«غزة 2035»
وهم «السلام الاقتصادي» وضلاله
يجب أن أُقر: عندما رأيت هذه الصورة للمرّة الأولى، اعتقدت أنها خدعة.
ناطحات سحاب، ومحطات طاقة شمسية، وسفن حاويات، ومنصات نفط بحرية - رؤية لمستوطنة حضرية وريفية مؤمثَلَة، من إنتاج الذكاء الاصطناعي، تصوِّر دولة ثرية في حجم مدينة يُدَار فيها كل شيء بشكل مكثَّف - مثل سنغافورة أو أبو ظبي - ولكن لها جغرافيا مألوفة بشكل غامض.
لا، ليست خدعة. هذا هو قطاع غزة في العام 2035، كما تصوّره مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعد 8 أشهر من الحرب الانتقامية الوحشية رداً على هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر. على أرض طُهِّرت بعد تهجير الملايين وقتل أكثر من 35 ألف فلسطيني، وفي منطقة حضرية مُكتظّة بالسكّان حوّلها جيش الحرب الإسرائيلي إلى أنقاض يعيش أهلها في مجاعة، يتخيّل مخطّطو نتنياهو، وما بحوزتهم من رسومات أنتجها الذكاء الاصطناعي، منطقة تجارة حرّة بمساحة 141 ميلاً مربعاً. وهذا من شأنه أن يغطّي غزّة الواقعة بين ميناء العريش في الجنوب في شبه جزيرة سيناء المصرية وسديروت، وهي مدينة إسرائيلية شمال غزة.
انتشرت هذه الخطط للمرة الأولى داخلياً في كانون الأول/ديسمبر 2023، ثم أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن خططها طويلة المدى في أوائل أيار/مايو 2024، بعد أن واجهت ضغوطاً لتوضيح نهاية الحرب. وما تتصوّره الحكومة الإسرائيلية يختلف كلّياً عن خطط إعادة الإعمار الطارئة التي تضعها الأمم المتحدة، والتي تركّز الآن على إزالة الذخائر غير المنفجرة و37 مليون طن من الأنقاض على مدار عقد من الزمن بتكلفة تصل إلى 40 أو 50 مليار دولار. إن خطة نتنياهو، «غزة 2035»، عبارة عن استكمال لمحو غزة. وفيها تتصور الحكومة الإسرائيلية إنشاء مدينة ثرية ومُستَنسَخة وتجارية وصناعية ومُعَولمة، في موضعٍ ما بين شيكاغو - ما وصفه المؤرخ ويليام كرونون بـ«مدينة الطبيعة» - ودبي.
وكما هو الحال في العديد من الأمثلة التاريخية السابقة، فإن الدمار الشامل هو الذي سوف يُمهِّد الطريق أمام ولادة غزة من جديد في دورها التاريخي، باعتبارها مركزاً تجارياً رئيساً في البحر الأبيض المتوسط. وكما لاحظ نتنياهو نفسه، فإن خطة «غزة 2035» تستلزم «إعادة البناء من لا شيء». وهذا اللا شيء هو ما يخلقه الجيش الإسرائيلي بعمله التدميري اليومي.
تعني عبارة «Tabula Rasa»، في ترجمتها الحرفية، لوحاً مكشوطاً. وبعد أعمال الكشط التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي، سيأتى بناء أنظمة الطاقة (منصات النفط والغاز والألواح الشمسية) والبنية التحتية (الموانئ والمطارات والسكك الحديدية) التي ستنقل غزة «من أزمة إلى ازدهار».
لكن مَن أو ماذا سيدير ويحكم مشروع التطهير وإعادة الإعمار هذا؟ «تحت رعاية «غزة 2035»، ستُدار منطقة التجارة الحرة الجديدة من إسرائيل ومصر وما يسمّيه رئيس الوزراء الإسرائيلي «هيئة إعادة إعمار غزة» - وهي هيئة مقترحة يديرها الفلسطينيون وتشرف على إعادة الإعمار في غزة والإدارة المالية للقطاع».
بعبارة أخرى، سيكون هناك مركز تجاري مزدهر، ولكن لن يكون هناك كيان سياسي فلسطيني.
