
الحرب الباردة الخضراء بين أميركا والصين
في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أيلول/سبتمبر الماضي، وصف الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا النظام المالي الدولي بأنه «خطة مارشال معكوسة» تُموِّل فيها أفقرُ البلدان أغناها. وتأكيداً على هذه النقطة، قال لولا بنبرة مرتفعة: «إن البلدان الأفريقية تقترض بمعدلات أعلى من ألمانيا بثماني مرات وأعلى من الولايات المتحدة بأربع مرات».
ولا يقف لولا وحده في هذا التشخيص. فقد شارك كلٌّ من لاري سامرز وإن كيه سينغ، وهما من التكنوقراط الوسطيين بامتياز، في تأليف تقرير في وقت سابق من هذا العام حاججَ بأن ترنيمة عالم التنمية المتمثِّلة في توسيع نطاق التمويل المباشر إلى الجنوب العالمي - من «مليارات إلى تريليونات» - قد فشلت. فبدلاً من ذلك، يبدو أن التمويل العالمي يسير في الاتجاه المعاكس، من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية، كما كانت الحال في العام الماضي. ويُلخِّص سامرز وسينغ الترتيب على هذا النحو: «الملايين تدخل والمليارات تخرج». ويضاف إلى هذا التحول العالمي الكبير نحو التقشُّف، الذي يجعل من أهداف المناخ والتنمية أمراً مثيراً للسخرية.
قال لولا بنبرة مرتفعة: «إن البلدان الأفريقية تقترض بمعدلات أعلى من ألمانيا بثماني مرات وأعلى من الولايات المتحدة بأربع مرات»
وفي هذا السياق، لابد وأن نستقبل الحديث عن «خطط مارشال خضراء» - التي اقترحها هوانغ ييبينغ في الصين وبريان دييز في الولايات المتحدة -. ذلك أن المفاوضات بشأن نقل التكنولوجيا، والوصول إلى الأسواق، وصفقات التمويل تُشكِّل سمة دائمة للحرب الباردة الجديدة: أو لنقل الدبلوماسية الصناعية الخضراء الاستراتيجية.
إن المقترحات الأميركية والصينية، على النحو الذي توجد به الآن، تهدف إلى دعم أسواق التصدير في الدول الحليفة لبناء دعمٍ أجنبي للصناعات المحلية. وبالنسبة إلى الدول النامية، قد يعني هذا تصنيع السلع الخضراء لانتزاع حصة من تريليونات الناتج الاقتصادي الأخضر في المستقبل وتطوير نفسها، واختيار السياسات اللازمة لتحقيق أهدافها الإنمائية إما من خلال تصنيع أو شراء عمليات توليد الطاقة النظيفة الرخيصة، وتخزين الكهرباء، والنقل.
وبغض النظر عن الشكوك التي تُحيط بالقياس التاريخي إلى برنامج المساعدات الذي تبنَّته الولايات المتحدة لأوروبا بعد الحرب، فإن العنصر الحاسم - والذي يبدو أقل احتمالاً أن تسعى إليه الصين أو الولايات المتحدة بجدية بالنظر إلى العقبات السياسية الداخلية التي تواجهها كل واحدة منهما - هو توفير نوع الدعم المالي والصناعي الذي تحتاج إليه البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. وتتوقَّف المنافسة الجيواقتصادية بين الولايات المتحدة والصين على استطاعة أي منهما تشكيل تحالفات سياسية محلية تُلبِّي طلب البلدان النامية على القيمة المضافة للتصنيع المحلي في سلاسل القيمة الخضراء، والتي من دونها سيظل الجنوب مجرد سوق للتصدير أو مستعمرة للموارد.
والسبب وراء رغبة البلدان النامية في إنشاء صناعات نظيفة محلية واضح. فهي قادرة على تعزيز الأرباح وإيرادات الضرائب بشكل كبير، وخلق وظائف تتطلب مهارات أعلى، وزيادة الفوائض الإنتاجية على مستوى الاقتصاد.
