تعدّد الأقطاب: انحياز جديد؟
يبدو في الظاهر أنّ البريكس تشكِّل كتلة مناهضة للولايات المتحدة. ولكن على مستوى أعمق، يقاتل أعضاؤها للدفاع عن السلطة المؤسسية العابرة للقوميات، خصوصاً مع نمو شركاتهم متعددة الجنسيات ورغبتهم في فرض فتح الأسواق ومقاضاة الحكومات.
تبرز مشكلة أعمق أمام الاشتراكيين والنشطاء المناهضين للرأسمالية. ألا وهي الترويج لأيديولوجيا ترفض التناقض الأساسي بين رأس المال والعمل، وهو نوع من الديمقراطية الاجتماعية اليمينية يجادل بأنّ الرأسمالية الأفضل أفضل للطبقة العاملة.
خلقت أزمة العولمة توترات وطنية متزايدة. لم نعد نسمع عن عجائب الأسواق العالمية الحرة والتكامل العالمي. وبدلاً من ذلك، تحوّل الحديث إلى «فك الارتباط» عن الصين، والحرب الروسية على أوكرانيا، وتعدّد الأقطاب الذي يكسر القيادة الغربية الإمبريالية.
مع نمو تعدّد الأقطاب، يرى البعض فيه مرحلة جديدة من عدم الانحياز، بل وظهوراً لكتلة مناهضة للإمبريالية. لكن النخب الاقتصادية والسياسية في الجنوب العالمي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالرأسمالية العابرة للقوميات لدرجة أنّها لا تستطيع أن تتمتع معها باستقلالية حقيقية. وبدلاً من ذلك، يمثل تعدّد الأقطاب صراعاً داخل الرأسمالية العالمية على حصة أكبر في الأسواق والأرباح والسطوة السياسية.
باتت الصين المؤيّد الرئيس لنظام عالمي جديد قائم على العلاقات «المُربحة للجميع». لكن «المصير المشترك للبشرية» داخل الرأسمالية العالمية يغطّي على الواقع الفعلي للمنافسة والاستغلال الرأسماليين.
كان جوهر السخط التفاوتات الطبقية المتزايدة في الولايات المتّحدة وأوروبا، الأمر الذي خلق أزمة شرعية للنخب الرأسمالية. وفي الجنوب العالمي، تتصادم التفاوتات الإمبريالية التاريخية مع القوة المتنامية والمطالب المتزايدة للطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب.
يرى البعض في ذلك حركة تقدّمية جديدة من حركات عدم الانحياز. لكن الجناح الجنوبي للطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات مندمج مع رأس المال الشمالي لدرجة لا يمكنه معها السعي إلى عدم الانحياز بوصفه كتلة مستقلة حقاً. وفي حين تريد الطبقة العاملة الغربية الخروج من العولمة، تريد الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب المضي فيها قدماً.
بعد الحرب العالمية الثانية، اجتاحت موجة عارمة من النضالات المناهضة للاستعمار ما كان يُطلق عليه آنذاك العالم الثالث. وأنتجت تلك الفترة قادة سياسيين من الشيوعيين من أمثال فيدل كاسترو وهو تشي مينه، مروراً بالاشتراكيين الراديكاليين من أمثال كوامي نكروما ونيلسون مانديلا، ولغاية القوميين المناهضين للاستعمار من أمثال جمال عبد الناصر ومحمد مصدق في إيران.
في خلال هذا الوقت، انضمّت البورجوازية الوطنية المُضطهَدة إلى صفوف العمّال والفلّاحين في النضال من أجل الاستقلال وتقرير المصير. لكن تلك الأيام ولت منذ زمن.
عدم الانحياز أو رأس المال المندمج؟
لقد قطعت البورجوازيات الجنوبية منذ زمن طويل صلاتها الشعبوية وخطابها الاشتراكي لتنضمّ إلى الرأسمالية العالمية، ولكن ليس بصفة الكمبرادور التابع، بل بصفتها الجناح الأنجح والأقوى في الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات.
وكما أفاد بنك أوف أميركا، فإنّ إجمالي الناتج المحلي للبرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا (البريكس) مجتمعين، تجاوز مجموعة الدول السبع من حيث تعادل القوة الشرائية1. ومن المتوقع أن تمثل البريكس نحو 33.6% من الناتج العالمي بحلول العام 2028، مقارنة بنحو 27% لمجموعة السبع.
في العام 2021، شكّلت التدفقات الخارجة من الجنوب العالمي 26% من الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي، وارتفعت إلى 21% من إجمالي مخزون الاستثمار الأجنبي المباشر. هذا هو الأساس المادي للطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب. وفي الواقع، يوجد في الجنوب العالمي 45 من أكبر 100 شركة قابضة مالية كما يوجد 21 من أكبر 100 شركة متعددة الجنسيات.
كما يمكننا إلقاء نظرة على الحجم الإقليمي والثروة لأجنحة الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات. فمن بين 3,194 مليارديراً في العالم، يقع 34.7% منهم في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية والشرق الأوسط؛ ويمتلكون 34% من مجمل ثروة المليارديرات.
والدول الخمس الأولى التي بها مليارديرات هي الولايات المتحدة والصين وألمانيا وبريطانيا والهند. ومن بين أصحاب الثروات الصافية بالغة الارتفاع (بين 30 مليون دولار و999 مليون دولار)، يوجد 32% منهم في الجنوب العالمي ومعهم 30% من الثروة.
وبما أنّ البيانات الخاصة بآسيا تشمل اليابان، ستكون الإجماليات الفعلية أقل ببضع نقاط مئوية. ولكن، بالعموم، من الواضح أنّ كبار الرأسماليين في الجنوب العالمي يمثلون جناحاً مهماً من الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات.
