Preview ماليني

نساء من ذهب

«وا أمَّاه… أموت حزناً حيث أعيش هنا مع رجل

لا أستطيع أن أراقص النَول، أو أن ألوِّح بعصا الغزْل»

ردِّية شعبيّة منسوبة إلى مسبيّات شعب النواتل في أميركا الوسطى قبل الغزو الأوروبي

 

«أنا أوَّل امرأة متزوِّجة أتت إلى هذه الأرض، وشرعَتْ في إعمارها بالسكَّان، وخدمَتْ جلالتك في الفتوحات وإخماد التمرُّدات، وقد خاطرَْت بحياتها من أجل ذلك مرَّات عدَّة وسفكَْت الكثير من دمائها في تلك المغامرة».

رسالة من دونا إيناس إلى ملك إسبانيا

 

على متن سفينته الراسية في خليج المكسيك، قام الغازي هرنان كورتيز في العام 1521 باستدعاء القسّ خيرونيمو دي أغيلار من أجل فكّ لغز ما يقوله مبعوثِي ملك إمبراطورية الأزتيك المعروف بموكتيزوما. كان كورتيز قد افتدى دي أغيلار بالمال بعد أن قضى الأخير سنوات عدَّة بين شعب المايا إثر تحطُّم السفينة التي كان على متنها واكتسب اللغة المحلّية. خيَّب دي أغيلار ظنَّ كورتيز بعد أن تبيَّن أن لغة الوافدين من «العالم الجديد» هي الأزتيك وليست المايا. فجأة، تقدَّمت فتاة «هندية» من بين اللواتي سباهن كورتيز وصحْبه سابقاً ونجَحَت حيث فشل القسّ المُحرَّر.

أنقذت المهارات اللغوية وسرعة البديهة تلك الفتاة الملقّبة بمالينشي، أو دونا مارينا كما باتت تُعرف لاحقاً، من قدَرٍ شبه محتومٍ كجارية مُزدرأة عند الغزاة الإسبان، وجعلت منها شريكة في صناعة التاريخ. فبعد حادثة السفينة، رافقت مالينشي كورتيز في حملاته العسكريّة وتحوَّلت إلى صلة الوصل المفضَّلة بينه وبين شعوب السكَّان الأصليين، فأمرت أعداءه من الملوك وزعماء المناطق بإحضار الذهب تارة، وتوسَّطت بينه وبين القوى المحلّية المتحالفة معه تارة أخرى. وفي أحيانٍ كثيرة، قدَّمت له النصح والمشورة فيما لا يفقه به عن حضارة وعادات شعوب البلاد التي أتت منها، فكَفَتْه شرَّ الهزيمة، حتَّى قال فيها الراوي المعاصر لغزو المكسيك برنال دياز: «لولاها، لما كسبنا هذه الأرض».

مشكلة الخطاب الذكوري ليست في تخوين مالينشي، بل في اختيارها - كونها امرأة - كرمز للخيانة الوطنية بدلاً من رجال كُثُر أدّوا أدواراً أكثر سوءاً وفي ظروفٍ أقل حراجة

بعد سقوط عاصمة الأزتيك بيد الغزاة الإسبان، اتخذها كورتيز خليلة له وأقامت في قصره. وسرعان ما اتَّهمها منافسو كورتيز من المتنفِّذين بإدارة شبكة الرشاوى والعائدات التي لم يشأ رجل إسبانيا الأوَّل في «العالم الجديد» أن يصرِّح عنها تفادياً لدفع ضريبة الخُمْس الملكية. فما كان من الداهية كورتيز إلا أن ادّعى أن ما يصل مالينشي من ذهبٍ وتبغٍ وسلعٍ أخرى، هي هدايا يقدِّمها المحبّون. وقد أنجبت مالينشي من كورتيز طفلاً قبل أن يُزوِّجها لاحقاً لأحد رجاله ويتَّخذ هو زوجة من طبقة النبلاء الإسبان.

