اقتصاد الشرق الأوسط في ظل تصاعد العنف
جمعتُ بعض التقارير والبيانات الاقتصادية الحديثة المُتعّلقة بالشرق الأوسط استجابة لتصاعد العنف المروّع في المنطقة.
أسطورة اقتصاد الشرق أوسطي: مناطق كوارث في مقابل «دول عابرة» ومصدّري الطاقة إلى آسيا
«لعقود، فسّرت واشنطن اقتصاد الشرق الأوسط، بطريقة خاطئة، على أنه اقتصاد متماسك ويتغذّى من نفط الخليج وغازه… ومع نمو اقتصادات الخليج، توقّع المسؤولون أن صحّة الاقتصاد في المنطقة سوف تعتمد على عمليّات الإنقاذ المحلّية والاستثمارات، وهو توقّع تحقق إلى حدّ ما بعد الربيع العربي، عندما تنافست دول الخليج لإنقاذ مصر… لكن القدرات الاقتصادية للدول الشرق الأوسط الاقتصادية تفاوتت بشكل واضح، وانقسم الاقتصاد الإقليمي بين مصدّري الطاقة ومستورديها. وقد أصبح هذا الانقسام أكثر تعقيداً الآن. منذ الربيع العربي، تفوّقت دول الخليج في الوصول إلى السوق والتكنولوجيا على الدول المجاورة الغنيّة بأصول الطاقة، والتي تعاني من سوء الإدارة مثل الجزائر وإيران والعراق وليبيا. فضلاً عن ذلك، منذ العام 2016، أصبحت دول الخليج الأغنى (قطر والسعودية والإمارات) أقل ميلاً لتقديم المساعدات وفرص الاستثمار والتجارة لجيرانها، إذ تسعى للاستثمار محلياً والاستعداد لمستقبل ما بعد الكربون. عملياً، يتحوّل الشرق الأوسط إلى مجموعة من «الدول العابرة» التي تعاني إمّا من الصراعات (العراق ولبنان وليبيا وسوريا واليمن) أو تعيش حالة من الركود (مصر وإيران والأردن) مع تراجع نموّها وروابطها بالأسواق العالميّة. أظهرت مجموعة البنك الدولي في نيسان/أبريل 2024، وصول متوسط نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى حوالي 90%. وكانت هذه النسبة أقرب إلى 75% قبل عشر سنوات.
في المقابل، تتقدّم دول أخرى مثل عمان وقطر والسعودية والإمارات في قدرتها على تنويع اقتصاداتها وتحقيق نمو غير نفطي. يقترض مصدّرو الطاقة بكثافة أيضاً، إذ يبلغ متوسط نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 30% مقارنة بنحو 10% قبل عقد من الزمن. لكن هذا الاقتراض يؤتي ثماره: أصبحت شركات النفط الوطنية الخليجية تمتلك فرصة أكبر من الشركات الكبرى الأميركية لتقديم مشاريع واستثمارات كبيرة في الطاقة المتجدّدة. إن الفرص الاقتصادية لهذه الدول مضمونة بسبب الأسواق الآسيوية التي تصل إليها حالياً، وليس بسبب روابطها مع الشرق الأوسط أو أوروبا. توقّعت وكالة الطاقة الدولية أن يأتي 90% من النمو في الطلب العالمي على النفط بين عامي 2022 و2028 من منطقة آسيا والمحيط الهادئ، التي سوف تدفع أيضاً لزيادة الطلب على الغاز الطبيعي المسال مع تحوّل بلدانها بعيداً من الفحم».
هذا ما ورد في المقالة الذكية جداً لكارين إي. يونغ في Foreign Affairs، وهي قراءة ممتازة وتستحق نقاشاً أكثر عمقاً.
تتفوّق إسرائيل في تصعيدها الوحشي للهجمات العسكرية ضدّ كل من غزّة وحزب الله. لكن على الرغم من امتلاكها ثروات كبيرة، تواجه إسرائيل ضغوطاً ماليّة. لقد كانت الفوائد على سندات الشيكل في خلال العقد الماضي أقل من الفوائد على سندات الخزانة الأميركية... لكن الأمر لم يعد كذلك الآن.