ولا بد لنا من إدراك أنّ هذه الثروة المتراكمة ليس معزولة في نوع من صوامع الجنوب العالمي، إنّما هي مندمجة إلى حد كبير مع رأس المال الشمالي من خلال الأسهم وعمليات الدمج والمشروعات المشتركة ومجموعة واسعة من الأدوات المالية. وليس الأمر هنا وجود 30% من الرأسماليين في الجنوب العالمي مقابل 70% من الرأسماليين في الشمال العالمي.
لفهم مدى تكامل الرأسمالية العالمية تحت قيادة الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات، يجب علينا النظر في دراسة مفتاحية أجراها المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا. وقد ركّز فريق البحث التابع له على ملكية الشركات متعددة الجنسيات، وفحصَ قاعدة بيانات تضم 37 مليون شركة ومستثمر.
ركّزت الدراسة على شبكات المساهمين ومجموعة أساسية قوامها 147 مؤسسة مالية. ضمّت هذه المؤسسات المالية 47,819 من المساهمين الأفراد والمؤسسات من 190 دولة يشغلون مناصب عليا داخل أكبر الشركات متعددة الجنسيات في العالم. وبعبارة أخرى، فإنّ الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات من مختلف أنحاء العالم تستثمر ثروتها من خلال شركات مالية عالمية النطاق ولديها مراكز سيطرة في أكبر 15,500 شركة.
تقوم البنوك وشركات إدارة الأصول بخلق آلاف من الأدوات الاستثمارية المختلفة، وهي طرائق لتنظيم رأس المال واستثماره واجتذاب الرأسماليين العابرين للقوميات
ومن الأمثلة الممتازة على ذلك شركة بلاك روك، أكبر مالك للأصول في العالم (9.4 تريليون دولار)، ومقرها في الولايات المتحدة. أعلنت هذه الشركة، في العام 2022، أنّ المستثمرين الأجانب يمثلون غالبية عملائها الجدد. ومن بين أكبر 10 مستثمرين في بلاك روك نجد صندوق الثروة السيادي الصيني، ومجموعة ميزوهو المالية من اليابان، وشركة تيماسيك القابضة للاستثمار التابعة للدولة في سنغافورة، وويلينغتون من بوسطن. بدورها، لدى ويلينغتون 2,200 عميل من أكثر من 60 دولة.
ومثال على مؤسسة مالية أصغر حجماً، ولكنها مع ذلك متجذّرة في التمويل والاستثمار العابر للقوميات، نجده في شركة آي إف إم إنفستورز التي تتخذ من أستراليا مقراً لها. وهي أصغر بكثير من بلاك روك، إذ تقل أصولها قليلاً عن 200 مليار دولار، وتستثمر نيابة عن أكثر من 640 مؤسّسة في العالم، من بينها صناديق التقاعد وشركات التأمين وصناديق الثروة السيادية والجامعات وصناديق الهبات والمؤسسات.
إنّ كون مقر بلاك روك وويلينغتون وآي إف إم في الولايات المتحدة وأستراليا أمر ثانوي مقارنة بتمثيلها لمستثمري الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات. فرأس المال المالي رأسمال عالمي متكامل، من أكبر الشركات إلى أصغرها حجماً.
تُعد شركة دايملر تراك القابضة إيه جي مثالاً مفيداً على كيفية تأثير التمويل في الشركات الصناعية التي يُنظر إليها على أنّها «بطل قومي». لدى دايملر تراك 823 مليون سهم ممتاز يُحتفظ بها في العالم. ومجموعة مرسيدس بنز أكبر مساهم منفرد فيها، ولكن من بين المساهمين الرئيسيين الآخرين مجموعة بي إيه آي سي الصينية والمستثمر الصيني لي شوفو والهيئة الكويتية العامة للاستثمار، والأخيرة من كبار حملة الأسهم في مرسيدس بنز.
وهذا المثال على الاستثمار المشترك بين جناحَي الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب والشمال تقابله أمثلة أخرى لا تحصى. وعلى جانب الإنتاج من الصورة، خذ شركة بروكتر آند غامبل التي لديها 50,000 شركة توريد مباشر، وكل منها قد يستخدم المئات من الشركات الأخرى للحصول على المواد. هذه العلاقات العالمية المعقدة شائعة بين الشركات متعددة الجنسيات وتربط بين الجنوب والشمال.
وصناديق الثروة السيادية ليست مستثناة من العلاقات المالية العابرة للقوميات. فعلى الرغم من ملكية الدولة لتلك الصناديق واعتمادها على رأس المال الوطني، فإنها تمثل سبيلاً أساسياً للاستثمارات العالمية.
ومثالنا على ذلك صندوق إدارة الاستثمار الحكومي النرويجي، بأصولٍ قيمتها 1.3 تريليون دولار مع حصص في 9,228 شركة في 70 دولة. ومن بين أكبر 16 شركة تابعة لشركة تيماسيك في سنغافورة، توجد 5 من الولايات المتحدة، و4 من الصين، و2 من الهند، بالإضافة إلى هولندا والمملكة المتحدة.
لفهم دراسة المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا، يتعيّن علينا مراعاة كيفية عمل المؤسسات المالية كمراكز تنظيمية لرأس المال العابر للقوميات. تقوم البنوك وشركات إدارة الأصول وشركات الأسهم الخاصة وتجارة العملات وغيرها من المؤسسات المالية بخلق آلاف من الأدوات الاستثمارية المختلفة. وهي طرائق مختلفة لتنظيم رأس المال واستثماره، واجتذاب الرأسماليين العابرين للقوميات في جميع أنحاء العالم. ومع تمركز رأس المال في صناديق مختلفة، فإنّه يتدفق إلى البلدان في كل قارة. فنجده يستثمر في الأسهم والسندات وحقوق الملكية والعقود الآجلة والعقارات وأسواق المال ورأس المال المغامر (وهكذا)، محققاً أرباحاً من عمل الناس، وكذلك من أنشطة مضاربة البحتة.
يُعاد مركزة فائض القيمة في هذه الشركات المالية وتوزيعه على مستثمري الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات لتعود من جديد إلى التداول. هذه هي العملية الأساسية كما كشفت عنها الدراسة السويسرية، وهو ما نراه في بلاك روك وغيرها من المؤسسات المالية.