تراود نتنياهو أفكار كبرى. وإذا نجح ما يشير إليه مجازاً بـ«خطة مارشال» في غزة، فمن الممكن تطبيق نموذج مماثل في مختلف أنحاء المنطقة المبتلاة بالأزمات. ومن الممكن حينها إنشاء مناطق تجارة حرة مُدارة ضمن سُلُطات انتداب سياسية إقليمية في «اليمن وسوريا ولبنان».
بل هناك خط زمني. في السنة الأولى بعد انتهاء القتال: سوف يركز العمل في غزة على «المساعدات الإنسانية»، و«التخلّص من التطرّف» في غزة، والقضاء على حماس. ولكن هذا محض خيال.
وكما يلخص تقرير صحيفة «آرك بيبر» (Arch Paper) الأمر:
«تستمر المرحلة الثانية ما بين 5 إلى 10 سنوات، تتولى خلالها السعودية والإمارات ومصر والبحرين والأردن والمغرب «الإشراف» على إعادة إعمار غزة. وتبدأ المرحلة النهائية عندما توقّع فلسطين على اتفاقات أبراهام، التي من شأنها إقامة «حكم ذاتي فلسطيني»، وإنما من دون إقامة دولة».
في حين تبدو السياسة ضبابية عن عمد، فإن البرنامج المادي لإعادة الإعمار ليس كذلك. تدور خطة «غزة 2035» حول البنية التحتية. ستربط خدمات السكك الحديدية المدينة الجديدة بالإسكندرية في مصر، وسيربطها خط سكك حديدية آخر بين الشمال والجنوب بمدينة «نيوم» - أرض الأحلام التي يخطط لها محمد بن سلمان في السعودية في الصحراء على بعد حوالي 130 ميلًا جنوب رفح. ويواصل مكتب نتنياهو تصوّر فرص لـ«شركات تكنولوجيا ومصانع ومدن تصنيع سيارات كهربائية» تتمركز جميعها في منطقة التجارة الحرة بين غزة والعريش وسديروت.
إذا كان كل هذا خيالياً، لكنه في الواقع يملك أصلاً في رؤية نتنياهو طويلة الأمد حول «سلام اقتصادي» من شأنه تطبيع العلاقات مع الدول العربية الغنية في المنطقة على أساس اقتصادي، مما يسمح بتجاوز القضية الفلسطينية.
وكما أشار محمد حسن سويدان في مجلة «ذي كريدال» (The Cradle) قبل أسابيع من اندلاع حرب غزة، فإن دبلوماسية السكك الحديدية هي المجال المفضّل في الفكر الإسرائيلي المتعلّق بالاستقرار والهيمنة الإقليميين:
«منذ العام 2017، وفي إطار مبادرة تُعرف باسم «مسارات للسلام الإقليمي»، تحاول إسرائيل الترويج لمشروع سكك حديدية يربط ميناء حيفا بدول الخليج العربي، بما في ذلك الإمارات. اكتسب هذا المشروع، الذي بدأ تنفيذه بالفعل، أهمية أكبر بعد اتفاقية التطبيع بين أبو ظبي وتل أبيب في العام 2020. وفي تموز/يوليو، أفيد أن إسرائيل والولايات المتحدة تعملان على خطة لمشروع ربط بري للشاحنات المسافرة بين إسرائيل والإمارات عبر الأردن والسعودية. ويهدف المشروعان معاً إلى ربط البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي».
ويعدّ السياسي الليكودي يسرائيل كاتس - وزير المواصلات آنذاك، ثم وزير الطاقة فيما بعد، ووزير خارجية نتنياهو وشريكه الطوعي الآن - من أقدم المتحدّثين بهذه الرؤية التي تتبع الخطوط العريضة التاريخية لتأسيس البنية التحتية في الحقبة الإمبراطورية. وفي العصر الحالي، تتسم هذه الرؤية بميزة تجنّب كل من الخليج العربي والمدخل الضيق للبحر الأحمر.