مع تصاعد التكاليف الاقتصادية الناتجة عن ما يقرب من 12 شهراً من الحرب على غزّة والتصعيد مع حزب الله، خفّضت وكالة «موديز» تصنيف إسرائيل للمرة الثانية هذا العام. وبحسب ما ذكرت الوكالة يوم الجمعة، خُفِّض تصنيف إسرائيل درجتين من A2 إلى Baa1، ما يضع البلاد 3 درجات فوق التصنيف غير الاستثماري. وأبقت الوكالة على نظرة مستقبلية سلبية. وفي إعلان غير مجدول، قالت موديز إن «المخاطر الجيوسياسية تصاعدت بشكل كبير ووصلت إلى مستويات مرتفعة للغاية، وتركت عواقب سلبية ملموسة على جدارة إسرائيل الائتمانية في المديين القريب والطويل. لقد ازدادت حدّة الصراع بين إسرائيل وحزب الله بشكل ملحوظ في الأيام الأخيرة».
اتُخذ قرار «موديز» حتى قبل أن تشنّ إسرائيل، يوم الجمعة الماضي، غارات ضدّ حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت، في أعنف هجوم على العاصمة اللبنانية منذ عقدين. يعتبر هذا التطوّر تصعيداً كبيراً في الأعمال العدائية. لقد أثبتت الصراعات أنها مُكلفة مالياً لإسرائيل. يشهد الإنفاق الحكومي وعجز الميزانية ارتفاعاً كبيراً، بينما تراجعت قطاعات مثل السياحة والزراعة والبناء. وقد قدّر المسؤولون الإسرائيليون أن تكاليف الحرب حتى نهاية العام المقبل سوف تصل إلى حوالي 66 مليار دولار، أو أكثر من 12% من الناتج المحلي الإجمالي. واستند هذا الرقم إلى سيناريو لا يفترض تصعيد القتال مع حزب الله وتحوّله إلى مواجهة شاملة.
وقالت موديز: «على المدى الطويل، نعتبر أن الاقتصاد الإسرائيلي سوف يضعف بشكل دائم وأكثر من المتوقّع بسبب الصراع العسكري»... لقد بلغ العجز في الميزانية السنوية نحو 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي في آب/أغسطس. ويرجّح أن تكون الفجوة المالية السنوية للبلاد الأوسع في هذا القرن، باستثناء العجز المُسجّل في خلال جائحة كورونا. هذا الشهر، خفّضت وزارة المالية توقّعاتها لنمو الاقتصاد في العام 2024 من 1.9% إلى 1.1%، وتم تخفيض التقدير للعام المقبل من 4.6% إلى 4.4%.
اقتصاد الضفّة الغربية وفلسطين في انهيار
تقول كارين إي يونغ إن الناتج المحلي الإجمالي لغزّة انخفض في الربع الأخير من العام 2023 بنسبة 86% مقارنة بالربع الأخير من العام 2022، وهذا يعكس الأضرار التي سببتها الحرب فقط، بحسب البنك الدولي. وحالياً، يؤثّر انعدام الأمن الغذائي على 95% من سكان القطاع. وفي الضفة الغربية، ارتفع معدل البطالة من 13% في الربع الثالث من العام 2023 إلى 32% بحلول نهاية العام، وهو أعلى معدّل مُسجّل على الإطلاق. أمّا السلطة الفلسطينية الحاكمة فقد دُفِعت إلى حافة الانهيار المالي، إذ أظهر تحليل أجرته مجموعة الأزمات الدولية في حزيران/يونيو الماضي أن ديونها المترتبة لمصلحة البنوك التجارية ومتآخّراتها المستحقة لصندوق التقاعد الخاص بها بلغت 11 مليار دولار تقريباً.
وفي الوقت الذي تعرضت فيه غزّة للتدمير، شهد اقتصاد الضفّة الغربية في الربع الأول من العام 2024 تراجعاً بنسبة 25% مقارنة بالعام السابق.
اقتصاد الضفّة الغربية تحت الضغط
ويظهر التباين بين اقتصادي غزة والضفة الغربية منذ قبل العام 2023 ويعكس الحصار الطويل الأمد الذي فرضته إسرائيل على غزّة.