ويتضح ذلك جلياً في حقوق ملكية الشركات الأميركية إذ يمتلك الأجانب حوالي 40% منها. تمتلك الأسر الأميركية من الطبقة المتوسطة حوالي 30%، وذلك أساساً من خلال حسابات التقاعد، وتمتلك المنظمات غير الحكومية 5%. ويحتفظ المستثمرون الأميركيون الأثرياء بحوالي 25%.
وبما أنّنا نهتم بسلطة صنع القرار، يتعيّن علينا استبعاد ملايين الأسر الصغيرة. يمتلك الرأسماليون الأميركيون كمجموعة وطنية واحدة أكبر الحيازات. لكن إجمالي رأس المال الأميركي الكلي الأكبر مملوك ملكية جماعية لرأسماليين عابرين للقوميات.
تفاوتات تاريخية
تشير البيانات المذكورة أعلاه مجتمعة إلى سبب استحالة عدم الانحياز، ولكنها تقتصر على مجموعة من التفاوتات المرتبطة بالهيمنة التاريخية للإمبريالية الغربية على النظام العالمي. فما يسمّى بالتحرّك نحو عدم الانحياز لا يعني في واقع الأمر إلّا تحقيق تقارب أكبر ومساواة أكبر بين الرأسماليين، أكثر منه كتلة من القوى المحايدة.
على الرغم من أنّ السنوات الأربعين الماضية شهدت تكوّن الرأسمالية العابرة للقوميات، فقد ترسخت على جسد النظام الإمبريالي الأقدم. ومع نمو الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب، زادت أيضاً مطالبها بتمثيل أكثر إنصافاً في مؤسّسات الحوكمة العابرة للقوميات كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
كذلك الأمر توجد تفاوتات أخرى، كالعبء البيئي وهيمنة الدولار في التجارة والتمويل. من شأن تحقيق توازن أكبر في القوى أن يفيد قطاعات واسعة من سكّان العالم، ولكن الفائز الأكبر سيكون الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب.
على سبيل المثال، من شأن إلغاء الدولرة من التجارة العالمية (أمرٌ لا يزال بعيد من أي تغيير كبير) أن يخدم في المقام الأول زيادة القوة السوقية للطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب. وقد يخلق أيضاً مجالاً سياسياً أكبر لتجنّب العقوبات الأميركية التي أضرت بملايين الأشخاص في جميع أنحاء الجنوب العالمي.
يجب دعم المطالب التي تقلّل من مركزية قوة الدولة الغربية، خصوصاً تلك المطالب التي تفيد الجماهير العريضة من الناس. ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا أيضاً كيف تؤدي هذه التغيرات إلى ظهور بورجوازية جنوبية أقوى في وضع أفضل لاستغلال العمّال، وشراء المزيد من المعدّات العسكرية، وتوطيد قبضتها على الدولة.
يرى البعض في توسع البريكس (الكتلة التجارية المكوّنة من البرازيل/روسيا/الهند/الصين/جنوب أفريقيا) خطوة تاريخية نحو الاستقلال وعدم الانحياز. وذهب الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا إلى حد القول بأنّ البريكس ستكون «القوة الدافعة للنظام الدولي الجديد».
بيد أنّ النية في الاندماج الكامل مع الرأسمالية العابرة للقوميات كانت واضحة من إعلان جوهانسبرج الثاني من قمة البريكس الخامسة عشرة في آب/أغسطس 2023. وفيه، أكدت دول البريكس دعمها «لنظام تجاري متعدد الأطراف قائم على القواعد مع منظمة التجارة العالمية في قلبه... ونظام تجاري زراعي موجه نحو السوق... وصندوق النقد الدولي الممول كفاية... واضطلاع المؤسسات المالية المتعددة الأطراف والمنظمات الدولية بدور بنّاء في بناء توافق عالمي في مجال السياسات الاقتصادية». وكما أشار باتريك بوند، «إنّ الكتلة عازمة لا على قلب طاولة القوة الاقتصادية الغربية، بل على تحقيق الاستقرار وإعادة الشرعية لذلك النظام القائم على القواعد».
حين تعلن دول البريكس أنّ منظمة التجارة العالمية في القلب من نظام تجاري عالمي، فإنّها تدعم هيكلاً يرفع حقوق الشركات متعددة الجنسيات فوق حقوق الدول. ويمنح هذا النظام الأولوية لسطوة الرأسماليين العابرين للقوميات على النخب الحاكمة، لأنّ محاكم التجارة التابعة لمنظّمة التجارة العالمية مصمّمة لدعم حق الشركات متعدّدة الجنسيات في مقاضاة الحكومات بسبب الحد من الأرباح أو الوصول إلى السوق بشكل غير عادل. وفي حين أنّ بعض قرارات المحكمة كانت ضد الولايات المتحدة وأوروبا، فإن الغالبية العظمى عاقبت بلدان الجنوب العالمي.
تمثِّل محاكم تسوية المنازعات هذه نشاطاً أساسياً لمنظمة التجارة العالمية. وقد جرى استخدامها لإلغاء المعايير البيئية ومعايير العمل والسياسات التي تدعم الشركات الوطنية، الأمر الذي أضعف في الواقع قوة الدولة حيث يكون للعناصر الوطنية التقدمية نفوذ، مع تعزيز قوة الشركات متعددة الجنسيات حيث لا يتمتع الديمقراطيون الاجتماعيون الجنوبيون بأي سلطة أو يتمتعون بنفوذ ضئيل فحسب.
هذه الثروة المتراكمة ليس معزولة في الجنوب العالمي، إنّما هي مندمجة إلى حد كبير مع رأس المال الشمالي من خلال الأسهم وعمليات الدمج والمشروعات المشتركة ومجموعة واسعة من الأدوات المالية
وفي دراسة هامة عن إجراءات تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول، كتب شون نيكولز: «يمثل الصراع على تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول مشروعاً عالمياً تقوده طبقة رأسمالية عابرة للقوميات ولَّدت في السنوات الأخيرة معارضة شديدة من جانب الجماعات البيئية والعمالية وغيرها من جماعات المصالح العامة» 2.
