معاينة maersk

محاولات حظر (شعبي) للسلاح المتدفق على إسرائيل

بون واسع بين يومنا هذا وبين 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، يوم تقدّم لويْ هندرسون، مسؤول مكتب شؤون الشرق الأدنى وأفريقيا في وزارة الخارجية الأميركية، بمقترح دخل حيّز التنفيذ بعد أيام واستمر لسنوات يقضي بحظر تصدير الأسلحة إلى فلسطين - أي إلى الفلسطينيين والصهاينة فيها - وجوارها. بعد ذلك انقلبت الحال، وتحديداً منذ ما بعد حرب 1967، إذ قدمّت الولايات المتحدة لاسرائيل دعماً سخيّاً هو الأكبر لأي دولة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تضمّن مساعدات تزيد عن 317 مليار دولار، منها أكثر من 252 مليار دولار مساعدات عسكرية بين عامي 1951 و2022 (مع احتساب أثر التضخّم)، بحسب معهد واتسون في جامعة براون. وكذلك التزمت الولايات المتّحدة بضمان التفوّق العسكري النوعي لإسرائيل على جوارها، بما في ذلك حصريّة امتلاكها لطائرات F-35 الحربية في المنطقة.

المهم، أن العون الأميركي العسكري لإسرائيل ليس ميتافيزيقياً، بل هو يحدث في الواقع المادي. يتمّ على يد جهات خاصة وحكومية وبواسطة قرارات وشركات وأحزاب وسلاسل توريد وآليات عمل وتمويل. وهذه أطر يترتّب على الراغب بتغييرها إنجاز واجب تفسيرها. واليوم تشنّ إسرائيل حرباً إبادية على سكان قطاع غزة، ضمن نسق من التطهير الإثني للفلسطينيين بين نهر الأردن والبحر المتوسط. وتشن أيضاً عدواناً إمبريالياً على لبنان وصولاً لإيران، يستهدف «تغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط»، بحسب تعبير رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو. يحدث ذلك وسط دعم - لا ينفكّ مسؤولو الإدارة الأميركية يومياً عن تذكيرنا أنه - صارم وحديدي.

فشل خطاب الاستعطاف الإنساني وموجبات احترام القانون الدولي والمحاججة العقلانية في إقناع الإدارة الأميركية - الداعم العسكري الأكبر لإسرائيل - بوقف دعمها وفرض حظر سلاح «من فوق»

حظر السلاح «من تحت» 

في ظل جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل، فشل خطاب الاستعطاف الإنساني وموجبات احترام القانون الدولي والمحاججة العقلانية في إقناع الإدارة الأميركية - الداعم العسكري الأكبر لإسرائيل - بوقف دعمها وفرض حظر سلاح «من فوق»، لذلك انطلقت مجموعات سياسية داعمة لفلسطين في محاولة لفرض حظر شعبي للسلاح «من تحت». وتبرز من هذه المجموعات «حركة الشباب الفلسطيني»، وهي حركة من الشباب الفلسطيني والعربي تنشط في الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية، وتناضل من موقعها كجزء من حركة التحرّر الفلسطينية، وتؤدّي أدواراً محورية في ميادين العمل الطالبي والنقابي والتعبئة السياسية.

في شهر أيار/مايو الماضي، أطلقت الحركة حملة ضدّ شركة «ميرسك» الهولندية؛ إحدى أكبر شركات الشحن البحري في العالم، نظراً لدورها الكبير في نقل الأسلحة إلى إسرائيل.

تُقدر القيمة السوقية لهذه الشركة بنحو 25 مليار دولار. وتعمل في 130 دولة حول العالم، وتشغّل أكثر من 680 سفينة شحن. ولديها تاريخ حافل في خدمة نقل العتاد العسكري في الحروب، إذ تشير التقديرات إلى أنها تولّت شحن نحو 50% من الأسلحة والذخائر التي استخدمتها الولايات المتّحدة في خلال حرب العراق. وقد نشرت حركة الشباب الفلسطيني تقريراً مفصّلاً يشرح دور «ميرسك» في شحن الأسلحة الأميركية إلى إسرائيل، وماهية الشحنات التي نقلتها. يظهر التقرير أنه في خلال عام يمتد بين أيلول/ سبتمبر 2023 وأيلول/ سبتمبر 2024 قامت الشركة بنقل أكثر من 2000 شحنة حملت ملايين الأرطال من المعدات العسكرية من الولايات المتحدة إلى الجيش الإسرائيلي.

