندفع ثمنه. وبطبيعة الحال، إذا ضغط كل الإنتاج العام الجديد على قدرة الاقتصاد (العمالة، والطاقة، والمواد المتاحة)، فسوف يتنافس مع الشركات الخاصة على هذه الموارد ويدفع الأسعار إلى الارتفاع. لكن من الممكن تجنّب هذه المشكلة بسهولة تامة من خلال خفض الطلب في مواضع أخرى، مثل استخدام الضرائب لخفض القوة الشرائية للأغنياء، ومن خلال تنظيم إقراض البنوك التجارية لتثبيط الاستثمارات في الصناعات المدمِّرة مثل الوقود الأحفوري وسيارات الدفع الرباعي، وهي الصناعات التي نحتاج إلى تقليل نطاقها.

من الممكن معالجة هذه المشاكل من خلال تنفيذ برنامج خدمات عامة شاملة، مع برنامج ضمان تحرّري للوظائف العامة. ومن شأن هذه المقاربة أن تُغيِّر بشكل جذري طبيعة الاقتصاد وضمان دخل كافٍ للجميع

وفي حين أن هذه البرامج يجب أن تُموَّل من قِبل الجهة المصدّرة للعملة، فإنها يجب أن تُدار بشكل ديمقراطي على المستوى المحلي المناسب. يضمن هذا أن توجَّه القرارات المتعلقة بالإنتاج نحو تلبية احتياجات الحياة الواقعية للناس. ويعتمد مستوى المحلية على المشروع: فالمشاريع الكبرى، مثل أنظمة السكك الحديدية بين المدن، سوف تتطلب التنسيق على المستوى الوطني، لكن المشاريع المحلية، مثل تركيب ألواح الطاقة الشمسية، أو المرافق الترفيهية، أو أعمال الرعاية ينبغي إدارتها على المستوى المحلي. الجانب الديمقراطي أمر بالغ الأهمية هنا، حيث أظهرت العديد من الدراسات أنه عندما يكون لدى الناس سيطرة ديمقراطية على الإنتاج فإنهم يميلون إلى إعطاء الأولوية لرفاهية الإنسان والبيئة.

يتمتَّع برنامج ضمان الوظائف بمزايا قوية للغاية مقارنة بالدخل الأساسي عندما يتعلّق الأمر بالمسألة بالغة الأهمية المتمثلة في الجدوى السياسية، أيضاً. ففي أوروبا، يعتبر دعم الدخل الأساسي متوسطاً في أحسن الأحوال، ويتراوح بين 29 إلى 55% في 7 دول في الاتحاد الأوروبي. وفي الولايات المتحدة، تعارضه غالبية من الناس، وهو ما قد يساعد في تفسير لماذا لم تتمكَّن حملة أندرو يانغ من تحقيق النجاح على الإطلاق. وعلى النقيض من ذلك، تحظى الضمانة الوظيفية بشعبية كبيرة في استطلاعات الرأي. ففي المملكة المتحدة، يؤيد الأمر 72% من الناس. وفي الولايات المتحدة تصل النسبة إلى 78%، وفي فرنسا إلى 79%. وهناك عدد قليل من السياسات التي تتمتع بمثل هذا الدعم واسع النطاق، وتُظهِر الأبحاث أن ضمان الوظائف يمكن أن يجذب بقوة ناخبي الطبقة العاملة الذين يشعرون بالغُربة عن العملية السياسية.

وبطبيعة الحال، لا يزال من الممكن أن يلعب الدخل الأساسي دوراً بوصفه عنصراً من عناصر هذا النظام. يمكن وينبغي إتاحته كبديل غير مشروط لأي شخص لا يستطيع العمل، أو يختار عدم العمل لأي سبب من الأسباب (وهناك العديد من الأسباب الوجيهة التي قد يرغب المرء في اختيار عدم العمل مدفوع الأجر على أساسها: للحصول على درجة علمية، للتعافي من حادث، لرعاية قريب أو عزيز مريض، وما إلى ذلك). وهذا من شأنه أن يحمي القيمة الأساسية - حرية الابتعاد عن العمل مدفوع الأجر - التي يسعى أنصار الدخل الأساسي إلى ترسيخها.

إن اتباع مقاربة متكاملة على هذا المنوال من شأنه أن يلغي بشكل دائم انعدام الأمن الاقتصادي، ويضمن حياة طيبة للجميع، ويُمكِّننا من تحقيق الأهداف الاجتماعية والبيئية الحيوية. وهذا أقوى لتحقيق هذه الغايات من الدخل الأساسي وحده، لأنه في حين يضمن الدخل الأساسي حدَّاً نقدياً معيناً، فإنه لا يضمن الوصول إلى السلع والخدمات الحقيقية التي يحتاجها الناس من أجل العيش الكريم: الرعاية الصحية، والإسكان، والتنقُّل، والمرافق النظيفة، والطاقة، وما إلى ذلك. ولا يمكنه ضمان إنتاجها وإتاحتها بأسعار معقولة. ومن الممكن أن تحقّق الخدمات العامة الشاملة وبرنامج ضمان الوظائف هذه الغاية، في حين تعمل أيضاً على إضفاء الطابع الديمقراطي على الإنتاج وإحداث تحول راديكالي في ظروف العمل.