أصبحت محاكم التجارة التابعة لمنظمة التجارة العالمية نموذجاً تستخدمه الدولة لآليات تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول. تمر أحجام هائلة من رأس المال العابر للقوميات عبر هولندا لأنّها تستخدم إجراءات مماثلة في اتفاقياتها الاستثمارية الثنائية مع العديد من البلدان. في العام 2017، احتلت هولندا المرتبة الأولى في مجموع الاستثمار الأجنبي المباشر في الخارج بقيمة 5.8 تريليون دولار، مقارنة بـ 5.6 تريليون دولار للولايات المتحدة (جاءت المرتبة الثالثة مجموع إجمالي الصين وهونغ كونغ بقيمة 3.1 تريليون دولار). إنّ احتلال هولندا المرتبة الأولى دليل صارخ على كيفية عمل الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب على نطاق عالمي، وليس وطني. وربما يكون أفضل مثال على ذلك صناعة الدفاع، وهي أكثر الصناعات «وطنية» على الإطلاق والممولة من الدولارات الضريبية. ومع ذلك، فإنّ 6 من أكبر 10 شركات أسلحة تحتفظ بهياكل قانونية في هولندا، وأكبرها (صاحبة نحو نصف الإنفاق الدفاعي السنوي) لديها عمليات مالية هناك.
ومن مفارقات دعم دول البريكس لمنظمة التجارة العالمية لتكون «قلب» النظام الدولي أنّ الولايات المتحدة قوضت محكمة التجارة من خلال عرقلة التعيينات الجديدة، ما عطّل قدرتها على العمل. فقد بدأت المشكلات حين حكمت منظمة التجارة العالمية ضد إدارة ترامب التي فرضت تعريفات جمركية على الصلب والألمنيوم الصيني. استأنفت الولايات المتحدة القضية، لكن الحكم لا يزال معلقاً لعدم وجود هيئة استئناف بسبب عدم وجود قضاة.
على نطاق أوسع، ارتأت إدارة ترامب، وكذلك إدارة بايدن، أنّ الولايات المتحدة في وضع أقوى عند التفاوض مع البلدان كل على حدة، بدلاً من استخدام محكمة تضم 7 قضاة عابرين للقوميات. لا تزال اللجان التجارية تؤدي عملها، لكن 65% من جميع القضايا تليها استئنافات، لم يعد لها الآن مكان تذهب إليه.
إذاً، لماذا تريد النخب الحاكمة في دول البريكس إعادة تنشيط منظمة التجارة العالمية حين كانت تلك المؤسسة الهدف الرئيس لحركة مناهضة العولمة، وحين تُستخدم محكمة التجارة في معظم الأحيان ضد الجنوب العالمي؟ يبدو في الظاهر أنّ البريكس تشكِّل كتلة مناهضة للولايات المتحدة. ولكن على مستوى أعمق، يقاتل أعضاؤها للدفاع عن السلطة المؤسسية العابرة للقوميات، خصوصاً مع نمو شركاتهم متعددة الجنسيات ورغبتهم في فرض فتح الأسواق ومقاضاة الحكومات. وهم لا يقفون وحدهم.
اتهم مجلس العلاقات الخارجية، وهو أهم مركز أبحاث مرتبط بالاستراتيجية الكبرى الأميركية، الولايات المتحدة بـ«حمل سلاح القتل» الذي قتلت به منظمة التجارة العالمية. ويعكس هذا الاختلافات بين النخب الاقتصادية والدولة الأميركية في خلال فترة من الاضطرابات والأزمات. يفضل قادة الشركات الدفاع عن العولمة والحدود المفتوحة وتدفقات رأس المال غير المقيّدة، بينما تسعى النخب الحاكمة المعنية بالاستقرار السياسي إلى تراجع جزئي عن العولمة وتعزيز السيطرة المركزية للدولة.
بين عامي 2016 وأيلول/سبتمبر 2023، رفعت دول الشمال العالمي 30 قضية ضد بلدان الجنوب العالمي، بينما بدأت بلدان الجنوب 11 قضية فحسب ضد الشمال. بالإضافة إلى ذلك، توجد 20 قضية بين بلدان الجنوب العالمي. واستخدمت الولايات المتحدة محكمة منظمة التجارة العالمية أكثر من أي دولة أخرى، حيث رفعت 29 قضية، بينما رفعت الصين 9 قضايا والهند 8 قضايا. إنّ حقيقة استخدام الشركات الأميركية منظمة التجارة العالمية أكثر من أي جهة أخرى هي السبب في اتهام النخب العابرة للقوميات الحكومة الأميركية «بقتل» محكمة التجارة. علاوة على ذلك، يكشف العدد الكبير من القضايا المرفوعة بين المصالح الاقتصادية في الجنوب العالمي عن عدم وجود أي كتلة مناهضة للغرب، بل يكشف بالأحرى عن المنافسة الرأسمالية المعتادة على حساب الطبقة العاملة والفقراء.
نضح إعلان جوهانسبرغ الثاني بالخطاب الداعي إلى نظام تجاري عالمي عادل وشامل ومنصف وقائم على التنمية المستدامة والنمو الشامل. ويتحدث عن حماية حقوق الإنسان وتعزيز السلام والتنمية ومكافحة الفساد. ولكن بالنظر إلى الحرب الروسية على أوكرانيا وانتهاكات حقوق الإنسان في الهند والصين، وكذلك بين الأعضاء الجدد إيران والسعودية والإمارات وإثيوبيا ومصر، فالنفاق صارخ.