كَتَم معظم المدوِّنين الأوائل، بما فيهم كورتيز، أخبار مالينشي وحاولوا التقليل من دورها. وعندما استُعيدت ذكراها في القرن العشرين، تأرجحت سيرتها بين صورتين على طرفيْ نقيض. الأولى رسمها أنصار الخطاب القومي في المكسيك، وهي صورة الخائنة لوطنها، وقد اشتُقَّت من اسمها صفة «مالينشيستا» أي المتزلِّف للأجنبي. أمّا الصورة الثانية، وهي أكثر حداثة، فقد تبلورت في كتابات نسوية ليبرالية، اعتبرت مالينشي ضحية لمجتمعين ذكوريين حاولت التوفيق بينهما في ظروفٍ قاهرة.

Previewماليني


لا تنفي تلك الظروف تواطؤ مالينشي مع المُستعمِر. ومحاولة تبرئتها - من باب نقض الخطاب الذكوري - عبر تصويرها كمجرّد ضحية هي وجهٌ ثانٍ للعملة نفسها. فالمشكلة في الخطاب الذكوري ليست في تخوين مالينشي، وهو توصيف مبني على معطيات تاريخيَّة من الصعب إنكارها، بل في اختيارها - كونها امرأة - كرمز للخيانة الوطنية بدلاً من رجال كُثُر أدّوا أدواراً أكثر سوءاً وفي ظروفٍ أقل حراجة.

إن الصورتين النمطيتين لمالينشي، أي العميلة الشريرة أو الضحيَّة البطلة، وكذلك اختصار نساء تلك المرحلة بشخصها والتركيز على خياراتها الذاتية، يحدُّ من فهم بنيوي أعمق لتناقضات العلاقات الجندرية التي حكمت ظاهرة الاستعمار، وتشابك تلك العلاقات مع الصراعات الطبقية والهويّاتية التي عصفت بكلّ من عَاصَر تلك الحقبة. في كثيرٍ من الأحيان، تمحورت هذه الصراعات حول حيازة الثروة الناتجة عن الاستعمار (من أرضٍ مُصادرة ومالٍ منهوب وقوى عاملة محلِّية) والاحتفاظ بها تحت نظام من المُلْكيّة غير مستقرّ ومُنحاز طبقياً وعرقياً وجندرياً. لم تكن دونا مارينا وغيرها من النساء الذين همّشهن التاريخ، بعيدات من تلك الصراعات. لقد سعت تلك النسوة – القادمات من خلفيَّات اجتماعية مختلفة - إلى تفادي مظالم أو تحقيق مكاسب من خلال النظام الأبوي الذي أسَّسه الأوروبيون. فماذا تخبرنا سِيَرهنّ عن كيفيّة تداخل القمع الجندري مع الصراع الطبقي والعرقي في حلّته الاستعمارية الأولى؟

خيارات دونا مارينا

وَقَعَت مالينشي ضحية الرقِّ منذ الصغر وقبل قدوم الرجل الأبيض. فالرقُّ سابق للاستعمار عند شعوب الميزو-أميركا (أي أميركا الوسطى قبل قدوم الأوروبيين) وإن اقتصر في غالبيته، كحاله في معظم مجتمعات ما قبل الرأسمالية، على الخدمة المنزلية والإنتاج الحرفي والسُخرة الجنسية. وقد تقع النساء، وخصوصاً الفتيات منهن، في الرقِّ لأسباب شتّى؛ منها الخطف على يد التجّار الرُّحَّل، أو البيع من ذوي القربى نتيجة العَوَز، أو الهبة كفدية من زعماء العشيرة لتجنُّب الحرب. وفي النوادر، تدخُل المُستَعبَدة في علاقة رقٍّ «طوعيَّة» من أجل مقاومة الجوع أو استبدال العمل الجسدي الشاقّ بالاستغلال الجنسي. لكنّ أحوال النساء اللواتي يقعنَ ضحيَّة الرقّ كانت تتباين نتيجة عوامل عدّة كالمكانة الاجتماعية التي ينحدرن منها. فسبايا الحروب من طبقة النبلاء كانت لهنّ حظوظاً أكبر من النساء العوام في الحصول على بعض المكتسبات في بيئتهنّ الجديدة، وخصوصاً في حالة معاشرتهن أو زواجهن من رجال ذي مكانة اجتماعية مرموقة.