ولا تقتصر هذه الرؤية على الاستراتيجيين الإسرائيليين العازمين على تحييد القضية الفلسطينية. فلطالما تصوّر مجلس التعاون الخليجي شبكة سكك حديدية تربط المنطقة الممتدة على مسافة أكثر من 2,100 كيلومتر من دولة الكويت إلى سلطنة عمان، مروراً بالدمام في السعودية، إلى العاصمة البحرينية، المنامة.
هذا هو الاقتصاد الجغرافي الجديد لعصرنا. رؤى واسعة للنقل والبنية التحتية والخدمات اللوجستية تُنشّط وتُلهَم بمزيج من المصالح التجارية والسحر التكنولوجي والتنافس الجيوسياسي. وبالنظر إلى خصائصها المادية، تعتبر البنية التحتية أداة مفضّلة للأغنياء والأقوياء. يحصرون الصراعات السياسية والجيوسياسية بشكل انتقائي، ويمنحونها شكلاً هائلاً، في حين يقمعون القضايا الأكثر تعقيداً، على سبيل المثال، القضية الفلسطينية. إن تحرّكات القوة هذه سياسية إلى حد كبير، فهي تحدّد من يدخل ومن يخرج، وهي مناهضة للسياسة بقوة في الوقت نفسه. بمجرد وجود قطار يسير في الوقت المحدّد، فالأمل هو أن تبدو القضايا الأخرى غير متصلة بالموضوع. هذه الفكرة قوية جداً لدرجة أن الوعد نفسه له آثاره. ليس عليك حتى بناء خطوط القطار. فالوعد نفسه له آثاره. في الواقع، يُعَد بناء القطارات وتشغيلها أمراً آخر وله مخاطره الخاصة.
تطرح مشاريع البنية التحتية دائماً مسألة التوصيل البيني. من يرتبط به ومن يتناسَب معه، ومن لا ينطبق عليه الأمران؟ قد يكون مشروع «المسارات العربية الإسرائيلية للسلام» إقليمياً بشكل مميز، لكنه يندمج في مخطط أكبر وهو «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا» الذي أُطلِق وسط ضجة كبيرة في قمة مجموعة العشرين التي استضافها رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في أيلول/سبتمبر 2023. وكما يقول محمد حسن سويدان في مقال آخر مفيد في «ذي كريدال» (The Cradle):
«في خلال قمة مجموعة العشرين في أيلول/سبتمبر الماضي، أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، عن مبادرة «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا»، والتي تضمّ الهند والسعودية والإمارات، إلى جانب إسرائيل وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة. ووفقاً لبيان البيت الأبيض، فإن الممرّ التجاري المتصوّر سيحتوي على خط للسكك الحديدية وخطوط أنابيب هيدروجين نظيفة ومناطق اقتصادية تمتد من الهند عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل وحتى ميناء بيرايوس في اليونان».
ستعمل الخطة على ربط الهند بأوروبا والغرب ووضع إسرائيل في مركز البنية التحتية الإقليمية للنقل.
وكما يقول تقييم شامل «للممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا» أجراه ألبرتو ريزي لصالح «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»:
«كانت مذكرة «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا» قليلة التفاصيل، ولكن يبدو أن الممر يتمتع بقدرة ملحوظة على التكيف بشكل جيد مع الأجندة الاستراتيجية لكل طرف مشارك. فمن شأنه أن يخدم الولايات المتحدة في تنافسها مع الصين وهدفها المتمثِّل في تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وفي سياق حرب روسيا ضد أوكرانيا، من شأنه أن يعزّز أمن أوروبا في مجالي الاقتصاد والطاقة ويساعدها على تعزيز علاقاتها بالجنوب العالمي. سوف يساهم «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا» أيضاً في تنويع أسواق الطاقة في دول الخليج ومهمتها في أن تكون بمثابة جسر بين الشرق والغرب. وأخيراً، من شأنه أن يساعد الهند على تأدية دور أكبر في سلاسل القيمة العالمية والإفلات من تطويق بكين. وأشادت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بالاتفاق ووصفته بـ «التاريخي». وقال رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، إن الممر سيكون «أساس التجارة العالمية لسنوات مقبلة»، في حين وصفه الرئيس الأميركي، جو بايدن، بأنه «صفقة كبيرة حقاً». وأكد ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، كلام بايدن كلمة بكلمة تقريباً، قائلاً: «إنها صفقة كبيرة بالنسبة إلينا وإلى أوروبا وإلى الهند»».