وبعيداً من هذا النفاق، تبرز مشكلة أعمق أمام الاشتراكيين والنشطاء المناهضين للرأسمالية. ألا وهي الترويج لأيديولوجيا ترفض التناقض الأساسي بين رأس المال والعمل، وهو نوع من الديمقراطية الاجتماعية اليمينية يجادل بأنّ الرأسمالية الأفضل أفضل للطبقة العاملة – على غرار الشعار القديم «الجيد لجنرال موتورز جيد لأميركا».
ويوجد اعتقاد خاطئ بالمثل مؤداه أنّ الرأسمالية العالمية المشتركة على نطاق واسع يمكنها التحوّل إلى عالم مستدام بيئياً. وفي حين تعلن البريكس إيمانها بخلق «بيئة تنافسية عادلة»، فإنّها تلتزم أيضاً «بحقوق العمّال والعمل اللائق للجميع والعدالة الاجتماعية».3
لكن متى في تاريخ الرأسمالية أنتج النظام عملاً لائقاً وعدالة اجتماعية للجميع؟ في الواقع، يعتمد الكثير من نجاحها على العكس تماماً.
أيمكن للرأسمالية خلق نظام عالمي ليس إمبريالياً وعنصرياً واستغلالياً؟ هذا هو المسار الوهمي الذي سلكته دول البريكس – أو لعل قادة الدولة والشركات الذين يحكمون التجارة والأعمال على دراية تامة بالحاجة إلى خلق خطاب المساواة والعدالة للحفاظ على درع من الشرعية السياسية.
الصين ورأس المال العالمي
أبرز مروجي هذه الإيديولوجيا هو الحزب الشيوعي الصيني. وتتمثل استراتيجيته في «مصير مشترك للبشرية»، وهو نظام عابر للقوميات مربح للجميع وقائم على التجارة والاستثمار، و«ضرورة التزام جميع الدول والبلدان بالتعاون معاً، والتشارك في السراء والضراء، والعيش معاً في وئام، والتشارك في التعاون المفيد المتبادل». وهذا «التخطيط المستقبلي الرؤيوي لا يتحقّق من خلال الاشتراكية بل من خلال العولمة التي حسّنت تخصيص عوامل الإنتاج في جميع أنحاء العالم، بما فيها رأس المال والمعلومات والتكنولوجيا والعمل والإدارة... وهي تُخرِج الدول من العزلة ومن النموذج القديم للاعتماد على الذات، وتدمج أسواقها الفردية في سوق عالمية».
لكن الواقع أنّ العولمة أسفرت عن استغلال واسع النطاق للطبقة العاملة والفلاحين في الجنوب العالمي، وهشاشة العمال في الشمال. لكن الحزب الشيوعي الصيني يختزل الإمبريالية ببساطة إلى «التفكير المهيمن لبعض البلدان التي تسعى إلى التفوق»، أي الولايات المتحدة.
ومن الواضح أنّ الشيوعي الصيني يريد نشر تجربته إلى بقية العالم. لقد كانت العولمة ولا ريب قصة نجاح للصين، فحقّقت لها تنمية اقتصادية سريعة وخلقت بها طبقة متوسطة قوامها نحو 250 مليون إنسان. ويشمل نموذجها استثمارات موجهة من الدولة على الطريقة الكينزية، وكذلك سياسات العمل والسياسات المالية النيوليبرالية. لكن فكرة أنّ الرأسمالية العالمية ستخلق عالم الطبقة المتوسطة والسلام والاستدامة البيئية، أو حتى لديها القدرة المادية على القيام بذلك، لهي فكرة مضللة أشد الضلال.
الحال أنّنا نعترف بالطبقة المتوسطة الجديدة في الصين، لكن يجب أن ندرك أنّ الرأسمالية الغربية أيضاً أنتجت طبقة متوسطة كبيرة، وإنْ قامت على الإمبريالية في الخارج، وسيادة البيض في الداخل، واستغلال وحشي للعمل لعقود عديدة. لكن ما فازت به الجماهير من مساحة مدنية في الثورتين الأميركية والفرنسية سمح بمساحة كافية للتنظيم والنضال.
وقد حدث التقدم على وجه التحديد في «العصر الذهبي» للكينزية في خلال العقود الأربعة بعد الحرب العالمية الثانية. لكن هيمنة النيوليبرالية والعولمة أضعفت تلك المكاسب، فتقوضت الشرعية وخلقت عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي العميق الذي يتفشّى الآن في الغرب.
أما رفض العولمة فقد كان سببه التراجع عن التصنيع وفقدان الوظائف والنقابات الأضعف والأصغر وهشاشة العمل والتخفيضات الشديدة في العقد الاجتماعي. وما إلقاء اللوم على نجاح الصين في دفع الرأسماليين إلى نقل الإنتاج إلى الخارج إلا تكتيك لصرف الغضب المحلي واستعادة الشرعية السياسية.
على مدى الأربعين عاماً الماضية، جعل نمو الطبقة المتوسطة الصينية، مقارنة بالطبقة المتوسطة المتقلصة في الغرب، من الصين الرابح في إعادة الهيكلة العالمية. اعتمد نموذجها التنموي على الانفتاح على كميات هائلة من الاستثمار الأجنبي المباشر، وتبني ممارسات الأعمال والتكنولوجيا الغربية، لتصبح ورشة عمل العالم وتصدّر السلع الأساسية إلى جميع أنحاء العالم.
حدث ذلك من دون مغامرات استعمارية قديمة الطراز في الخارج. لكنه اعتمد على 300 مليون مهاجر ريفي يفتقرون إلى السكن اللائق والفرص التعليمية الجيدة أو الرعاية الصحية الكافية لتلبية احتياجات الاقتصاد الحضري من العمل الرخيص. كما اعتمد على إغلاق عشرات الآلاف من الشركات الحكومية، وتوحيد الباقي في شركات قوية عابرة للقوميات، وتشجيع رأس المال الخاص – ما خلق طبقة من أصحاب المليارات والملايين من أعضاء الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات. العمل الرخيص، وساعات العمل الطويلة، والأرباح الكبيرة، والنقابات الخاضعة لسيطرة الدولة، وشبكة الأمان الاجتماعي الضعيفة شكَّلت جميعها قصةَ نجاحٍ نيوليبرالية مثالية.