لم تقبع مالينشي طويلاً في هذه البيئة قبل أن تصبح رهينة عند الإسبان وتتمكّن من نيل حظوة عند كورتيز كمترجمة. لكن الخدمات الجليلة التي قدَّمتها للمُستعمِر الأوروبي لم تحرِّرها من التمييز الجندري والطبقي الذي طالها وطال ذرّيتها في ظل بيئة أكثر توحّشاً وتسليعاً للبشر. لقد أقام الاستعمار الأوروبي استعباداً فاق بأضعاف - كمّاً ونوعاً - ما وجده عند السكَّان الأصليين وكرَّسه من خلال نظام قضائي ظاهره إحقاق العدل وباطنه مكافأة القوي. وقد جهدت دونا مارينا، كما تخبرنا المؤرِّخة كاميل تاون ساند في كتابها «خيارات مالينشي»، من أجل أن تنعم بامتيازات ذلك النظام بدلاً من أن تقع تحت سطوته، وذلك عبر محاولتها الانضمام إلى طبقة الإنكومانديرو الإسبان، أي مقاطعجيّي الأراضي الجُدد من الغزاة (الكونكيستادور) وعائلاتهم. وكان ذلك من خلال السبيل الوحيد المُتاح لامرأة في موقعها، أي الزواج من كونكيستادور.

سبايا الحروب من طبقة النبلاء كانت لهنّ حظوظاً أكبر من النساء العوام في الحصول على بعض المكتسبات في بيئتهنّ الجديدة، وخصوصاً في حالة معاشرتهن رجالاً ذي مكانة اجتماعية مرموقة

الأرجح أن كورتيز لم يكن مُرشَّحاً جدِّياً كزوج لمالينشي، ربما لما عُرف عنه من مزاجٍ متقلِّبٍ وغدرٍ وقهرٍ للنساء المحيطات به، وربّما لأنه كان يسعى لرفع مكانته الاجتماعية من خلال الزواج من عائلة أرستقراطية إسبانية عوضاً عن الارتباط بخليلة ذي أصول «هندية» وجذور عائلية مجهولة. لكن كورتيز تربّع على رأس السلطة الأبوية المُستجدة في البلاد. وَعَت مالينشي ذلك ووظَّفته لصالحها. فقد قبلت أن تترك طفلها من كورتيز خلفها وأن ترافق أباه في حملته التأديبية ضدَّ أحد المنشقِّين عنه في هندوراس مقابل وعد - على ما يبدو - بتزويجها من كونكيستادور. وهكذا كان.

في ختام تلك الحملة، بارك كورتيز عقد قران دونا مارينا على الكونكيستادور خوان خارامييو. كان خارامييو من مقاتلي الصف الثاني أو الثالث، لكنه بات نجماً صاعداً في أوساط حديثي النعمة من الغُزاة، فجاء اختيار مالينشي حسناً - أقلّه على الصعيد المادي. بعد عودته من حملة هندوراس في العام 1526، حاز خارامييو على لقب ألقالدي (أي القائد) ومنحه كورتيز إنكومياندا شمال مدينة المكسيك، وأعطاه مجلس المدينة قطعة أرض في غابة تشابولتيبيك في ضواحي المدينة حيث أقام مع زوجته دونا مارينا وابنتهما ماريا.

Previewماليني


هل كانت دونا مارينا سعيدة في حياتها الزوجية تلك؟ لن ندري. المؤكَّد أن تلك الحياة لم تدم طويلاً، فقد أصيبت بأحد الأمراض المُعدِية التي جلبها الأوروبيون، وتوفيت بعد ثلاثة أعوام تاركة وراءها ابناً غير شرعي من كورتيز (دون مارتن) وابنة شرعية من خارامييو (دونا ماريا). فهل كان حظ الولدين من المال والجاه أفضل من والدتهما؟

نهاية دون مارتن وقضاء دونا ماريا

حاول مارتن وماريا، وهُما من الجيل الأوّل من المستيزوس، أي النسل المُختلط بين «العرق» الأوروبي وشعوب السكَّان الأصليين، أن يندمجا كلِّياً في دوائر الطبقة العليا الإسبانية. لكن لقبَي «دون» و«دونا» وصِلَة الرحم من جهة الأب لم تكن كافية لمحو الفارق العرقي بين الابنين من جهة، وبين المجتمع الذي ولِدا فيه من أمّ «دخيلة» عليه.

