معاينة poverty

خرافة الحدّ من الفقر في ظل الرأسمالية

  • مجرد نجاة الملايين من الفقر مع انتشار الرأسمالية على مستوى العالم لا يثبت أنَّ الرأسمالية هي السبب وراء هذا التغيير، إذ أمكن لأنظمة بديلة أن تحقق إفلاتاً من براثن الفقر خلال الفترة الزمنية نفسها.

  • تُقوَّم الأنظمة الاقتصادية في النهاية وفقاً لمدى نجاحها في خدمة المجتمع الذي توجد فيه أو فشلها في ذلك. وتُحدِّد الطريقة التي ينظّم بها كلّ نظام إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها مدى نجاحه في تلبية الاحتياجات الأساسية لسكانه. فما مدى حسن أداء الرأسمالية الحديثة بهذا المعنى؟

منذ بداياته، أفرز النظام الاقتصادي الرأسمالي نقاداً له ومُحتفين به على حدّ سواء. هناك الذين شعروا أنّهم ضحاياه وهناك الذين شعروا بنعيم. وفي حين خرج الضحايا والنقّاد بتحليلات ومطالب ومقترحات للتغيير، خرج المنتفعون والمحتفون بخطابات بديلة تدافع عن النظام.

أثبتت حجج معيّنة فعالية واسعة ضد نقّاد الرأسمالية وفي حشد الدعم الجماهيري، وباتت عبارة عن خرافات أساسية تدعم الرأسمالية. ومن بين هذه الخرافات أن الرأسمالية حققّت الازدهار وحدّت من الفقر.

لطالما زعم الرأسماليون ومناصريهم الكبار أنّ النظام محرّكٌ لخلقِ الثروة. وأدرك تلك الحقيقة أنصار الرأسمالية الأوائل، مثل آدم سميث وديفيد ريكاردو، وكذلك منتقدوها الأوائل مثل كارل ماركس. الرأسمالية نظام بُني لينمو.

إن المنافسة القائمة في السوق بين أصحاب العمل الرأسماليين تجعل «نمو الأعمال» أمراً ضرورياً لبقاء تلك الأعمال في معظم الأحيان. والرأسمالية نظام مدفوع بمراكمة الثروة، لكن خلق الثروة ليس حكراً على الرأسمالية. فكرة أن الرأسمالية وحدها تخلق الثروة أو تفعل ذلك أكثر من غيرها من الأنظمة هي خرافة.

ما الأسباب الأخرى التي تقف وراء إنتاج الثروة؟ يوجد طيف كامل من المساهمين الآخرين. ولا يقتصر الأمر على النظام الاقتصادي وحده، سواء كان رأسمالياً أو إقطاعياً أو عبودياً أو اشتراكياً. يتوقف خلق الثروة على شتّى ظروف التاريخ (مثل المواد الخام أو الطقس أو الاختراعات) التي تحدّد إن كانت الثروة ستُخلق وبأي سرعة. وتقوم تلك العوامل جميعها بأدوار إلى جانب الدور الذي يؤدّيه النظام الاقتصادي القائم.

عندما انهار الاتحاد السوفياتي في العام 1989، زعم بعضهم أن الرأسمالية «هزمت» منافسها الواقعي الوحيد - الاشتراكية - وأثبتت أنها أعظم خالق ممكن للثروة. وقيل إننا بلغنا «نهاية التاريخ»، أقلّه في ما يتعلق بالأنظمة الاقتصادية. ولم يعد بوسعنا قط أن نتخيل أي شيء أفضل من الرأسمالية، ناهيك بتحقيق ذلك الشيء.

الخرافة هنا خطأ شائع ومبالغٌ في استخدامه. إذا كانت الثروة قد خُلقت بكميات كبيرة على مدى القرون القليلة الماضية مع انتشار الرأسمالية على مستوى العالم، فإنّ هذا لا يثبت أن الرأسمالية هي التي تسبّبت في نمو الثروة. ولعلّ الثروة نمت على الرغم من الرأسمالية. ولعلها كانت لتنمو أسرع مع نظام آخر. وتتضمن الأدلة واقعتين مهمتين. الأولى، هي أن أسرع نمو اقتصادي مقاساً بالناتج المحلي الإجمالي في القرن العشرين هو النمو الذي حققه الاتحاد السوفياتي. والثانية، هي أنّ أسرع نمو في الثروة في القرن الحادي والعشرين إلى الآن هو النمو الذي حقّقته جمهورية الصين الشعبية. وقد رفض هذان المجتمعان كلاهما الرأسمالية وعرّفا نفسيهما بفخر على أنّهما اشتراكيان. 