في حين يضمن الدخل الأساسي حدَّاً نقدياً معيناً، فإنه لا يضمن الوصول إلى السلع والخدمات الحقيقية التي يحتاجها الناس من أجل العيش الكريم، ولا يمكنه ضمان إنتاجها وإتاحتها بأسعار معقولة

إن تحقيق هذا الهدف - القضاء على انعدام الأمن الاقتصادي - من شأنه أن يُخلِّف تأثيرات إضافية مهمّة. من ناحية، من شأنه أن يكسر الجمود السياسي بشأن العمل المناخي. ففي الوقت الحالي، من المستحيل سياسياً اتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق نزع الكربون بسرعة، بما في ذلك تقليص صناعة الوقود الأحفوري وغيرها من الصناعات المدمِّرة، لأن الناس يخشون أن يؤدي هذا إلى تعريض الوظائف للخطر وتفاقم انعدام الأمن الذي يعانون منه بالفعل. وهذه مخاوف حقيقية يجب معالجتها على وجه السرعة. ومن شأن الخدمات العامة الشاملة وضمان الوظائف أن تنهي حالة عدم اليقين هذه، وتوفِّر آلية صارمة تُمكِّن الناس من الانتقال بسلاسة من قطاعات مثل إنتاج النفط والغاز عند التخلص التدريجي منها. ومن شأنها أن تُمكِّن من متابعة العمل المناخي الجريء من دون أن يتعرَّض أي شخص للأذى. وهذا هو الشُّغل الشاغل للتحوُّل العادل.

كما أن ضمان الخدمات العامة وفرص العمل من شأنه أن يُثبِّط السياسة اليمينية. فالسرديات اليمينية تستغل مخاوف الناس من انعدام الأمن الاقتصادي - والشعور السائد بالمنافسة على الوظائف والموارد الشحيحة الذي يعيشه الناس في ظل الرأسمالية - لإثارة الكراهية تجاه المهاجرين وغيرهم من الأقليات من أجل الحصول على الدعم للأجندات السياسية الرجعية. هذا عنصر أساسي في سياسة دونالد ترامب، إذا أردنا ضرب المثل الأكثر وضوحاً. لن تساعد الخدمات العامة الشاملة وضمان الوظائف في إزالة المخاوف الاقتصادية للناس فحسب، بل ستوفِّر أيضاً آلية للإدماج السريع لجميع الناس - بما في ذلك المهاجرين - كمشاركين فاعلين ومتساوين في بناء مجتمع أفضل. هنا، أيضاً، تتمتَّع هذه المقاربة بفوائد قوية مقارنة بالدخل الأساسي. وبوسع المرء أن يتخيل كيف قد يحاول اليمين تصوير أي برنامج «للدخل الأساسي الشامل» باعتباره «صَدَقَة»، واتهام المستفيدين منه بأنهم «يستنزفون» المجتمع. وهو ادعاء يرفضه بشدة أنصار الدخل الأساسي. لكن مع ضمان الوظائف - حيث تكون إسهامات الناس في تحسين الوضع الجماعي واضحة ليراها الجميع - يصبح من المستحيل دعم مثل هذه الادعاءات. وسوف تفشل محاولات شيطنة المهاجرين وتقسيم الطبقات العاملة، وسوف تظهر احتمالات جديدة لسياسات الطبقة العاملة.

ويمكن لهذه السياسات أن تحشد الدعم الشعبي الشامل لأجندة سياسية تحويلية. كما أنها تمتلك قدرة راديكالية على تحسين أي بلد تُنفَّذ فيه. سوف تعالج الاحتياجات المادية الحقيقية لمجتمعات الطبقة العاملة، وتقضي على شرور مجتمعية مثل الفقر والتشرُّد إلى الأبد، وتُمكِّننا من تحقيق أهداف بيئية بعيدة المنال، ومساعدة البشرية على التغلّب على تهديد تغيُّر المناخ الذي يُعرِّض عالمنا حالياً للخطر. في الواقع، قد تكون هذه هي المقاربة الوحيدة القادرة على معالجة الأزمات العاجلة التي نواجهها بشكل مناسب.

نشر هذا المقال في Current Affairs في 31 كانون الثاني/يناير 2024.