خطتان
كانت «مبادرة الحزام والطريق» الصينية لفترة طويلة موضوع مقارنات مع «خطة مارشال». وأصبح جوهر القياس العسكري الاستراتيجي أكثر أهمية منذ التحول إلى حالة الاستعداد للحرب، فضلاً عن المخاوف الأحدث بشأن الطاقة الفائضة في تكنولوجيا الطاقة المتجددة الصينية. وقد تناول هوانغ ييبينغ، أستاذ الاقتصاد البارز في «جامعة بكين» والمسؤول السابق في «البنك المركزي لجمهورية الصين الشعبية»، هذا القياس في أيار/مايو وتحدَّث عن «خطة تنمية خضراء للجنوب العالمي». لقد اقترح إنشاء «مجتمع اقتصادي بمستقبل مشترك»، حتى تتمكَّن «الصين من مساعدة البلدان النامية على إجراء هذه التحولات، وتشجيعها على شراء المنتجات الصينية، وإدخال التكنولوجيات الصينية، بل وتشجيع بعض الشركات الصينية على الذهاب إلى الخارج».
وأوضح هوانغ أن مثل هذه الخطة من شأنها أن تستلزم تدويل اليوان الصيني، وهو ما يمكن تعزيزه من خلال تسمية الدعم للمستوردين النظيفين بالعملة الصينية. ومع قيام شريكي الصين التجاريين الكبيرين - الولايات المتحدة وأوروبا - بتحاشي السلع الخضراء بجدران التعريفاتالجمركية، فإن الفكرة هي أن تسعى الصين إلى أسواق بها شكل من أشكال تمويل البائعينللدول المثقلة بالديون حتى تتمكن من شراء السلع الخضراء الصينية بأسعار معقولة. إن تغيير التروس الخارجية حقيقي. وقد كتبت منصة «إف دي آي إنتيليجينس» في حزيران/يونيو: «يبدو أن الصين تمر بتحول كبير، من مستورد لرأس المال إلى مصدر لرأس المال».
وفي الولايات المتحدة، كتب بريان ديس - المدير السابق «للمجلس الاقتصادي الوطني» في إدارة جو بايدن والمستشار الحالي لحملة كامالا هاريس - مقالاً في آب/أغسطس في «فورين أفيرز» يدعو فيه إلى «خطة مارشال للطاقة النظيفة»، بهدف توسيع نطاق خطط بايدن الاقتصادية إلى الساحة الدولية. بالنسبة إلى ديس، فإن المناخ مليء بعلامات الدولار، ما يجعل الوضع ليس أقل من «أكبر حدث لتكوين رأس المال في تاريخ البشرية».
المقترحات المتفائلة بشأن «خطة مارشال» ليست مجرد كلام فارغ؛ فكل منها يحاول توسيع نطاق السياسات المحلية الشرسة على مستوى العالم
لكن دولارات من أجل ماذا؟ فكرة ديس هي توسيع نطاق الصناعات الأميركية لتلبية الاحتياجات العالمية، وكسب نفوذ أكبر في هذه العملية. وتعتمد هذه الرؤية على التفوق التقني للولايات المتحدة في مجال احتجاز الكربون وتخزينه، والهيدروجين، والطاقة النووية، والطاقة الحرارية الأرضية، وكذلك على الاستفادة من «صندوق استقرار الصرف» التابع لـ«وزارة الخزانة الأميركية» لنشر سياسات تمويلية دولية جديدة من دون الوقوع في عقبات «الكونغرس».
إن المقترحات المتفائلة بشأن «خطة مارشال» ليست مجرد كلام فارغ؛ فكل منها يحاول توسيع نطاق السياسات المحلية الشرسة على مستوى العالم. وقد قدمت كل من الصين والولايات المتحدةعروضاً بشأن حل جزئي بقيادة الاستثمار للتحديات السياسية والاقتصادية المحلية الخاصة بكل منهما، مع التركيز على صناعات الطاقة النظيفة. ويمكن تلخيص صيغتهما المشتركة على أنها قوة وطنية من خلال التجديد الصناعي. وفي كلا البلدين، عُرِض الدعم المالي الوفير على الصناعات المحلية؛ فقد حفَّزت حزمة بايدن من الائتمانات الضريبية والإعانات بالفعل أكثر من 400 مليار دولار من الاستثمار في الطاقة النظيفة والتصنيع وتوليد الطاقة باستخدام التكنولوجيا النظيفة، والآن تركز الحكومة المركزية الصينية، المهيمنة بالفعل في تصنيع التكنولوجيا النظيفة، جهودها على تقنيات الجيل التالي والاعتماد على الذات اقتصادياً.