ومن مفرزات هذا التحوّل كان خلق طبقة متوسطة من أصحاب المشروعات والمهنيين في كل من القطاع الخاص وبين ملايين الموظفين الحكوميين في الحزب الشيوعي الصيني. علاوة على ذلك، حدث ارتفاع في مستويات معيشة القطاعات الأساسية للطبقة العاملة. وقد تحقق الكثير من ذلك من خلال التوجيه الاقتصادي للدولة وسياسات اجتماعية نيوكينزية، كالاستثمارات الضخمة والمتكررة في البنية التحتية.
فكرة أنّ الرأسمالية العالمية ستخلق عالم الطبقة المتوسطة والسلام والاستدامة البيئية، أو حتى لديها القدرة المادية على القيام بذلك، لهي فكرة مضللة أشد الضلال
لكنه تضمن أيضاً المضاربة المالية النيوليبرالية وساهم بأكبر وأسرع توسع عقاري في التاريخ، وشمل هذا القطاع حوالي 25% من الاقتصاد. ونُفِّذَ الكثير من أعمال البناء على أكتاف العمال المهاجرين ونفذته شركات خاصة، ما خلق ثروات للعديد من أفراد الطبقة البرجوازية الجديدة.
قامت الصناعة إلى حد كبير على الديون والمضاربة، على غرار أزمة الإسكان الأميركية في العام 2008. فقد اشترى ملايين من أبناء الطبقة المتوسطة الصينية منازل متعددة، مراهنين على إعادة البيع في المستقبل. كان هذا مشابهاً جداً للطبقة المتوسطة الأميركية التي اشترت وباعت منزلاً بعد آخر حتى انفجرت الفقاعة العقارية. بنى مطورو العقارات أكثر من اللازم، واشترى الصينيون من الطبقة المتوسطة أكثر من اللازم، والآن هذه السوق المضارِبة التي تضم ملايين الوحدات الفارغة ولا يوجد فيها أي مشترٍ تسبّب مشكلات كبيرة. تفيد بعض التقديرات أنّ عدد الوحدات السكنية الفارغة تساوي عدد سكان الصين البالغ 1.4 مليار نسمة. ومع غرق أكبر الشركات العقارية في الديون، باتت عاجزة عن سداد قروضها، ومعظمها بحوزة مستثمرين أجانب. ومن بين أكبر شركتين في القطاع، كان على كانتري غاردن 9.4 مليار دولار من الديون الخارجية، ومجموعة إيفرغراند 26.7 مليار دولار من الديون الخارجية. وبدءاً من العام 2021 وحتى تشرين الأول/أكتوبر 2022، تخلفت 66 شركة تطوير عقاري عن سداد ديونها، وثلثا ديونها بالعملة الأجنبية. وكان على 39 منها ديونٌ أجنبية بقيمة 117 مليار دولار – في دليلٍ على مدى ارتباط رأس المال العابر للقوميات بسوق العقارات الصيني.
بالإضافة إلى الديون العقارية الخارجية، يوجد 84.2 مليار دولار من الديون الخارجية مستحقة للحكومات المحلية. وهذه الديون في أدوات مالية حكومية محلية، تُستخدَم لاقتراض رأس المال للبنية التحتية المحلية والمشروعات العامة، وتصدُر في صورة سندات بالأساس وحقوق ملكية خاصة وكمبيالات.4 وهذا يكشف لنا، في مثالٍ آخر على التكامل العابر للقوميات، عن سبب أهمية الاقتصاد الصيني لكامل الهيكل المالي للرأسمالية العالمية.
وعلى الرغم من أنّ النخب السياسية كانت تدفع الشركات لتجنب الاعتماد المفرط على سلاسل التوريد الصينية، أو حتى الانفصال الكامل عنها، لم تُظهِر الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات أي ميل حقيقي للقيام بذلك. تكمن مفارقة الموقف في أنّ جزءاً كبيراً من المشكلة يقع بين الطبقة الرأسمالية الغربية العابرة للقوميات ونخبها الحاكمة، وليس بين الطبقة الرأسمالية الغربية العابرة للقوميات ونظيرتها الجنوبية.
فجماعات الضغط التابعة للشركات كانت تعترض باستمرار على تقييد التجارة والاستثمار. وبين العامين 2019 و2022، دفعت الشركات الأميركية أكثر من 150 مليار دولار على الرسوم الجمركية الصينية، وقاضى أكثر من 6,000 شركة الحكومة الأميركية لاسترداد ما دفعته.5 وفي رحلتها إلى الصين، صرحت وزيرة التجارة الأميركية جينا رايموندو، «لقد تحدثت شخصياً مع أكثر من مئة من رؤساء الشركات الأميركية قبل الذهاب إلى الصين، وليس من المبالغة القول إنّهم كانوا مستميتين للحوار مع الصين». علاوة على ذلك، تزامنت زيارة وزيرة الخزانة جانيت يلين إلى الصين مع رحلات بارزة لبيل غيتس وإيلون ماسك وتيم كوك، وتصريح كوك بأنّ أبل تجمعها مع الصين علاقة «تكافلية».
مع نمو الطبقتين المتوسطة والرأسمالية الصينية، وتزايد ثراء الدولة، كانت الطبقة المتوسطة والعاملة الغربية تتحرّكان في الاتجاه المعاكس. والتوتر السياسي والاقتصادي الناتج عن هذا التحرّك يشكّل الأساس للكثير من التدهور في العلاقة بين الولايات المتحدة والصين على مستوى الدولة. لكن العلاقة الاقتصادية العابرة للقوميات كانت ناجحة للغاية للطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الشمال والجنوب.