سفينة واحدة على الأقلّ لشركة «ميرسك» تحمل ألف طنّ من المعدات العسكرية تغادر مرفأ إليزابيث على ساحل ولاية نيوجيرسي باتجاه إسرائيل كلّ أسبوع

كليم حوّا، وهو عضو في الحركة في مدينة نيويورك وأحد المشاركين في الوحدة المكلّفة بمتابعة ملفّ شركة «ميرسك» داخل الحركة، يشرح لموقع «صفر» أن استقصاءات الحركة توصّلت إلى أن سفينة واحدة على الأقلّ لشركة «ميرسك» تحمل ألف طنّ من المعدات العسكرية تغادر مرفأ إليزابيث على ساحل ولاية نيوجيرسي باتجاه إسرائيل كلّ أسبوع. درس الباحثون في حركة الشباب الفلسطيني أكثر من ألفَي شحنة لتبيان محتوياتها، وتبيّن أنها تتضمّن معدّات خاصّة بالمركبات المدرعة والتكتيكية وأنظمة الأسلحة وقطع غيار للطائرات والمدرعات وغيرها كما يبيّن الجدول أدناه.

2,110 شحنات عسكرية عبر «ميرسك» إلى إسرائيل

يشرح كليم أن النظام التشغيلي لشركة «ميرسك» يتضمّن مرحلتين:

المرحلة الأولى: تتولّى سفن الشحن عبر المحيط الأطلسي، من نيوجيرسي إلى أحد مرافئ المتوسط. وهذه السفن هي: ميرسك أتلانتا، ميرسك شيكاغو، ميرسك كولومبوس، ميرسك دنفر، ميرسك ديترويت، ميرسك هارتفورد، ميرسك كاراتشي، ميرسك كينزينغتون، ميرسك كينلوس، ميرسك بيتسبرغ، ميرسك سيليتار، وميرسك سينتوسا.

المرحلة الثانية: بعد أن تفرغ تلك السفن حمولاتها في أحد المرافئ المتوسطية، تتولّى إحدى السفن الخمس العاملة داخل البحر المتوسط والتابعة لشركة «ميرسك» نقل هذه الحمولات من المرفأ المتوسطي إلى المرافئ الإسرائيلية في حيفا أو أشدود. وهذه السفن هي: ميرسك نورفولك، نايستد ميرسك، ماريو أ، وواندا أ.

قامت الحكومة الإسبانية بمنع سفينتين تابعتين لميرسك في طريقها في المحيط الأطلسي من الرسو في مرفأ الجزيرة الخضراء. اضطرت سفينة ميرسك دنفر عندها أن ترسو في مرفأ طنجة في المغرب وتبعتها بأيام سفينة ميرسك سيليتار

غالباً ما تكون الوجهة المتوسطية الأولى لسفن «ميرسك» العابرة للأطلسي هي مرفأ الجزيرة الخضراء في إسبانيا ،الذي تشغله «ميرسك». هناك تفرغ السفن الأطلسية حمولتها، ومن ثم تحمل إحدى السفن المتوسطية لميرسك الشحنة من إسبانيا مروراً بمرفأ الاسكندرية بمصر ثم مرفأ مرسين في تركيا ومن هناك إلى اسرائيل.

وتحمل سفن ميرسك في طريق عودتها قطعاً وأجزاءً عسكرية من إسرائيل وإيطاليا إلى الولايات المتّحدة تُستخدم في مشروع صناعة طائرة F-35 لشركة «لوكهيد مارتن» في تكساس.

 في أيار/مايو الماضي، منعت الحكومة الاسبانية سفناً تحمل معدات عسكرية تابعة لميرسك من الرسوّ في مرافئها. لكن يبدو أن الشركة لا تمتثل. منذ أيام، وفي سياق حملة حركة الشباب الفلسطيني وتنسيقها مع منظمات أخرى مثل «الأممية التقدمية» واستجابة أحزاب يسارية وشيوعية في إسبانيا لمطالب الحملة، قامت الحكومة الإسبانية بمنع سفينتين تابعتين لميرسك في طريقها في المحيط الأطلسي من الرسو في مرفأ الجزيرة الخضراء. اضطرت سفينة ميرسك دنفر عندها أن ترسو في مرفأ طنجة في المغرب وتبعتها بأيام سفينة ميرسك سيليتار. ومن مرفأ طنجة ستقوم سفينة ميرسك المتوسطية نايستد بنقل الحمولات إلى اسرائيل.

وكان الأمين العام للحزب الشيوعي الإسباني إنريكي سانتياغو قد تقدّم بشكوى لدى المدعي العام في إسبانيا. وقال إن المشاركة في إرسال الأسلحة إلى إسرائيل يُعدّ تواطؤاً في الإبادة الجماعيّة الجارية بغزّة.