إن سياسات استثمار البلدين تهدف في المقام الأول إلى تحقيق الأهداف الاقتصادية المحلية. فالنمو المحلي في الصين يتجه نحو الطاقة الخضراء، ووفقاً «للوكالة الدولية للطاقة»، من المتوقع أن تمثل الصين ما يقرب من 60% من إجمالي قدرة الطاقة المتجددة المركبة في جميع أنحاء العالم بين الآن وعام 2030.
لكن العلاقة بين هيمنة الصين في قدرات الطاقة المتجددة وتصاميمها للتأثير الدولي ليست واضحة بعد. (يُعلن الرئيس شي بفخر أن هناك لحظات في التاريخ تعمل فيها «القفزات التكنولوجية الكبرى» على تعزيز «قدرة البشرية على فهم الطبيعة والاستفادة منها» وتعزيز «الإنتاجية الاجتماعية» إلى حد كبير). ولكن الأمر الأقل يقينا هو ما إذا كانت هذه التصاميم الكبرى الجديدة ستعالج بشكل كاف تحديات المناخ والتنمية التي تواجهها معظم بلدان الجنوب العالمي.
النواقص
ما احتمالات استخدام الحكومات الصينية أو الأميركية لسياساتها الصناعية لمواجهة هذه التحديات، التي تعرَّضت لضغوط متزايدة بسبب التوترات الجيوسياسية الجديدة وأزمة المناخ؟ لسنوات، كانت البلدان النامية تعلن أولوياتها التنموية. (وهذه الاحتياجات مشروطة ومحددة بكل سياق محلي وإقليمي، من دون أي إطار موحد لنظام اقتصادي دولي جديد). وفي عام 2022، أثناء مسحنا للمنافسة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة من وجهة نظر بلدان الجنوب «غير المنحازة»، حدَّدنا الأهداف البراغماتية التالية:
1. تقنيات أساسية لمد النمو المستقبلي بالطاقة.
2. معدات عسكرية متقدمة لتعزيز الأمن.
3. امتلاك اليد العليا في المفاوضات التجارية مع أوروبا والولايات المتحدة والكتلة الروسية الصينية الجديدة.
4. سلع أساسية مثل الغذاء والطاقة والمعادن والأسمدة من الكتلة الروسية الصينية الجديدة.
5. شروط أفضل لإعادة هيكلة ديونها للدائنين الغربيين والصينيين في خضم أزمة الديونالدولارية العالمية العقابية الحالية التي تُهدد سيادتها.
لا يبدو أن الولايات المتحدة ولا الصين على استعداد لتلبية العديد من هذه المتطلبات.
تعرَّض اقتراح دييز بالفعل لانتقادات بسبب انقطاعه عمَّا تريده البلدان الشريكة في الجنوب العالمي بالفعل، وبسبب إساءة فهمه للأجندة المالية الأصلية لـ«خطة مارشال»، وبسبب وجهة نظره المُخطئة حول براعة التصنيع الأميركي للطاقة النظيفة - وهذه النقطة الأخيرة انتُقِدَ بشأنها بقسوة. وانتقد ألان بيتي في «فاينانشال تايمز» بشدة ديس بسبب سوء فهمه للأجندة المالية لخطة مارشال الأصلية وبسبب رؤيته المضللة لبراعة التصنيع الامريكية للطاقة النظيفة. كان هذا انتقاداً رئيساً من جانب آلان بيتي في «فاينانشال تايمز»، الذي أكد أن الولايات المتحدة تفتقر إلى التماسك السياسي الداخلي الذي كان لديها خلال «خطة مارشال» الأولى. (ولاحظ آدم توز أن العديد من التقنيات التي حدَّدها دييز تُعَد أيضاً «الحلول» المفضلة لصناعة الوقود الأحفوري المهيمنة في الولايات المتحدة. كما أنها هامشية بشكل عام عندما يتعلق الأمر بالاحتياجات الفعلية للطاقة لأغلبية العالم، وهذا ينطبق بشكل خاص على التقاط الكربون وتخزينه، والهيدروجين، وهما من التقنيات الباهظة والصعبة تقنياً وغامضة الانبعاثات).