في حالة دون مارتن، لم يتمكَّن كورتيز من الحصول على  مرسوم بابوي لجعله ابناً شرعياً. كان كورتيز قد أرسل دون مارتن إلى إسبانيا في سنِّ السادسة ليلتحق بحاشية الأميرة إيزابيل ومن ثمّ الأمير فيليب ويترعرع في بيئة «حضارية». وقد عبّر كورتيز في إحدى رسائله عن حبِّه لولده غير الشرعي وساوى بينه وبين ابنه الشرعي من الأمّ الإسبانية، واسمه مارتن أيضاً. لكن في نهاية المطاف، لم يكن الأب أكثر رأفة من كنيسة روما عندما تعلَّق الأمر بالمال والنفوذ. فقد انتقل لقب «الماركيز»، وهو أرفع من «دون»، إلى الأخ الأصغر من الأم الإسبانية. ومقابل تخصيص معاشٍ متواضعٍ (نسبة لثروة الأب) لدون مارتن، أعطى كورتيز حصَّة الأسد من أملاكه إلى الماركيز مارتن، وقسماً بسيطاً لدون مارتن شرط أن لا يعصِ الأخير أمراً لأخيه الأصغر إلّا في حال تعارَض مع طاعة الملك وتعاليم الله.

صدر حكمٌ من مجلس إدارة المستعمرات في مدريد لصالح دونا بياتريس، لكنه لم يكن بريئاً من مصالح التاج الإسباني. فوثائق القضية تشير إلى عدم وجود ورثة لدونا بياتريس، ممّا يعني أن أملاكها ستعود إلى ملكية البلاط عند وفاتها

حاول دون مارتن أن يخرج من جلباب أخيه الأصغر عند سفره إلى المكسيك. لكنه وجد نفسه تحت التعذيب إثر اتهامه بحياكة الدسائس للانقلاب على الملك. وكاد يهلك قبل أن يتِمّ إطلاق سراحه. وعندما قرَّر الاستعاضة عن الثروة في «العالم الجديد» بالعمل العسكري في أوروبا كسُلّم للارتقاء الاجتماعي والاندماج الطبقي، لم يكن أوفر حظّاً. فالحملة التي شارك فيها مع والده لاحتلال مدينة الجزائر باءت بالفشل. وعندما انضمَّ - بعد وفاة كورتيز - إلى القوَّات الملكية التي قمعت انتفاضة مُسلَّحة أشعلها من تبقّى من مسلمي غرناطة بعد أن مُنِعوا من استخدام اللغة العربية، لقِي مصرعه.

في المقلب الآخر من الأطلسي، نعِمت دونا ماريا بطفولة أكثر استقراراً من أخيها في رحاب الإينكوميادنا، وتزوَّجت شاباً إسبانياً مُقرّباً من مفوّض الملك في «إسبانيا الجديدة» يُدعى دون لويس، على الرغم من معارضة والدها خارامييو. والأخير كان قد تزوَّج من فتاة في الخامسة عشر اسمها دونا بياتريس بُعَيْد وفاة مالينشي، وأوصى بثُلثَيْ أملاكه لزوجته الجديدة، وبالثلث المُتبقي لدونا مارينا ودون لويس. عندما توفي خارامييو، سعت أرملته دونا بياتريس إلى دفع ديونه من حصَّة دونا ماريا، فلجأت الأخيرة إلى القضاء وطالبت بحصَّة أكبر من تلك التي ورثتها. بقيت القضية عالقة لسنوات، استُدعِي فيها عشرات الشهود. لم تتورّع دونا بياتريس من تشويه سمعة مالينشي والتقليل من مساهمتها في خدمة التاج الإسباني عموماً وثروة خارامييو خصوصاً لتثبت عدم أهليَّة ابنتها دونا مارينا بحيازة الإنكومياندا. وقد شدَّدت دونا بياتريس على الأصول الوضيعة لمالينشي.

