كيف تُغرِق إسرائيل المصارف الفلسطينية بالشيكل عديم الجدوى؟
يحتفظ أي مصرف في العالم بجزء من السيولة النقدية التي يملكها في خزائن آمنة أو في فروعه للاستخدام اليومي وتلبية السحب النقدي للزبائن، بينما يوظّف باقي السيولة النقدية لتحقيق الربح، فيرسلها مثلاً إلى مصارف أخرى أو إلى مصرف مركزي لكسب الفائدة.
هذا هو العمل المعتاد في أي مصرف في العالم، لكن في مصارف الضفة الغربية وغزّة تعمد سلطات الاحتلال منذ سنوات الى إعاقة هذا النمط البديهي لعمل المصارف، ما جعل النقود، ومعظمها بالشيكل الإسرائيلي، تتكدّس في خزائن المصارف الفلسطينية، وبحسب مشاهدات منقولة من هناك، تضطر بعض المصارف إلى وضع النقود في أكياس القمامة بسبب امتلاء الخزائن بكامل سعتها. والواقع أن فائض الشيكل في القطاع المصرفي في الضفّة العربية قد يصل إلى نحو 8 مليارات شيكل في نهاية العام الحالي 2024، أي ما يعادل 4.8 مليار دولار أميركي تقريباً.
كيف وصل الحال إلى هنا؟ منذ توقيع بروتوكول باريس الاقتصادي في العام 1994 بين منظّمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، بات الشيكل العملة الرئيسة في السوق الفلسطينية. ومع حرمان الضفّة الغربية من عملة فلسطينية وطنية، أصبحت أجور موظّفي السلطة الفلسطينية ومعاشات المتقاعدين تدفع بالشيكل، وكذلك البضائع المستوردة من إسرائيل والمُصدّرة إليها. كما يتقاضى العمّال الفلسطينيون في الأراضي المحتلّة أجورهم بالشيكل، وتجمع إسرائيل الضرائب نيابة عن السلطة الفلسطينية وتحوّلها إليها بالشيكل أيضاً. وبحلول العام 2023، بلغت السيولة النقدية في المصارف الفلسطينية بالشيكل الإسرائيلي حوالي 84% من معظم السيولة.
قبل العام 2009، كانت جميع المصارف العاملة في الضفّة الغربية وغزّة تشحن فائضها النقدي من فئة الشيكل إلى المصارف المراسلة الإسرائيلية لإضافته إلى حسابات هذه المصارف. لكن في العام 2007، أعلن الكابينت الأمني التابع للحكومة الإسرائيلية قطاع غزة «كياناً معادياً»، ونتيجة لذلك، قطعت المصارف الإسرائيلية جميع علاقاتها المصرفية المُراسلة مع المصارف العاملة في غزّة في العام 2009، وهدّدت بقطع كامل العلاقات المصرفية المراسلة مع المصارف في الضفّة الغربية، ما سبّب أزمة فائض بالشيكل للمصارف العاملة في الأراضي الفلسطينية.
مع إنهاء المصارف المراسلة الإسرائيلية خدماتها النقدية، بدأ المصرف المركزي الإسرائيلي في خدمة الشحنات النقدية الآتية من المصارف العاملة في الضفّة الغربية في العام 2009، ولكنه وضع حدّاً شهرياً لكمّية العملات المعدنية والأوراق النقدية التي يقبلها، على الرغم من أن الشيكل المتداول هو من مسؤولية المصرف المركزي الإسرائيلي. زادت سلطة النقد الفلسطينية كمّيات الشيكل المشحون إلى حوالي 18 مليار شيكل سنويا في السنوات الأخيرة، إضافة إلى بعض الشحنات الاستثنائية، لتساوي في معظمها 5 أضعاف الحصّة التي حُدّدت في العام 2009.
منذ بدء حرب الإبادة الجماعية في غزّة، تتعرّض المصارف في قطاع غزّة للقصف المباشر، فيما يتمّ التضييق على المصارف الموجودة في الضفة الغربية بأشكال مختلفة، ولا سيما من خلال تقليص كمّيات الشيكل المشحون. ففي العام 2023، تمّ شحن نحو 22.9 مليار شيكل، بالمقارنة مع 25.5 مليار شيكل في العام الذي سبقه. وفي 21 آب/أغسطس الماضي، حذّرت سلطة النقد الفلسطينية من تداعيات خطيرة وشيكة سوف تطال كل جوانب الحياة في حال استمرار إسرائيل في رفض استقبال العملة النقدية من فئة الشيكل المتراكمة في المصارف الفلسطينية، وأكّدت سلطة النقد أن المصارف العاملة في فلسطين لن تكون قادرة على تمويل عمليات التجارة ودفع أثمان السلع والخدمات للشركات والمورّدين الإسرائيليين، كون استمرار رفض الجانب الإسرائيلي شحن الشيكل يحرم المصارف الفلسطينية من تغذية حساباتها في المصارف المراسلة الإسرائيلية.