تعمل الحركة على الربط الجدلي بين النقابات العمالية المعنية بخط الإنتاج في شركات التصنيع في الولايات المتحدة مروراً بسلاسل التوريد وصولاً إلى مسرح جريمة الإبادة في قطاع غزة

تدلّ هذه الوقائع على مفارقات صارخة: مجموعة فلسطينية عربية في الولايات المتحدة الأميركية تُطلق حملة ضد شركة «ميرسك» الهولندية، التي تنقل سلاحاً أميركياً إلى الجيش الإسرائيلي. وتنسق لهذه الغاية مع منظّمات يسارية أممية وأوروبية، فتستجيب حكومة دولة أوروبية هي إسبانيا وتمنع السفن من الرسوّ في مرافئها، ثمّ يهبّ نظامان عربيّان في المغرب ومصر لنجدة إسرائيل وإصلاح ما اختلّ في سلاسل توريد الإبادة الجماعيّة!

يشرح كليم استراتيجية الحركة في حملتها ضد شركة «ميرسك» وحظر الأسلحة على إسرائيل، ويضيء على جوانب وساحات عدّة تعمل عليها الحركة. أهمّ هذه الساحات ربما هي الحركة العمّالية في الولايات المتحدة. قبل شهر من الآن كانت نقابة عمّال الموانئ الدولية تستعدّ للدخول في إضراب كان سيكون الأكبر على الساحل الشرقي للولايات المتحدة ضد «ميرسك» قبل أن تلبّي الشركة مطالب النقابة تخوفاً من التبعات الهائلة لإضرابهم على سلاسل التوريد. محفّز الإضراب كان إجراءات الأتمتة التي تقوم بها «ميرسك» في المرافئ التي تشغلها. كذلك واجهت الشركة مشاكل مع نقابات عمال الشاحنات وسكك الحديد. كل هذا يخلق أرضية خصبة للتنسيق ولتعبئة النقابات العمّالية لتأييد مطالب الحملة.

وتعمل الحركة على الربط الجدلي بين النقابات العمالية المعنية بخط الإنتاج في شركات التصنيع في الولايات المتحدة مروراً بسلاسل التوريد وصولاً إلى مسرح جريمة الإبادة في قطاع غزة. المثل الأبرز على ذلك هو صورة تظهر استخدام الجيش الاسرائيلي لمركبة أوشكوش التكتيكية لنقل أسرى فلسطينيين في قطاع غزة. هذه المركبة يساهم في صناعتها بعض مجموعات عمال نقابة «اتحاد عمال السيارات» UAW في ولاية ويسكنسن، وهي نقابة أدّت فروعها في ولايات عدّة أدواراً تقدمية في النضال الفلسطيني في خلال العام الماضي تضامناً مع الحراك الطالبي، ومرّر بعض فروعها قرارات ضد «ميرسك». تطمح الحملة إلى تعاون أكبر مع هذه النقابة لعرقلة بعض من خطوط إنتاج الآلة الحربية الإبادية.

يستهدف منظّمو الحملة رفع كلفة أعمال شحن السلاح على متن سفن «ميرسك» لقاء العائد المحدود نسبياً الذي تتقاضاه لقاء هذه الأعمال. تقوم الشركة بنقل السلاح التجاري، أي الذي تشتريه إسرائيل من شركات تصنيع السلاح الأميركية، بعد مصادقة الخارجية والبنتاغون على الصفقات. تستهدف الحملة كذلك التعبئة الشعبية ضد إمدادات السلاح الأميركي لإسرائيل على مستويات الطلاب والعمّال والفئات الاجتماعية المختلفة. وقد بات حظر السلاح شعاراً يحمله عدد محدود جداً من أعضاء في الكونغرس الأميركي مثل النائبة التقدّمية ألكسندرا أوكاسيو كورتيز. كذلك تستهدف الحملة الجانب القانونية من زوايا مختلفة. وهي تدرس تقارير بشأن تورّط «ميرسك» بشحن صادرات المستوطنات الاسرائيلية غير القانونية وفق القانون الدولي كتلك التي في الضفة الغربية.

يستهدف منظّمو الحملة رفع كلفة أعمال شحن السلاح على متن سفن «ميرسك» لقاء العائد المحدود نسبياً الذي تتقاضاه لقاء هذه الأعمال

الساحة الأخرى لهذه المعركة هي العالم العربي ومسؤولية أنظمته والمنظمات السياسية فيه. «ميرسك» هي ربما ثاني أكبر شركة شحن في العالم، وهي تشغّل وتمرّ بمرافئ دول عربية. هل من مسؤولية وإمكانية أن يلاقي العالم العربي هذه الحملة التي بدأت، كسابقاتها، من خارجه؟

يتحدّث كليم عن نضال الحركة ضد ثالوث يتمثل بالحركة الصهيونية والامبريالية الغربية والأنظمة العربية الرجعية. لا يمكن إلا أن ينتبه المرء مباشرة أنه على كوكب الأرض حالياً هناك من يفعل وما يجري في مواجهة الامبريالية وكذلك في مواجهة الصهيونية، لكن هذه الأنظمة العربية، التي ربما تجسّد الاثنتين السابقتين وتقدّم لهما خدمات جُلّى، هل من يفعل وما يحدث في مواجهتها!؟