Previewماليني


في العام 1563، توفِّيت دونا مارينا قبل أن تتمّ عامها الأربعين. وبعد عشرة أعوام، صدر حكمٌ مبرمٌ من مجلس إدارة المستعمرات في مدريد لصالح دونا بياتريس. لم يكن الحكم بريئاً من مصالح التاج الإسباني. فوثائق القضية تشير إلى عدم وجود ورثة لدونا بياتريس «التي تخطَّت سن الإنجاب»، ممّا يعني أن الأملاك التي تؤول إلى دون بياتريس ستعود إلى ملكية البلاط عند وفاتها. لقد كان التاج الإسباني في أعلى هرمية الملكية الاستعمارية، والحَكَم الفصل في قضايا التنازع على ملكيَّة الأراضي في المستعمرات. وفي عصر مالينشي وأولادها، كاد كل إنكومانديرو (أي مقاطعجي) في «إسبانيا الجديدة» أن يحتكم إلى القضاء من أجل فضّ النزاع على أملاكه من بشرٍ وحجرٍ. وتشير سجِّلات المحاكم المحفوظة من ذلك الحين إلى أن العشرات من المتظلِّمين كانوا نساءً إسبانيات و«هنديات» على حدٍّ سواء، ومنهنّ من ترك أثراً مكتوباً في وثائق وسجِّلات الأرشيف الإسباني والبيروفي.

الإنكومانديرا إيناس 

بحسب السجِّلات المحفوظة في الأرشيف الرسمي لكلّ من إسبانيا وبيرو، كان هناك ما لا يقلّ عن مئة إمرأة تتبوَّأ موقع إنكومانديرا (أي مقاطعجية) في البيرو بين عامي 1534 و1620. وهُنّ نساء حصلن على امتياز إقطاعي من الملك قد يصل إلى حدّ حيازة مئات أو آلاف العمَّال «الهنود» كمكافأة على مساهمتهن في الجهد الاستعماري. ويشير الباحث روسيو كيسبي أغنولي إلى أن سِيَر تلك النسوة تدحض فرضيَّات العديد من المؤرِّخين الذين اعتبروا أن الدور الاجتماعي للمرأة في تلك الحقبة اقتصر على العمل المنزلي في خدمة أزواجهن وأطفالهن. فالسجل التاريخي يشير إلى أنهن استخدمن، وبحذاقة، الخطاب القانوني والثقافي السائد في قضايا السياسة والاقتصاد ونشطْن في الحيِّز العام في سبيل تكريس سلطتهنّ وثرواتهنّ.

فعندما طالبت تلك النسوة التاج الإسباني بمكافأتهنّ، لم تقتصر الجهود والصعاب التي عدّدنها في رسائلهن على تلك المصنّفة أنثوية مثل الضعف الجسدي والأمومة، بل تضمَّنت ما كان يشير إليه الرجال من بذل الجهود الجبّارة، والمعاناة من الجوع أثناء الحملات العسكرية، والتعرّض للأذى من السكّان الأصليين، والشعور بالهشاشة في بيئة غريبة، والإلهام الإلهي للاستمرار في مهمّة الاستعمار، والمساهمة المباشرة في عمران الأرض المُصادرة كتوزيع حبوب القمح لتشجيع زراعته في بلاد الذرة، و«حسن معاملة» رعاياهنّ من السكّان الأصليين بما يضمن الاستقرار الاجتماعي والإنتاجية العالية. وفي حالة النبيلات من السكّان الأصليين الذين راسلوا الملك، مثل هويلا الإنكوية، فقد أشرْن إلى أصولهنّ الأرستقراطية التي تمنحهنّ حصّة في ميراث الإنكا وتعاونهنّ مع الأسبان في وجه القوى المحلّية التي قاومتهم.