الصين تفوَّقت على الولايات المتحدة بنحو تسعة إلى واحد في تمويل البنية التحتية الأجنبية بين عامي 2013 و2021
يُمثِّل مقال ديس تردداً واسع النطاق في واشنطن للاعتراف بالجوهر الفعلي ونطاق التحدي العالمي الذي نواجهه، ناهيك عن معالجته. ما من دولة فقيرة ترضى بأن تصبح سوقاً تصديرية للتكنولوجيا النظيفة الأميركية. وما من دولة أخرى سوى الولايات المتحدة سوف ترفض بناء قاعدة تحويلية للطاقة النظيفة الرخيصة باستخدام الألواح الشمسية الصينية المستوردة.
هناك قيود أخرى في قيادة «البيت الأبيض» للسياسة الخارجية. في مقال جديد له، يشيد أنتوني بلينكن بالإنجازات العالمية لإدارة بايدن مع التركيز في المقام الأول على «مجموعة الدول السبع» وغيرها من الحلفاء الأثرياء، ويركز على تحالفات أمنية وتجارية مثل «الأوكوس»، و«الحوار الأمني الرباعي»، و«مجلس التجارة والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي»، و«الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ». ويُحاجج أن «اللياقة الاستراتيجية» لأميركا «تعتمد إلى حد كبير على قدرتها التنافسية الاقتصادية». وإذا كان بعض الحلفاء قد شعروا بالقلق في البداية بشأن الاستثمارات المحلية لإدارة بايدن، فقد أدركوا «مع مرور الوقت كيف يمكن أن يعود التجديد الأميركي بالنفع عليهم. فقد عزَّز الطلب على سلعهم وخدماتهم وحفَّز استثماراتهم في الرقائق والتكنولوجيا النظيفة وسلاسل التوريد الأكثر مرونة». قد يكون هذا هو الحال بالنسبة إلى الحلفاء الأثرياء الذين يتمتعون بالقدرة النقدية والمالية. فالاتحاد الأوروبي يتبنَّى السياسة الصناعية والتعريفات الجمركية (على الرغم من المعارضة الألمانية)، لكن اليابان وكوريا الجنوبية لم تتخليا عنها حقاً. وبالنسبة إلى الدول ذات الدخل المنخفض التي تنفق مايقرب من ربع عائداتها الخارجية على خدمة الديون، فإن التجديد الصناعي الأميركي يحمل قدراً أقل من الوعود.
ويهنئ بلينكن نفسه على توزيع 650 مليار دولار من «حقوق السحب الخاصة»، وهي العملة الاحتياطية لصندوق النقد الدولي، في عام 2021، ومقعد «الاتحاد الأفريقي» في «مجموعة العشرين»، وإصلاحات «البنك الدولي» باعتبارها مساهمات رئيسة من إدارة بايدن لدول الجنوب العالمي. لكن الوعد الرئيس هو «الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي» - وهي استجابة غربية بقيادة الولايات المتحدة لـ«مبادرة الحزام والطريق» - والتي ستعتمد على تعبئة مئات المليارات من الدولارات من رأس المال الخاص، على الرغم من عقود من الأدلة على الفشل. وقد فشلت «خطط التحول العادل للطاقة» الأصغر حجماً كثيراً في تحقيق النجاح - أو حتى في الانطلاق - إلى حد كبير بسبب اعتمادها على الشيء نفسه.
الحجم والمصلحة الذاتية
تعرف الولايات المتحدة أنها متأخرة كثيراً عن الصين من حيث تدفقات التمويل الإجمالية للبنية التحتية في البلدان النامية. ووجد تقرير صادر عن «مكتب المحاسبة الحكومي الأميركي» في أيلول/سبتمبر أن الصين تفوَّقت على الولايات المتحدة بنحو تسعة إلى واحد في تمويل البنية التحتية الأجنبية بين عامي 2013 و2021 - 679 مليار دولار مقارنة بـ 76 مليار دولار. وكان المستفيدون الرئيسون من الصين هم روسيا (104 مليار دولار) وماليزيا (36 مليار دولار) وباكستان (34 مليار دولار) ونيجيريا (29 مليار دولار) وأنغولا (29 مليار دولار) وإندونيسيا (28 مليار دولار).