في حين أنّ النخب الحاكمة مهتمة بالشرعية السياسية، فإنّ نخب الشركات مهتمة بالأرباح. ويعمل الجناحان السياسي والاقتصادي للطبقة الحاكمة في انسجام في معظم الأوقات. لكن في أوقات الأزمات، يمكن أن تنفجر التناقضات حول مصالحهما الأساسية.
ولفهم العلاقة بين الصين والطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الغرب، علينا النظر في بعض البيانات الأساسية. في العام 2022، وظفت أكبر 100 شركة أجنبية في الصين 3 ملايين شخص، وحققت إيرادات بلغت تريليون دولار، وشكلت 7% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ومن بين أكبر 5 شركات كانت فوكسكون وفولكس فاغن وأبل وجنرال موتورز وإتش إس بي سي ومجموعة تشارون بوكفاند فودز الزراعية التايلندية. تبيع شركات صناعة السيارات الألمانية عدداً أكبر من السيارات في الصين يفوق مبيعاتها في جميع أنحاء أوروبا الغربية؛ وتبيع أبل عدداً أكبر من الهواتف في الصين يفوق مبيعاتها في الولايات المتحدة.
في الواقع، إنّ إيرادات الشركات متعددة الجنسيات الأميركية في الصين أكبر من إيراداتها المجمعة من اليابان وبريطانيا وألمانيا. ومن بين أكبر 100 شركة أجنبية، كان للولايات المتحدة أكبر وجود بـ36 شركة، تليها اليابان والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا.
وبلغ إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في خلال العام 2021 مبلغ 2.282 تريليون دولار. والشركات التي ذهبت بعيداً عن الصين لم ترجع إلى موطنها الغربي، بل ذهبت إلى فيتنام وماليزيا وبلدان أخرى في الجنوب العالمي. لذا، وبالرغم من حدوث تحول جغرافي صغير، فقد كانت النتيجة تعزيز وجود الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب خارج الصين.
من المهم أيضاً البحث في كيفية استخدام أفراد الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الصين والخارج النظامَ المالي العابر للقوميات لتحقيق المنفعة المتبادلة. تعد جزر كايمان القناة الأساسية عند الشركات الصينية متعددة الجنسيات لجمع رأس المال من خلال بيع الأسهم للمستثمرين الأجانب. وفي الواقع، تمثل الشركات الصينية الوهمية في جزر كايمان وبرمودا 60% من الأسهم الصادرة عبر جميع الملاذات الضريبية، و70% من الأموال الأجنبية المستثمرة في الصين.
تتجنب هذه الاستثمارات منع التعامل مع الصين عبر مجموعة معقدة من المناورات. فالشركات الوهمية لا تمثّل الملكية المباشرة في الشركات الصينية متعددة الجنسيات؛ في الواقع، لا تمتلك تلك الشركات أسهماً في الشركة الصينية. بل ستملك وحدة في الصين تسمى مؤسسة مملوكة بالكامل للأجانب ولديها عقود مع الشركة الصينية وحصص في الأرباح وصوت في العمليات.
ترسل هذه المؤسسات أرباحها إلى الشركة الوهمية في جزر كايمان، وبعد ذلك يمكن تمريرها إلى مستثمري الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في نيويورك أو لندن أو أي مكان آخر. يُعرَف هذا الهيكل بالكيان ذو المصلحة المتغيرة وتصنِّفه معايير المحاسبة الدولية في جانب حقوق الملكية.
يكتب الباحث في جامعة ستانفورد ماتيو ماجيوري: «حين تذكر مَن يستخدم الملاذات الضريبية، يخطر لك الأثرياء والشركات الكبيرة من البلدان المتقدمة. لكن الصورة تغيرت بشكل كبير في خلال السنوات العشر أو الخمس عشرة الماضية».
هذه أمثلة على مدى ترابط الرأسمالية العالمية، ويجب أن توازن أي تحليل يرفع التوترات الدولتية إلى مرتبة القوة الوحيدة المحفزة للعلاقات الدولية. لا يريد الصينيون ولا الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب تقويض الرأسمالية العالمية، فنجاحهم يعتمد على اندماجهم فيها.
مع نمو فائض رأس المال الصيني من مليارات إلى تريليونات، بدأت سياسة التوسع الخارجي، لتكون لا منفذاً لرأس المال المتراكم فحسب، بل ومنفذاً لطاقته الإنتاجية الزائدة في ميدان السلع الصناعية.
خيارات مَن؟
كما ذُكر سابقاً، يصدِّر الصينيون نموذجهم التنموي عبر استثماراتهم التريليونية في مبادرة الحزام والطريق. وتُغلَّف هذه السياسة بخطاب «الربح للجميع»، وحق البلدان في «الاختيار الحر» لنظامها الاجتماعي. تضع هذه السردية الأساس لعدم الانحياز. ولكن أيوجد حقاً ما يسمى سيناريو «الربح للجميع» في ظل الرأسمالية، وهي النظام القائم على استغلال العمل والإمبريالية؟
تتعامل الصين مع النخب الحاكمة البرجوازية والشركات الخاصة، بناءً على مبادئ السوق الرأسمالية. وهذا ربح للشركات الصينية المحتاجة إلى تصدير رأس المال الفائض والتعامل مع فائض الإنتاج من السلع. كما أنّه ربح متبادل لنخب الدولة والشركات في الجنوب العالمي المستفيدين من العلاقة. بالإضافة إلى ذلك، يزيد تطوير البنية التحتية من النشاط الاقتصادي وبالتالي يفيد العمال من خلال الوظائف والاقتصاد الموسع وتكوين طبقة متوسطة إدارية.
لطالما استندت الرأسمالية في شرعيتها إلى مثل هذا التوسع. لكن لب النظام بأكمله لا يزال يعتمد على أجهزته القمعية ونزع ملكية فائض القيمة من العمل. لن يكون النمو في الصين، الذي مكنته قاعدتها الاشتراكية السابقة، ممكناً في البلدان الأصغر.