نظراً إلى تفوّق الصين الهائل من حيث مقاييس الفقر، يمكن القول أن انخفاض الفقر العالمي في العقود الأخيرة ناجمٌ عن نظام اقتصادي يصرّ على أنه ليس رأسمالياً بل اشتراكي

هناك نسخة أخرى من هذه الخرافة، انتشرت في السنوات الأخيرة، تزعم أن الرأسمالية تستحق الثناء على انتشالها ملايين البشر من أتون الفقر على مدى 200 إلى 300 عام الماضية. وفي هذه القصة، أن الثروة التي خلقتها الرأسمالية عادت على الجميع بمستوى معيشة أعلى مع غذاء وأجور وظروف عمل وأدوية ورعاية صحية وتعليم وتقدّم علمي أفضل. كما يُزعم أن الرأسمالية قدّمت أعطيات ضخمة للأفقر بيننا، وأنّها تستحق تصفيقنا لمثل هذه المساهمات الاجتماعية الرائعة.

تشبه المشكلة في هذه الخرافة المشكلة في خرافة خلق الثروة التي ناقشناها آنفاً. فمجرد نجاة الملايين من الفقر مع انتشار الرأسمالية على مستوى العالم لا يثبت أنَّ الرأسمالية هي السبب وراء هذا التغيير، إذ أمكن لأنظمة بديلة أن تحقق إفلاتاً من براثن الفقر خلال الفترة الزمنية نفسها، أو لشريحة أكبر من الناس بسرعة أكبر، لأنها نظمت الإنتاج والتوزيع بصورة مختلفة.

غالباً ما أعاق تركيز الرأسمالية على الربح توزيع المنتجات بهدف رفع أسعارها وزيادة الأرباح تالياً. وتعمل براءات الاختراع والعلامات التجارية للشركات التي تسعى إلى الربح على إبطاء توزيع كافة أنواع المنتجات بفعالية. ولا يمكن أن نعلم ما إذا كانت آثار الحوافز الرأسمالية تفوق آثارها في الإبطاء. والمزاعم التي مفادها أنّ الرأسمالية تعزّز التقدّم، في المجمل، بدلاً من إبطائه هي مزاعم أيديولوجية محضة. ذلك أن الأنظمة الاقتصادية المختلفة - بما في ذلك الرأسمالية - تعزّز التنمية وتؤخّرها بطرائق مختلفة وبسرعات مختلفة في أجزائها المختلفة.

لطالما عارض الرأسماليون وأنصارهم تدابير أُريدَ لها أن تحدّ من الفقر أو تقضي عليه. وغالباً ما عارضوا قوانين الحدّ الأدنى للأجور على مدى سنوات كثيرة، وحين مُرّرت مثل هذه القوانين، حالوا دون رفع الحد الأدنى، كما فعلوا في الولايات المتحدة منذ العام 2009. كما عارض الرأسماليون بالمثل القوانين التي تحظر عمل الأطفال أو تحدّ منه، وتقليص مدّة يوم العمل، وتوفير تعويضات البطالة، وإقامة أنظمة تقاعد حكومية مثل الضمان الاجتماعي، وتوفير نظام تأمين صحي وطني، وتحدّي التمييز بين الجنسين والتمييز العرقي ضد النساء والملونين، أو توفير دخل أساسي عالمي. قاد الرأسماليون معارضة الأنظمة الضريبة التصاعدية، وأنظمة السلامة والصحة المهنية، والتعليم المجاني الشامل من مرحلة ما قبل المدرسة إلى الجامعة. وعارض الرأسماليون النقابات على مدى السنوات الـ150 الماضية، وقيّدوا بالمثل المساومة الجماعية لطبقات واسعة من العمال. وعارضوا المنظمات الاشتراكية والشيوعية والأناركية التي هدفت إلى تنظيم الفقراء للمطالبة بالتخفيف من الفقر.