تأثير المخاطر الأمنية في البحر الأحمر وانقطاع التجارة على الكثير من اقتصادات المنطقة
فضلاً عن ذلك، تستمر المخاطر الأمنية في البحر الأحمر في إثارة مخاوف أوسع بشأن تأثير الصراع على التجارة وتكاليف الشحن، إذ يمرّ 12% إلى 15% من التجارة العالمية عبر قناة السويس بحسب أونكتاد. ويعتبر اقتصاد مصر عرضة بشكل خاص لهذه الاضطرابات، إذ تلقى ما يساوى 2.2% من الناتج المحلّي الإجمالي من إيرادات ميزان المدفوعات السنوية، أي أكثر من 700 مليون دولار شهرياً، وما يساوي 1.2% من الناتج المحلي الإجمالي من الإيرادات المالية الناتجة عن رسوم قناة السويس في العام المالي 2022-2023. ومع ذلك، منذ الهجمات الأولى بالمسيّرات في مضيق باب المندب في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 وحتى نهاية شباط/فبراير 2024، انخفضت التجارة عبر قناة السويس بأكثر من النصف، من 38 مليون طن متري إلى 16 مليون طن متري. يؤثر انخفاض حجم التجارة في البضائع أيضاً على دول أخرى في الأسواق الناشئة والاقتصادات المتوسطة الدخل، إذ تشهد موانئها في البحر الأحمر انخفاضاً في الحمولات. على سبيل المثال، بحلول نهاية شباط/فبراير الماضي، انخفضت صادرات الأردن ووارداته عبر ميناء العقبة إلى النصف تقريباً منذ بداية الاضطرابات في تشرين الأول/نوفمبر الماضي، على الرغم من إعادة توجيه بعض تدفّقات التجارة عبر طرق أخرى منذ ذلك الحين. وفي السعودية، تراجعت حركة الموانئ في جدّة مع تحويل السلطات الحركة إلى ميناء الدمام الواقع في الخليج الفارسي.
تفاقم تأثير الصراع نتيجة التخفيضات الطوعية في إنتاج النفط
ساهمت القرارات الطوعية المتعلقة بإنتاج النفط بشكل كبير في نمو اقتصادات منتجي النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في خلال العام 2023. وقد شهدت دول مجلس التعاون الخليجي تباطؤاً ملحوظاً في نمو قطاع الهيدروكربونات بعد جولات عدّة من التخفيضات الطوعية في الإنتاج من قبل بعض دول أوبك+. ونتيجة لذلك، تباطأ النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي في دول مجلس التعاون الخليجي بشكل حاد (إلى 0.4%)، على الرغم من النمو القوي في القطاعات غير الهيدروكربونية المدفوع باستمرار الإجراءات الرامية إلى تنويع الاقتصاد، وزيادة الطلب المحلي، وتدفّقات رأس المال الكبيرة. كان النشاط في الدول المصدّرة للنفط خارج مجلس التعاون الخليجي مستقراً بشكل عام، مع تباين بين الدول يعكس زيادة الصادرات النفطية (إيران وليبيا) وهشاشة الأوضاع في العراق.
بينما تعافت الأسواق الناشئة العالمية من صدمة السياسات التشديدية للفيدرالي الأميركي، تظل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا استثناءً. منذ العام 2023، استمرت المنطقة في مواجهة هروب رأس المال، ولا يزال لبنان وباكستان وتونس يعانون من ضغوط مالية شديدة.
أيضاً، تراجعت الفروقات بين أسعار الفائدة الممنوحة على السندات السيادية للأسواق الناشئة العالمية والسندات السيادية الأميركية في خلال العام الماضي، واقتربت من مستويات أوائل العام 2023 لمعظم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع ذلك، لا تزال عند مستويات مُقلقة (أي أعلى من ألف نقطة أساس) بالنسبة إلى لبنان وباكستان وتونس. في المقابل، وعلى عكس الأسواق الناشئة الأخرى، شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل كبير تدفقات رأس المال إلى الخارج منذ أوائل العام 2023. لم تُصدر دول الأسواق الناشئة والاقتصادات المتوسطة في المنطقة سندات يوروبوند منذ النصف الأول من العام 2023 (باستثناء الأردن)، وجاء هذا الإصدار بتكلفة أعلى مقارنة بدول مجلس التعاون الخليجي (البحرين والسعودية والإمارات). وقد يزيد استمرار الاعتماد على التمويل المحلي من ارتباط البنوك المحلّية بالديون السيادية المحلّية، نظراً للتعرض الفعلي المرتفع للبنوك على الديون السيادية في بعض دول الأسواق الناشئة والاقتصادات المتوسطة، لا سيّما مصر وباكستان.
نُشِر هذا المقال على مدوِّنة الكاتب في 28/9/2024، وتُرجِم إلى العربية ونشر في موقع «صفر» بموافقة مُسبقة من الكاتب.