لكن الاستثمارات الخارجية للصين في الطرق السريعة ومحطات الطاقة ومشاريع السكك الحديدية قُلِّصَت - وهو الانخفاض الذي بدأ في عام 2018 وهبط في عشرينيات القرن الحادي والعشرين. وفي العام الماضي، بلغ إجمالي قروض الصين لأفريقيا 4.6 مليار دولار أميركي - أول زيادة سنوية منذ سنوات - لكنها لا تزال بعيدة كل البعد عن أكثر من 10 مليارات دولار أميركي كانت تُقرَض سنوياً في الفترة المبكرة من «مبادرة الحزام والطريق». كما استأنفت الصين الإقراض لمشاريع الطاقة في عام 2023 بعد انقطاع دام عامين، ولكن بكمية ضئيلة، وهو ما تقول منصة «كاربون بريف» إنه يعكس تحولاً بعيداً عن مشاريع الوقود الأحفوري الكبيرة وزيادة تفضيل أفريقيا للاستثمارات في الأسهم، بدلاً من تحمل المزيد من الديون:
ومع قيام القيادة الصينية بثقب فقاعة العقارات الخطيرة في البلاد، فإن تصدير التكنولوجيا النظيفة عالية القيمة يشكل جزءاً رئيساً من استراتيجية الحكومة للحفاظ على النمو.
أسفر «منتدى التعاون الصيني الأفريقي» الاخير عن كلمات مؤثرة عن تضامن العالم الثالث من الرئيس شي، لكن الالتزام الرئيس تجاه القارة بـ 360 مليار يوان صيني على مدى ثلاث سنوات تماشى مع التدفقات المالية في السنوات الأخيرة، ولم يمثل إلغاء التعريفات الجمركية على «البلدان الأقل نمواً» سوى تغيير بسيط للنظام القائم. وتضمَّنت خطة العمل التي أعلنتها بكين أيضاً وعوداً بـ«تطوير سلاسل القيمة المحلية، والتصنيع والمعالجة العميقة للمعادن الحيوية»، و«30 مشروعاً للطاقة النظيفة والتنمية الخضراء»، و«صندوق خاص للسلسلة الصناعية الخضراء بين الصين وأفريقيا».
أما فيما يتصل بتحدي تمكين البلدان من الصعود على السلسلة، والهروب من مصير كونها مجرد مصادر للسلع الخام، فإن النجاح الواضح الوحيد كان في جنوب شرق آسيا. ففي جنوب أفريقيا، وأميركا اللاتينية، وجنوب آسيا، لم تتجاوز تعاونات التصنيع في مجال التكنولوجيا النظيفة التي أقامتها الصين حتى الآن مصانع التجميع النهائي، مع استيراد المكونات ذات القيمة المضافة من الصين وتجميعها محلياً. ويبدو مصنع «بي واي دي» الذي أُعلن عنه مؤخراً في باكستان، ومصنع «سايك» في جنوب أفريقيا، ومصنع «بي واي دي، جريت وول موتورز» في البرازيل، نماذج أقل من واعدة للشركات المحلية التي تتكامل وتتطور مع المعرفة الصينية.
يظل التمويل الكافي هو العنصر الأكثر ضرورة بالنسبة إلى معظم البلدان، وهو العيب الأكثر وضوحاً في العروض الأميركية والصينية
التمويل
يظل التمويل الكافي هو العنصر الأكثر ضرورة بالنسبة إلى معظم البلدان، وهو العيب الأكثر وضوحاً في العروض الأميركية والصينية. الواقع أن الولايات المتحدة مقيدة بالسياسة، بما في ذلك «الكونغرس» العنيد، في حين تضاءل توفير بكين للتمويل منذ عام 2019 وسط تباطؤ النمو. ويشكل تزايد ضائقة الديون بين مقاطعاتها أحد العوائق أمام تخفيفها من أعباء الديون على المستوى الدولي. وهناك عقبات سياسية في الصين أيضاً. ويتردد سؤال «لماذا نُغدق بأموالنا على الأجانب بينما نعاني؟» بقوَّة على جانبي المحيط الهادئ.
إن «طريقة» التدفقات المالية من كل من الولايات المتحدة والصين معقدة؛ فهي تنطوي على ديون امتيازية، وديون تجارية، ومِنَح، وأسهم. وتُقدِّم تعويذة غاندي اختباراً بسيطاً: تذكر وجه أفقر شخص رأيته، واسأل نفسك عمَّا إذا كان هذا الإجراء سيعود بأي فائدة عليه.