وكما يشير ريزي:
«تم التوصّل إلى اتفاق لإنشاء «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا» بفضل الجهود الدبلوماسية التي بذلتها إدارة بايدن، ويعتمد المشروع على المصالح الأميركية المختلفة. أولاً، يعكس الممرّ هدف الولايات المتحدة المتمثل في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط والحفاظ على زخم اتفاقات أبراهام بين إسرائيل والدول العربية. ويهدف أيضاً إلى احتواء النفوذ الدبلوماسي للصين في المنطقة، والذي اكتسبته بكين بعد التوسط في اتفاق بين الدولتين المتنافستين إيران والسعودية في العام 2023».
لكن في الشرق الأوسط، تتشظَّى سياسات القوة العالمية وتتضاعف دائماً من خلال المنافسات الإقليمية. بالنسبة إلى السعودية والإمارات، فإن رهانات «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا» تتعلق بإيران بقدر ما تتعلق بالصين أو إسرائيل. كما أن مشروع السكك الحديدية بين دول مجلس التعاون الخليجي وإسرائيل والممر له نظير مباشر فيما يسمى «خط سكك حديد المقاومة» الذي يسعى إلى ربط أنظمة السكك الحديدية المنفصلة والمتهالكة في إيران والعراق وسوريا، لربط ميناء الإمام الخميني الإيراني على الخليج بالبحر الأبيض المتوسط في اللاذقية، المدينة الساحلية السورية التي تمتلك فيها روسيا أحد مواقعها الرئيسة في المنطقة.
ومرة أخرى، تناول محمد حسن سويدان القضية في أيار/مايو 2023 في «ذي كريدال» (The Cradle):
«في تموز/يوليو 2018، أعلن سعيد رسولي، رئيس السكك الحديدية في الجمهورية الإسلامية في إيران، عن نية البلاد بناء خط سكك حديدية يربط الخليج العربي بالبحر الأبيض المتوسط... وقد ظهرت فكرة خط سكك حديدية بين إيران والعراق قبل عقد من الزمن. ففي العام 2011، أكملت إيران خط سكك حديد خرمشهر - الشلامجة بطول 17 كيلومتراً، والذي هدف إلى ربط السكك الحديدية الإيرانية بمدينة البصرة. وفي وقت لاحق، في العام 2014، وُقِّعت مذكرة تفاهم بين طهران وبغداد لإنشاء خط الشلامجة-البصرة. وبموجب الاتفاقية، تتولى إيران تصميم وبناء جسر فوق نهر شط العرب، فيما تعهّد الجانب العراقي ببناء خط سكك حديدية بطول 32 كيلومتراً من حدود الشلامجة إلى محطة سكك حديد البصرة داخل الأراضي العراقية. ... وذكرت مصادر رسمية إيرانية أن السكك الحديدية من شأنها أن تساهم في جهود إعادة الإعمار في سوريا، ودعم قطاع النقل، وتسهيل السياحة الدينية بين إيران والعراق وسوريا.… وفي خلال زيارة الرئيس الإيراني السابق، حسن روحاني، إلى العراق في آذار/مارس 2019، وُقِّعَت مذكرة تفاهم حول المشروع بين طهران وبغداد. لكن على الرغم من الاتفاقيات، واجه الجانب العراقي تحديات اقتصادية ونقص في الأموال، أدت إلى تأخير بناء خط السكك الحديدية. وعلى الرغم من أن خط السكك الحديدية بين إيران والعراق لن يتجاوز طوله 32 كيلومتراً وتكلفته حوالي 120 مليون دولار، مقسمة بالتساوي، فإن أهميته تمتد إلى ما هو أبعد من طوله. سيكون بمثابة خط السكك الحديدية الوحيد بين البلدين ومن شأنه أن يؤدّي دوراً حاسماً في تحسين الاتصالات في جميع أنحاء المنطقة الأوسع من خلال ربط خطوط «مبادرة الحزام والطريق» الصينية بالعراق عبر إيران. وبمجرد اكتماله، سوف يمكِّن المشروع العراق من الاتصال بسهولة بشبكة السكك الحديدية الواسعة في إيران، والتي تمتد إلى الحدود الشرقية لإيران. وسيفتح هذا الارتباط مسارات أمام بغداد للتواصل مع أفغانستان وباكستان والصين والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأقصى. علاوة على ذلك، في المستقبل، سيضع المشروع العراق كطريق عبور للتجارة بين الدول العربية في منطقة الخليج العربي وآسيا الوسطى، وكذلك روسيا. وبالمناسبة، وقَّعت إيران وروسيا للتو اتفاقية لإنشاء خط سكك حديدية يربط مدينتي أستارا ورشت الإيرانيتين، كجزء من «ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب»».
