معاينة اجور القطاع الخاص في مصر

الأوضاع السيئة لعمّال القطاع الخاص في مصر

في شباط/فبراير الحالي، يبدأ تطبيق القرار الصادر عن المجلس القومي للأجور في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والقاضي برفع الحد الأدنى للأجور لعمّال القطاع الخاص بقيمة 500 جنيه، من 3000 جنيه إلى 3500 جنيه.

وهذا هو الرفع الثالث للحد الأدنى لأجور عمّال القطاع الخاص في خلال عام واحد. ففي كانون الثاني/يناير 2023 قرّر المجلس القومي للأجور رفع أجور عمّال القطاع الخاص من 2400 جنيه إلى 2700 جنيه، وفي تموز/يوليو الماضي رفعه مجددا إلى 3000 جنيه، وأخيراً في مطلع العام 2024 إلى 3500 جنيه. ما يعني أن الحدّ الأدنى للأجور في القطاع الخاص ارتفع من بداية العام 2023 إلى بداية العام 2024 بنسبة 29.6% تقريباً.

عمال مصر

الزيادة لا تطال أكثر من 88% من عمّال القطاع الخاص

قد تبدو الزيادة كبيرة بالنسبة لعام واحد، ولكن بالنظر إلى بعض الجوانب يساعد في معرفة حدودها وجدواها. 

يشمل القرار الصادر عن المجلس القومي للأجور عمّال القطاع الخاص الذين يمثلون نحو 80% من مجمل العاملين بأجر، إذ تبلغ نسبة العاملين لدى الحكومة وفي القطاع العام وقطاع الأعمال العام، وهي القطاعات التابعة للدولة ولا يشملها القرار، نحو 19%  فقط من إجمالي 21.352 مليون عامل بأجر في مصر، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. إلى ذلك، ينقسم القطاع الخاص إلى عمّال داخل المنشآت، وتبلغ نسبتهم من العاملين بأجر نحو 36.2%، أي ما مجموعه 7.4 مليون عامل، وعمّال خارج المنشآت، ويشكّلون 44.6% من العمّال، أي نحو 9.5 مليون عامل. 

يعمل 24.2% من العاملين في المنشآت التابعة للقطاع الخاص بموجب عقود عمل قانونية، وتزيد النسبة بالنسبة للعاملين خارج المنشآت، إذ لا تتجاوز نسبة العاملين بموجب عقود قانونية 1.2% فقط

تطبيق قرارات الحد الأدنى للأجور على العاملين في القطاعات التابعة للحكومة، والذي رفع أخيراً بنسبة 50% ليبلغ 6 آلاف جنيه، يتسم بالصرامة، إذ يطبّق على جميع العاملين في الدولة، أمّا تطبيق الحد الأدنى للأجور على العاملين في القطاع الخاص فيدل على تماسك علاقات العمل وصلابتها، بقدر ما تتوافر المظلة القانونية للعامل.

بحسب معايير العمل اللائق التي تعتمدها الحكومة، وتشمل العمل بعقود قانونية وتوفير التأمين الاجتماعي والتأمين الصحّي للعمّال، يعاني عمّال القطاع الخاص من هشاشة عميقة في علاقات العمل. وبحسب نشرة القوى العاملة الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء، يعمل 24.2% من العاملين في المنشآت التابعة للقطاع الخاص بموجب عقود عمل قانونية، أي أن ما يقرب من 6 ملايين عامل في القطاع الخاص لا يملكون عقود عمل قانونية، وتزيد النسبة بالنسبة للعاملين خارج المنشآت، إذ لا تتجاوز نسبة العاملين بموجب عقود قانونية 1.2% فقط، ما يعني أن أكثر من 9 ملايين عامل خارج المنشآت في القطاع الخاص لا يتمتعون بعقود قانونية. في الحصيلة، تزيد نسبة غير المستفيدين من الزيادة عن 88% بحكم عدم تمتّع العمال بعقود عمل قانونية. 

من ناحية أخرى، تفتقد غالبية عمّال القطاع الخاص إلى التأمين الاجتماعي. من بين عمّال القطاع الخاص في المنشآت لا يحظَى سوى 34.2% فقط بتأمين اجتماعي، وتنخفض النسبة إلى 10.2% للعاملين في القطاع الخاص خارج المنشآت.

تبيّن هذه البيانات هشاشة علاقات العمل في القطاع الخاص بالنسبة إلى الشريحة الأكبر من العمّال، وبالتالي تدل على الضعف الشديد في وضع العمّال التفاوضي. ترتبط قدرة العمّال على المطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور بوجود مظلّة قانونية، من هنا إن افتقاد النسبة الأكبر من العمّال لعقود قانونية يحدّ بشدّة من قدرة العمّال على المطالبة بتطبيق قرارات الحد الأدنى للأجور، وبالتالي يصبح حصول غالبية عمّال القطاع الخاص على الحد الأدنى للأجور مرهوناً بإرادة صاحب العمل وحده.

الزيادة في الأجور الاسمية لا تعوّض تآكل الاجور الحقيقية بالتضخّم

لا شك أن إمكانية تطبيق الحدّ الأدنى للأجور على عمّال القطاع الخاص وضمان تطبيقه بشكل شامل يحتل أهمّية لا تقل، بل قد تزيد على قيمة الحدّ الأدنى للأجور نفسه. ولكن القيمة تكتسب أيضاً أهمّية كبيرة، خصوصاً مع ارتفاع معدّل التضخّم وتصاعد تكاليف المعيشة. 