إذاً، كيف تُسهِم القوتان العظميان على هذا الكوكب في «المؤسسة الدولية للتنمية» - مرفق «البنك الدولي» لأفقر البلدان؟
جفافٌ في أنغولا
إن التحديات التي تواجهها الدول النامية فيما يتعلق بالتمويل الدولي والتكنولوجيا النظيفة والمواد الخام تتجلَّى بوضوح في الأحداث الأخيرة في أنغولا.
هذه الدولة الواقعة في جنوب قارة أفريقيا كانت أكبر متلق للتمويل الصيني في موجة الإقراض في إطار «مبادرة الحزام والطريق»، وهي تعتمد بشكل شبه كامل على عائدات تصدير النفط. وقد انسحبت من «أوبك» العام الماضي عندما ضغطت المجموعة على تخصيصات حصص أعضائها الأصغر في مواجهة انخفاض أسعار النفط. وقد عملت البلاد على تعميق علاقاتها مع الولايات المتحدة - كان من المقرر أن يقوم بايدن برحلته الأفريقية الوحيدة خلال رئاسته إلى هناك هذا الشهر - ولكنها حافظت أيضاً على علاقات جيدة مع الصين، وحظيت بعلاقات دبلوماسية مُطوَّرة وتخفيضات في سداد الديون في وقت سابق من هذا العام.
وقالت وزيرة مالية أنغولا، فيرا ديفيس دي سوزا، لـ«رويترز» قبل قمة «منتدى التعاون الصيني الأفريقي» إن أي دولة تقدم التمويل يمكن أن تتوقع أن تكون قادرة على بيع المزيد من منتجاتها - سواء كانت المزود المثالي أم لا. وإذا لم تُقدِّم الصين التمويل والدعم اللازمين لتنمية الصناعات الأنغولية، فيمكنها أن تتوقع الخسارة. وتضيف ديفيس دي سوزا: «سوف نشتري المزيد من الألواح الشمسية من أوروبا لأن التمويل يأتي من هناك». على سبيل المثال، تزود ألمانيا أنغولا بـ 62,250 نظاماً شمسياً منزلياً.
من منظور الولايات المتحدة، فإن التركيز الرئيس في أنغولا هو خط سكة حديد ممر لوبيتو، والذي يتشكَّل ليكون اختباراً لالتزامات الغرب والصين بالتنمية الأفريقية. وإذا نُفِّذ بالكامل، فسوف يتوسَّع بشكل كبير ويُسرِّع نقل المعادن من «حزام النحاس» في زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى ميناء لوبيتو في أنغولا.
لكن الأطراف الغربية يجب أن تتنافس مع سلاسل توريد المعادن والتعدين الراسخة التابعة للصين، فضلاً عن الخبرة الفنية المتفوقة للصين في التصنيع التكنولوجي النظيف الذي ستحتاجه البلدان الأفريقية الغنية بالموارد لإضافة المزيد من القيمة المحلية لسلعها. كما تدعم الصين تحديث خط سكة حديد تازارا بتكلفة مليار دولار - وهو خط يبلغ طوله حوالي 2,000 كيلومتر أقيم بدعم من ماو خلال سبعينيات القرن الماضي في خضم انتشار الفقر. وكما هو الحال مع ممر لوبيتو، يستفيد خط أنابيب تازارا أيضاً من «حزام النحاس» حول زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ولكنه يحمل المعادن الانتقالية ذات الطلب المرتفع من أجل التزويد بالكهرباء والتكنولوجيا النظيفة شرقاً، وللتصدير عبر ميناء دار السلام.
بطبيعة الحال، تقوم كل من الصين والولايات المتحدة بما يخدم احتياجاتهما الاقتصادية والسياسية المباشرة. وتظل «خطط مارشال» سراباً؛ فقِرَان إزالة الكربون والتنمية يتطلَّب قدراً من العولمة أكبر بكثير مما ترغب فيه التحالفات السياسية في أي من القوتين العظميين حالياً أو تكون قادرة على تحمله.
نُشِر هذا المقال في Phenomenal World في 11 تشرين الأول/أكتوبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموجب اتفاق مع الجهة الناشرة.