لم يقتصر الدور الاجتماعي للنساء في تلك الحقبة  على العمل المنزلي. فالسجل التاريخي يشير إلى أنهن نشطْن في الحيِّز العام في سبيل تكريس سلطتهنّ وثرواتهنّ

كانت دونا إيناس من أبرز النساء الإسبانيات اللواتي حاربن - بكلّ ما يمتلكن من حجّة وحنكة - من أجل الحفاظ على مكتسباتها في «إسبانيا الجديدة». ولِدت إيناس مونيوز دي ريفيرا في إشبيليا لعائلة من العوام. وفي العام 1530، انضمّت مع زوجها فرانشيسكو مارتن القنطري إلى حاشية الكونكيستادور بيزارّو الذي غزا البيرو. وعندما قُتل بيزارّو وزوجها على يد الكونكسيتادور دييغو الماغرو في العام 1541، باتت إيناس على رأس المزارع الثلاثة التي منحها بيزارّو لها ولزوجها. وعندما عادت إيناس إلى العاصمة ليما بعد قمع تمرّد ألماغرو من قبل المبعوث الملكي باكا دي كاسترو، تزوَّجت من أنطونيو ريبيرا، شقيق بيزارّو، ممّا جعلها الوصي على أولاد بيزارّو. لكنها سرعان ما تعرّضت ثروتها ومكانتها للخطر بعد أن قرّر مبعوث الملك إعادة توزيع المزارع على مناصريه من المقاتلين الذين شاركوا في قمع التمرّد، وقد شملت المزارع الواقعة تحت إمرتها.

لم تقبل دونا إيناس بالأمر الواقع، فأرسلت كتاباً إلى ملك إسبانيا تطالب فيه باستعادة المزارع التي خسرتها. وقد عارضت بشدّة ادعاءات مبعوث الملك أن معارضة تنصيب النساء على رأس المزارع هو من باب الحرص على أمنهنّ وأمانهنّ. فأشارت إلى المخاطر التي تكبّدتها والدعم اللوجستي والمعنوي الذي قدّمته للرجال في حملاتهم. وتتقاطع رواية إيناس عن دور النساء في الحرب مع شهادات أخرى كتلك التي أدلت به إيزابيل دي غيفارا عن دور النساء في درء المجاعة التي أصابت مدينة بوينس آيرس في العام 1536 واستكشاف غابات الباراغواي الإستوائية لاحقاً. وقد شمل دور النساء تأمين الغذاء واللباس والاهتمام بالمرضى وحثّ الرجال على القتال عندما يصيبهم الوهن إلى حدّ دكّ السلاح وسياسة الأشرعة على متن السفن والتجديف، وهو على حدّ قول غيفارا «من اختصاص الرجال وقد قامت النساء به بدافع الحبّ لا الواجب لكن لم يتمّ مكافأتهنّ عليه».

Previewماليني


نجحت جهود دونا إيناس في انتزاع شرعيّة وصايتها على المزارع الثلاث وآلاف السكّان الأصليين الذين يعملون في تلك المزارع. واستمرّت في خوض معارك قانونية بين عامي 1553 و1559 ضدّ عدّة مستوطنين قاموا بوضع يدهم على بعض من «هنودها». ومع قدوم العام 1573، لم يبقَ على قيد الحياة أياً من عائلة دونا إيناس بما فيهم زوجها الثاني وابنها. فقرّرت حينئذ تأسيس دير «سيّدة الحبل بلا دنس» في ليما كي يكون ملجأ لأرامل وبنات الغزاة، الإسبانيات منهنّ والمستيزو على حدّ سواء. وحرّرت عرائض جديدة تشير إلى خدماتها الاجتماعية، وناشدت من خلالها الملك من أجل تمويل تكاليف الدير الجديد. استمرّت دونا إيناس حتى وفاتها في العام 1594 في ترؤّس الدير الذي تحوّل إلى مساحة آمنة للنساء القادمات من عوائل أصحاب المال والسلطة. ما زال الدير قائماً اليوم، وهو شاهد على دور نساء من ذهب همّشهن التاريخ، لكنّه شاهد أيضاً على دور من كانوا أقل تهميشاً وأثقل وطأة على تاريخ الاستعمار الأوروبي للأميركتين، وهم رجال من دين. للقصة تتمّة.    


لقراءة رسالة دونا إيناس إلى الملك الإسباني، أنقر/ي هنا