بالنظر إلى الرهانات الموضوعة، فإن هذا النوع من صفقات البنية التحتية تنطوي على الكثير من الضجيج، والمساومات طويلة المدى وبطيئة الحركة، والمنافسات الشديدة. وفي حالة الوصلة بين إيران والعراق، فإن الأمر لا يقتصر على التكلفة فحسب، بل إن المصالح العراقية التي تدعم مشروع «القناة الجافة» الذي تنفذه البلاد هي التي تقاوم الأولوية المعطاة للرؤية المتمحورة حول السكك الحديدية الإيرانية. تفضل المصالح العراقية المتنافسة ربط ما يسمونه «ميناء الفاو الكبير» في محافظة البصرة بالطريق البري المؤدي إلى البحر الأبيض المتوسط.
وفي عصر يتسم بتعدد الأزمات السريعة الحركة، تتسم مشاريع البنية الأساسية بدورها بطابع زمني غامض.
من ناحية، هذه المشاريع عُرضة للصدمات المفاجئة. لقد أعلن البيت الأبيض عن الصفقة الكبرى «للممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا» في 9 أيلول/سبتمبر 2023، قبل أقل من شهر من هجوم حماس على المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بغزة. وهزَّت أعمال العنف التي اندلعت في 7 تشرين الأول/أكتوبر، والدمار الأعظم الذي أعقبها، السياسة العالمية. وهذا هو ما يجعل رؤية نتنياهو لـ«غزة 2035» شنيعة للغاية. وكان رد الإمارات في أيار/مايو 2024 هو رفض الرؤية الإسرائيلية لمستقبل غزة رفضاً قاطعاً.
من ناحية أخرى، فإن حقيقة عودة مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى رؤية متجذِّرة في الجغرافيا والتجارة والخدمات اللوجستية لها منطقها الخاص. يتطلب الأمر سياسات مُنحرفة حقاً لمنع غزة من العمل كمركز للنقل والتجارة. وبالمقابل، يشكل الخليج العربي نقطة ازدحام للمصالح بالغة الأهمية لدرجة تجبر جميع اللاعبين في المنطقة على البحث عن «خيارات». وإذا كان لهذه الخيارات أن تتم عن طريق صفقة مع إسرائيل، فقد يكون هذا ثمناً يستحق الدفع بالنسبة للبعض. فإسرائيل لديها ثروة حقيقية ونفوذ تكنولوجي يمكن أن تقدّمهما.
وكما يعلق ريزي، فإن قرار إسرائيل بتصعيد العنف على نطاق واسع في غزة يضع إمكانية التعاون حول مشروع «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا» موضع شك. لكن على المنوال نفسه، فإن حالة عدم اليقين المتصاعدة تشحن منطق التهديدات المتبادلة الذي يزعم صناع القرار في «الغرب» من خلاله أنه «يجب عليهم» مواجهة المبادرات الروسية والصينية، مما يزيد من تأجيج المنافسة وتوليد مخططات متزايدة التعقيد. يريد صناع القرار الجيوسياسي خيارات ومن السهل بناء التحالفات حول فكرة الاستثمار على نطاق واسع في البنية التحتية المستقبلية، بما في ذلك المصالح المالية التي قد تتوسط في الصفقات. وكما حاججت دانييلا غابور منذ فترة طويلة، فإن الوعد بتمويل البنية الأساسية يشكل أحد المفاتيح الرئيسة لما تسميه «إجماع وول ستريت». وهذا يخلق الزخم.