يجب على اليسار أن يتجنب الغرق في ديمقراطية اجتماعية يمينية، والجدال حول المصالح المشتركة لرأس المال والعمل، أو أنّ الرأسمالية يمكن أن تؤدي إلى «مصير مشترك للبشرية». إذا اختزلنا رؤيتنا إلى دعم جهود الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب لتصبح أثرى وأقوى داخل الرأسمالية العالمية، فقد انحرفت استراتيجيتنا لتحرير الإنسان عن مسارها انحرافاً خطيراً.
ماذا عن المبدأ الصيني القائل بأحقية البلدان في «الاختيار الحر» لنظامها الاجتماعي؟ بالنظر إلى تدخل الإمبريالية الغربية التاريخي، بالعنف في أغلب الحالات، فإنّ حق الشعوب في تقرير نظامها الاجتماعي صحيح تماماً. لكن هذا ليس ما تعنيه الصين.
إذا اختزلنا رؤيتنا إلى دعم جهود الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب لتصبح أثرى وأقوى داخل الرأسمالية العالمية، فقد انحرفت استراتيجيتنا لتحرير الإنسان عن مسارها انحرافاً خطيراً
يتحدث الحزب الشيوعي الصيني عن العلاقات بين الدول في النظام العالمي الحالي. تتخذ الدول التي تسيطر عليها الطبقة الحاكمة الرأسمالية العديد من الأشكال، بما فيها شكل الدولة البرجوازية الديمقراطية والاستبدادية والنيوفاشية والثيوقراطية الرجعية. وخطاب الصين الشامل للجميع يمنح غطاءً للأنظمة الاستبدادية والثيوقراطية من أسوأ الأنواع. لا تعني الصين أنّ «الشعب» لديه الحق في الاختيار، بل حق الدول في تحديد كيفية تنظيم سلطتها واستخدامها. وحين تقمع الشرطة والجيش بعنف الحركات الجماهيرية، كما في إيران والسودان ومصر وبورما أو بيلاروسيا، فما «البلد» بالضبط؟ تعني لغة «البلدان» دعم الدولة ومَن يسيطر عليها.
يبدو المبدأ رائعاً مقارنة بالتاريخ الإمبريالي، لكن ماذا حدث لـ«الشعب يريد الثورة» أو حتى الشعب يريد الديمقراطية؟
لعل في دبلوماسية دولة لدولة منطقاً معيناً في السياسة الصينية. في عهد تشو إن لاي وماو، دافعت الصين عن الاستقلال وتقرير المصير والحق في التمرد. وحق الناس في التنظيم والإطاحة بالنظم الرجعية لا يعني دعم حق الإمبرياليين في القيام بذلك. إذ إنّ دعم الاستقلال ومعارضة العدوان الأجنبي مبدآن اشتراكيان. لكن هذا يختلف عن احترام اليسار «لحق اختيار» حكومة فاشية.
خاتمة
يرى الكثير من الجنوب العالمي في الصين قصة نجاح، كما يراها بالفعل كثر آخرون. ولكن أيمكن تكرار نجاحها الواسع النطاق نسبياً بين البلدان النامية؟
أمِن مساحة اقتصادية وبيئية داخل الرأسمالية لإنتاج مجتمع طبقة متوسطة عالمي مستدام؟ أم أنّ هذه السردية، المليئة بخطاب مناهض للاستعمار صيغ لاكتساب الشرعية، يغطي السياسات القمعية ويفتح الطريق لزيادة ثروة وقوة الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات في الجنوب؟
مع بلوغ الإمبريالية التقليدية منعطفاً تاريخياً ومع ظهور طبقة رأسمالية عابرة للقوميات في الشمال والجنوب، لدينا مزيج معقد من الخطاب والصراع القومي والعابر للقوميات.
نعرف العولمة بأنّها إعادة اقتسام العالم من خلال دمج وخلط رأس المال الوطني، بدلاً من إعادة اقتسام الأراضي الاستعمارية، أو إنشاء مساحة استراتيجية للاستقلال وعدم الانحياز. أما تعددية الأقطاب فهي بالأساس صراع من أجل المساواة بين الرأسماليين من مختلف المشارب والأيديولوجيات. قد يقلل ذلك من أهمية النظام القديم الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، ولكن في هذه العملية يجب أن نميز ما هو تقدمي تاريخياً وما ليس كذلك.
هل تعزز تعددية الأقطاب قدرة الدول على التطور بطريقة تفيد جميع الطبقات أو هي تعزز المساواة بين الرأسماليين وحرية إنشاء الأنظمة الاستبدادية كبدائل مقبولة ووجيهة للإمبريالية الأميركية؟ من منظور اليسار، تبدو الأممية البروليتارية أكثر ملاءمة من تعددية الأقطاب لتكون دليلنا الهادي.
في الثورة الأميركية، كان الاستقلال وتقرير المصير، من وجهة نظر رأسمالية، يتعلقان بحقوق الملكية. وكان المجتمع المدني والديمقراطية الشعبية تنازلات للجماهير الثورية، أي تنازلاً لجنودٍ هزموا الاستعمار البريطاني.
هل تقدم لنا اليوم السعودية وإيران وروسيا وغيرها من الدول الاستبدادية نوعاً من المجتمع المدني الديمقراطي؟ في خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية المناهضة للاستعمار، غالباً ما كانت البورجوازيات الوطنية منغمسة في الخطاب الوطني والاشتراكي والديمقراطي. تحقق بعض ذلك، بينما غرقت بلدان أخرى في الفساد وتوطيد العلاقات الرأسمالية.
لقد صار وعد باندونغ بعدم الانحياز وراء ظهورنا. فقد نضجت الطبقة الرأسمالية الجنوبية، وعناصرها الرائدة تؤلف أجنحةً من الطبقة الرأسمالية العابرة للقوميات، وتستند تعددية الأقطاب إلى هذه المرحلة الجديدة من التنمية.
نُشِر هذا المقال في Against The Current في عدد تموز/يوليو - آب/أغسطس 2024، وتُرجِم وأعيد نشره في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.