ارتفع الحدّ الأدنى لأجور العمّال في القطاع الخاص بنسبة 29.6% منذ بداية 2023، ولكن عند مقارنتها بنسبة ارتفاع معدّل التضخّم التي تجاوزت 34%، يتبيّن أن الزيادة في الأجور لا تزال متخلّفة عن الزيادة المحقّقة في التضخم بنسبة تتجاوز 5%

ارتفع الحدّ الأدنى لأجور العمّال في القطاع الخاص بنسبة 29.6% منذ بداية العام 2023، وهي نسبة كبيرة بالفعل، ولكن عند مقارنتها بنسبة ارتفاع معدّل التضخّم التي تجاوزت 34%، يتبيّن أن الزيادة في الأجور لا تزال متخلّفة عن الزيادة المحقّقة في التضخم بنسبة تتجاوز 5%، وأن قيمة الأجر الحقيقي تتآكل. 

يضاف إلى ذلك، انخفاض الحدّ الأدنى للأجور الأساسي (2700 جنيه) الذي اعتمد لتطبيق الزيادات، عن خط الفقر القومي لأسرة مصرية مكوّنة من أربعة أفراد في العام 2021، والذي كان يساوي 3218 جنيه شهرياً. ما يعني أن العامل في القطاع الخاص الذي حصل على الحد الأدنى للأجور ستعيش أسرته تحت خط الفقر بكثير، خصوصاً أنه ارتفع عن 3218 جنيه مع ارتفاع معدّلات التضخم في العام 2022 بنسبة 14%، ومن ثمّ 34% في العام 2023.

النتيجة الأوضح لتغييب النقابات

الحقيقة أن رفع الحد الأدنى للأجور بتلك النسبة، وإن عدّت كبيرة، لا ينعكس تحسّناً في مستويات معيشة العمّال في القطاع الخاص. وفي حين ساهم بتقليل حدّة تدهور الأوضاع المعيشية لمن شملهم تطبيقه، لا تزال النسبة الأكبر من العاملين التي لا تتمتع بعقود قانونية غير مستفيدة منه.

غياب النقابات العمّالية عن القطاع الخاص يعني إضعاف القدرة التفاوضية للعمّال، وهو ما ينعكس على نحو مباشر على جوانب علاقات العمل كافة، من الأجور إلى ساعات العمل وصولاً إلى الاستقرار في العمل

لا يمكن فهم الوضع المتدني للأجور في القطاع الخاص، والهشاشة العميقة في علاقات العمل المتمثّلة في الانكماش الشديد للمظلّة القانونية والاجتماعية، إلا بغياب النقابات عن القطاع الخاص وهيمنة تنظيم واحد موالي للحكومة يمثّل غالبية عمّال القطاع العام والحكومة وقطاع الأعمال. والواقع أن غياب النقابات العمّالية عن القطاع الخاص يعني غياب أو على الأقل ضعف القدرة التفاوضية للعمّال وتراجع العمل الجماعي. وهو ما ينعكس على نحو مباشر على كافة جوانب علاقات العمل، من الأجور إلى ساعات العمل وصولاً إلى الاستقرار في العمل نفسه وتقنين علاقة العمل.

كما أن هذا الغياب يجعل الحد الأدنى للأجور قراراً صادراً من جانب واحد من دون مراجعة، وبطبيعة الحال لا يعبّر عن طرف غائب عن آلية اتخاذه. وبالتالي، يتحوّل الحد الأدنى للأجور إلى مجرّد رقم جديد لا يتصل لا بظروف العمّال وأوضاعهم، ولا بتطور أعباء المعيشة وتكاليفها. في الواقع، أصدر المجلس القومي للأجور قرارات برفع الحد الأدنى للأجور مرّات عدة، آخرها كان في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ولم يكن عمّال القطاع الخاص ممثلين في اتخاذه. وفي الحصيلة، لم يسهم أياً من تلك القرارات في تحسين أوضاع العمال. 

أيضاً في السابع من شباط/ فبراير الجاري، أصدر الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي قراراً برفع الحد الأدنى للأجور للعاملين بالحكومة وقطاع الأعمال والقطاع العام بنسبة 50%، ليرتفع الحد الأدنى للأجور لتلك القطاعات من 4000 جنيه إلى 6000 جنيه شهرياً، وبغض النظر عن القيمة الفعلية لهذه الزيادة، والتي تصدر عشية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي بما يواكبه من إجراءات تقشّفية تعصف بأي زيادة في الأجور، فإن القرار بزيادة شبيهة لعمّال القطاع الخاص لم يصدر بعد، وعلى الأغلب سيجتمع المجلس القومي للأجور لاحقاً ليقرّر زيادة الحد الأدنى للأجور للعاملين بالقطاع الخاص، وبغض النظر عن القيمة التي سيقرّرها وعلاقتها بالأعباء المعيشية التي أضيفت وستضاف على كاهل العمّال، يبقى أن القرار الذي سيتخذ في غياب العمّال لن يعبّر عنهم.