حسابياً، تُعرِّف سلطة النقد الفلسطينية فائض الشيكل النقدي على أنه النقد بالشيكل الموجود في خزائن المصارف ويتجاوز 6% من الودائع قصيرة الأجل بالشيكل. والواقع، أن سلطة النقد الفلسطينية تُلزم المصارف بالاحتفاظ بنسبة 3% من ودائعها بكل عملة نقداً في خزائن المصرف، بالإضافة إلى الاحتفاظ بنسبة 3% من إجمالي الودائع بكل عملة لتلبية احتياجات السحب النقدي اليومية للعملاء. ووفق هذا التعريف، كانت المصارف الفلسطينية تحتفظ بفائض نقدي بالشيكل بقيمة 5 مليارات شيكل في آخر حزيران/يونيو 2022، وتضخّم هذا الرقم في السنتين الماضيتين، ومن المرجّح أن يصل إلى 8 مليارات شيكل في نهاية العام 2024.
بحسب ورقة لصندوق النقد الدولي، يخلق الاحتفاظ بالشيكل النقدي الزائد أكلافاً مختلفة على النظام المصرفي الفلسطيني، ويقلّل أرباح المصارف بحوالي 20%. وإلى جانب خسارة الفائدة التي كان من الممكن أن تكسبها المصارف لو تم توظيف فائض الشيكل في مصارف أو صناديق استثمارية أو سندات دين أو إقراضها إلى العملاء، تستغرق عملية شحن كمّيات الشيكل المسموح بها إلى إسرائيل أسابيع عدّة، وهو ما يضيف خسائر إضافية جراء الوقت الضائع من عدم توظيف هذه النقود، عدا عن أن سعر الفائدة الذي تعرضه المصارف المراسلة الإسرائيلية أقل بكثير من سعر الفائدة الذي يحدّده بنك إسرائيل. وهذه أرباح إضافية «تحرم» منها المصارف الفلسطينية.
فضلاً عن ذلك، عادة ما تمتلئ خزائن المصارف الفلسطينية بسعتها القصوى، ما يوجب بناء خزائن جديدة وتحمّل تكاليفها. وفي أثناء بناء الخزائن، يتم شحن الأموال النقدية الزائدة إلى فروع أخرى، وتتحمّل المصارف تكاليف الشحن، ويضاف إلى هذا كله أقساط التأمين على النقد الفائض، التي قدّرت بنحو 12 مليون دولار أميركي في العام 2021.
أيضاً، وبحسب صندوق النقد الدولي، يطلب المصرف المركزي الإسرائيلي من المصارف الفلسطينية التعاقد مع مركز نقدي إسرائيلي لمعالجة الأوراق النقدية والعملات المعدنية الآتية من الضفّة الغربية. وقد فرض المركز على المصارف الفلسطينية رسوماً إدارية أولية قدرها 1200 شيكل إسرائيلي جديد لكل مليون عملة تتم معالجتها، ثم تم رفعها لاحقاً إلى 1500 شيكل إسرائيلي جديد لكل مليون عملة تتم معالجتها.
تتحدّث صحيفة «فاينانشال تايمز» عن أضرار أخرى غير منظورة، ويقول مصرفيون ومسؤولون للصحيفة إن الأموال الخاملة في خزائن الضفّة الغربية لا تحرم الدائنين من الأرباح ولا تعقّد المعاملات فحسب، بل أصبحت أيضاً هدفاً متزايداً للسرقة. وبحسب مصادر الصحيفة، سجّلت 8 عمليات سطو مسلّح على مصارف في الضفّة الغربية في العام 2023، بزيادة الضعف عن العام الذي سبقه، كما سجّلت 3 عمليات على الأقل حتى الآن في خلال هذا العام. ويقول مسؤول في الأمم المتّحدة إن المشكلة تتفاقم بسبب القيود التي فرضتها إسرائيل على الحركة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، ما صعّب على المصارف نقل الأموال النقدية من الفروع غير المُحمية.
لا ريب أن هذه العراقيل تقيّد قدرة المصارف الفلسطينية على تنفيذ العمليات المالية، ويؤثّر على استقرار القطاع المصرفي. وهذه سياسة إسرائيلية متعمّدة لإضعاف القطاع المصرفي الفلسطيني بحجة «مكافحة تمويل الإرهاب». علماً أنه بحسب دراسة أجرتها وزارتا الخزانة الأميركية والبريطانية عن القطاع المصرفي الفلسطيني في حزيران/يونيو الماضي، لا يزال القطاع المصرفي الفلسطيني «يتمتّع بإطار قوي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وسجل قوي في مجال إنفاذ القوانين».
يبقى الامتناع عن استقبال فائض الشيكل أداة من أدوات إسرائيل للتضييق المالي على الضفّة الغربية. منذ بداية حرب الإبادة، فرض وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش قيوداً على تحويلات الإيرادات التي تجمعها إسرائيل نيابة عن السلطة الفلسطينية، وهدّد بعدم تجديد إعفاء يسمح للمصارف الإسرائيلية بتقديم خدمات المراسلة المصرفية لنظيراتها الفلسطينية.