Preview النقل البحري

بين كورونا وباب المندب
كيف تستفيد شركات الشحن البحري من أزمات التجارة العالمية؟

يعتبر الخبراء أن الأكلاف الإضافية التي تفرضها مخاطر البحر الأحمر لا تبرِّر الأسعار المرتفعة التي تفرضها شركات الشحن البحري المُهيمنة على سوق الملاحة العالمية. ويذهب بعض التحليلات إلى اتهام الشركات الكبرى باستغلال التوتّر المُتصاعد لزيادة أرباحها إلى المستويات القياسية التي حقّقتها في العام 2022 عندما استغلّت الاختناقات التجارية التي تسبّبت بها جائحة كوفيد-19.

في أوائل ديسمبر/كانون الأول الماضي، كان  سعر توصيل حاوية بطول 40 قدمٍ عبر الطريق البحري الذي يصل شنغهاي الصينية بروتردام الهولندية يبلغ 1,170 دولاراً أميركياً. ولكن، في 11 يناير/كانون الثاني 2024، ارتفع السعر إلى 4,400 دولاراً أميركياً، أي أنه بمرور أقل من شهر ونصف الشهر، تضخّم سعر عملية النقل بنسبة تزيد عن 276%. واستمر السعر بالارتفاع مع التدخّل العسكري الغربي ضد اليمن وبلغ 4,951 دولاراً في 18 كانون الثاني/يناير  وفق مؤشر Drewry's World Container. لا يقتصر رفع الأسعار على شحن الحاويات، فقد ارتفع سعر نقل 140 ألف طن متري من النفط الخام عبر الطريق الذي يصل الخليج العربي ببريطانيا بنسبة 52% بين 15 كانون الأول/ديسمبر و15 كانون الثاني/يناير، أما سعر نقل 40 ألف طن متري من المنتجات المُكرّرة على الطريق نفسه فقد ارتفع بنسبة 45%.

النقل البحري

على الرغم من أن حركة «أنصار الله» اليمنية أعلنت مراراً وتكراراً أنها لا تستهدف سوى السفن ذات الصلة بإسرائيل التي تعبر من باب المندب إلى البحر الأحمر، وبالتالي لا نيّة لديها بتعطيل تدفّقات التجارة بين آسيا وأوروبا عبر هذا الممر المائي المهم، الأقصر والأقل كلفة والأكثر تجهيزاً واستيعاباً. إلا أن إصرار القوى الغربية على حماية مصالح إسرائيل ومنع محاصرتها وتحويل مشكلتها إلى مشكلة تتعلّق بأمن الملاحة الدولية عموماً، تضافر مع مسارعة شركات الشحن الكبرى إلى استغلال العسكرة الزائدة في البحر الأحمر لتعظيم أرباحها. لقد جرى تضخيم المخاطر أكثر بكثير مما هي في الواقع لتبرير زيادة الأسعار، وجرت زيادة الأسعار أكثر بكثير من الأكلاف الإضافية التي تتكبّدها لتفادي سفنها العبور من باب المندب والالتفاف حول أفريقيا لنقل البضائع بين أوروبا وآسيا. 

هذه إحدى التجلّيات التجارية البارزة للتوتر المُتصاعد عند باب المندب. ووفق التوقّعات، إذا استمرّ الحال هكذا لمدّة تراوح بين ثلاثة وستة أشهر، فسوف تقترب أرباح شركات الشحن البحري من المستويات الخيالية التي حقّقتها في 2022، عندما استغلّت هذه الشركات جائحة كورونا في الفترة بين 2020-2022، وفرضت رسوماً قياسية على البضائع التي كانت تنتظر بلا حراك في الموانئ والمحطّات.

لكن، وفق التحليلات المالية لمكوّنات السعر، فإن جزءاً بسيطاً فقط من الزيادات في الأسعار يعزى إلى ارتفاع تكاليف الوقود وأجور الموظّفين. وأشار أحد محلّلي Maritime Strategies International إلى أن الزيادة في أسعار الشحن تجاوزت الكلفة الزائدة الناتجة عن تحويل مسار السفن من البحر الأحمر إلى رأس الرجاء الصالح، وحقّقت شركات الشحن البحري أرباحاً أكبر من الاختلال المفاجئ بين الطلب والعرض وتأثيره على السعر النهائي.

 إصرار القوى الغربية على حماية مصالح إسرائيل ومنع محاصرتها وتحويل مشكلتها إلى مشكلة تتعلّق بأمن الملاحة الدولية عموماً، تضافر مع مسارعة شركات الشحن الكبرى إلى استغلال العسكرة الزائدة في البحر الأحمر لتعظيم أرباحها

تأكيداً على ذلك، أعلنت شركة جيفريز أنها «رفعت بشكل كبير» توقّعات أرباح العام 2024 لبعض عمالقة الشحن على خلفية «الكفاءة والقدرة الاستيعابية الأعلى وتوازن العرض والطلب الأكثر صرامة»، التي أظهرتها لإعادة توجيه السفن بعيداً من البحر الأحمر، وقد رفعت جيفريز توقّعات أرباح عملاقة الشحن البحري ميرسك لسنة 2024 إلى 9.3 مليار دولار، أي بزيادة 57% عن العام الماضي. ورفعت توقّعاتها بشأن شركة هاباغ لويدز إلى 4.3 مليار دولار أي بزيادة نسبتها 80%، أما أرباح الشركة الإسرائيلية زيم فسترتفع إلى 0.9 مليار دولار أي بزيادة نسبتها 50%.  تجدر الإشارة إلى أن هذه الشركات تصنّف ضمن الشركات العشر الأكبر في العالم في قطاع الشحن البحري.

ليست هذه المرة الأولى التي تستطيع فيها شركات الشحن البحري الاستفادة بشكل كبير من أزمة تجارية، فقد سبق أن حقّقت فوزاً عظيماً أتى مع جائحة كوفيد، عندما غمرت الحكومات اقتصاداتها بالنقود لتجنّب الركود الذي يأتي من عمليات الإغلاق، ما دفع إلى زيادة الطلب على السلع المشحونة، بذلك حقّقت شركات الشحن البحري أرباحاً تشغيلية (قبل احتساب الضرائب والفوائد) قياسية بلغت نحو 202 مليار دولار أميركي في العام 2022، ونحو 110 مليار دولار أميركي في العام 2021، بالمقارنة مع متوسط سنوي يبلغ 37.54 مليار دولار أميركي في العقد 2010-2020. علماً أنها تكبّدت خسارة تراكمية قدرها 8.5 مليار دولار بين عامي 2016 و2019. 

ولكن، في العام 2023، مع خفض المستهلكين إنفاقهم المرتفع على السلع، في ظل صدمة التضخّم والزيادات السريعة في أسعار الفائدة، أصبح تباطؤ الطلب شديداً، وتراجعت أسعار الشحن على الممرّات التجارية الرئيسة بسرعة، وانخفضت مستويات الأرباح. لذلك، تعاملت شركات الشحن الكبرى مع «أزمة البحر الأحمر» بوصفها فرصة جديدة من أجل إعادة مستويات أرباحها إلى ما كان عليه في فترة جائحة كورونا من جهة، ومن جهة أخرى، من أجل تسكين ألم «الكلفة البيئية» التي ستتكبّدها الشركات في العقود المقبلة، حيث ستضطر بعد عناد إلى تقليص انبعاثاتها من الغازات الدفيئة (3% عالمياً) إلى صفر في المئة في العام 2050، وهذه العملية التي تستلزم تحويلات تكنولوجية ستكبّد القطاع مليارات الدولارات.