وكما يشير ريزي:
«على الرغم من التحديات الهائلة التي يفرضها عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، فإن الحرب في غزة وتداعياتها لم تغير الأهداف الاستراتيجية والاقتصادية طويلة المدى للمشاركين في «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا». لقد شهد شباط/فبراير 2024 توقيع الهند والإمارات على الاتفاقية الرسمية الأولى بشأن تطوير الممر، وتعيين الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مبعوثاً خاصًا بشأن الممر. وفي مؤتمر «حوار ريسينا» في نيودلهي، في وقت لاحق من ذلك الشهر، أكد رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، على أهمية الممر والحاجة إلى ربط الاتحاد الأوروبي بالهند بشكل أفضل. وكما قال مودي في ريسينا: «هذا مشروع مشترك بين الأجيال، ومن الخطأ أن نراه من منظور أي حدث أو صراع بعينه»».
حتى لو كانت مجرد أوهام وضلالات، فإن مشاريع مبهرجة مثل «مبادرة الحزام والطريق» أو «غزة 2035»، أو «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا» أو «سكك حديد المقاومة» تخدم غرضاً ما. وكما حاججتُ فيما يتعلق بـ«شراكات التحول العادل في مجال الطاقة»، فإن قسماً كبيراً من عملية صنع السياسات يتمتع بخاصية التهدئة الذاتية. وفي حالات أخرى، قد تخدم هذه المشاريع غرض تأجيج التوتر وخلق المنافسات وتوليد الدعوة لمزيد من المشاريع. أو قد تكون رؤى مثل «غزة 2035» بمثابة إلهاء يستحضر رؤى إقليمية متناغمة للبنية التحتية، بينما يتحرك المستوطنون وجرافاتهم على الأرض.
الأفعال هي ما يُغير قواعد اللعبة. إن الدمار الشامل، كما هو الحال في غزة، أو مشاريع البناء العملاقة، مثل أنظمة الموانئ وشبكات الألياف الضوئية، أشياء تحول السياسة إلى نمط جديد. إن الأفعال، سواء كانت تحريك الأرض، أو تحريك الناس، أو الاستثمار الفعلي للأموال، تخلق حقائق مادية وتكنولوجية. ليس هناك وعد بالنجاح أو الكفاءة. والعديد من مشاريع البنية التحتية عبارة عن فيلة بيضاء. لكن مهما كان التقييم من حيث «النجاح أو الفشل»، فإن الانتقال من لوحة الرسم إلى العمل يؤثر على الحياة، أحياناً باتجاه الخير، وغالباً ما يكون بطرق مدمّرة وحتى مميتة. إن المشاريع تنتقل على أية حال من الأفق الافتراضي للمستقبل إلى اللحظة الملموسة لكيفية استمرار الحياة. وهذا هو السؤال في غزة.
في الأشهر المقبلة، بينما يكمل الجيش الإسرائيلي أعماله التدميرية، سيكون هذا هو السؤال بشكل متزايد. ماذا تفعل بعد هذا العنف الرهيب؟ ما الذي يجب على ملايين الناجين أن يفعلوه؟ أين سيصنعون حياتهم وكيف؟ إن الخطط المشذَّبة بشكل شنيع لـ«غزة 2035» ليست إجابة على تلك الأسئلة الوجودية. إنها هلوسة برّاقة لم تُسكِّن حتى الحكومة الإسرائيلية المنقسمة لأكثر من بضعة أيام. لكن لا تُخرِجوا هذه الخطط من حساباتكم. فسوف تعود.
نُشِر هذا المقال على مدوِّنة الكاتب في 23 أيار/مايو 2024، وتُرجِم وأعيد نشره على موقع «صفر» بموافقة مُسبقة من الكاتب.