هذه هي الحقيقة: لقد تحقّق الحدّ من الفقر بالقدر الذي نراه غصباً عن معارضة الرأسماليين. وإسناد الفضل إلى الرأسماليين والرأسمالية في الحدّ من الفقر العالمي هو قلب للحقيقة. وحين يحاول الرأسماليون إسناد الفضل إلى أنفسهم في الحد من الفقر الذي تحقق على الرغم من محاولاتهم المعاكسة، فإنهم يعوّلون على جهل جمهورهم بتاريخ مكافحة الفقر في ظل الرأسمالية.

الحدّ من الفقر أنجزه نضال الفقراء ضد الفقر الذي أعادت الرأسمالية والرأسماليون إنتاجه بشكل منهجي

غالباً ما تستند المزاعم حديثة العهد بأنّ الرأسمالية تغلّبت على الفقر إلى إساءة تفسير بيانات معينة. على سبيل المثال، تعرف الأمم المتحدة الفقر المدقع بأنه دخل يقلّ عن 1.97 دولار في اليوم. وقد انخفض عدد الفقراء الذين يعيشون على أقل من 1.97 دولار في اليوم بشكل ملحوظ في القرن الماضي. لكن بلداً واحداً، هو الصين - أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان - شهد واحدة من أعظم حالات الانتشال من الفقر في العالم في القرن الماضي، وفاق الرأسمالية بما لا يُقاس في القيم الإجمالية جميعها. ونظراً إلى تفوّق الصين الهائل من حيث مقاييس الفقر، يمكن القول أن انخفاض الفقر العالمي في العقود الأخيرة ناجمٌ عن نظام اقتصادي يصرّ على أنه ليس رأسمالياً بل اشتراكي.

تُقوَّم الأنظمة الاقتصادية في النهاية وفقاً لمدى نجاحها في خدمة المجتمع الذي توجد فيه أو فشلها في ذلك. وتُحدِّد الطريقة التي ينظّم بها كلّ نظام إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها مدى نجاحه في تلبية الاحتياجات الأساسية لسكانه من الصحة والأمن والغذاء الكافي والملابس والمأوى والنقل والتعليم والترفيه لتحقيق توازن لائق ومنتج بين العمل والحياة. فما مدى حسن أداء الرأسمالية الحديثة بهذا المعنى؟

لدى الرأسمالية الحديثة الآن نحو 100 من الأفراد في العالم يمتلكون مجتمعين ثروة تفوق ما يمتلكه النصف الأدنى بأكمله من سكان هذا الكوكب (أكثر من 3.5 مليار نسمة). وللقرارات المالية التي يتخذها هؤلاء المئة الأغنى القدر ذاته من التأثير في كيفية استخدام موارد العالم شأنها شأن القرارات المالية التي يتخذها 3.5 مليار نسمة، هم النصف الأفقر من سكان هذا الكوكب. ولهذا السبب يموت الفقراء في وقت مبكر في عالم الطب الحديث، ويعانون أمراضاً لا نجهل كيف نعالجها، ويتضوّرون جوعاً بينما ننتج غذاء أكثر من اللازم، ويفتقرون إلى التعليم بينما لدينا وفرة في المعلمين، ويعيشون مزيداً من المآسي. فهل هذا هو الحدّ من الفقر؟

يمثّل إسناد الفضل إلى الرأسمالية في الحدّ من الفقر خرافة أخرى. فالحدّ من الفقر أنجزه نضال الفقراء ضد الفقر الذي أعادت الرأسمالية والرأسماليون إنتاجه بشكل منهجي. بل إن معارك الفقراء غالباً ما حظيت بعون منظمات الطبقة العاملة المناضلة، بما فيها المنظمات المناهضة للرأسمالية صراحة.

نُشِر هذا المقال(link is external) في Economy For All في 26 آب/أغسطس 2024 كمصدر مفتوح.

    ريتشارد وولف

    اقتصادي أميركي تركّز أعماله على الاقتصاد الماركسي والمنهجية الاقتصادية والتحليل الطبقي، هو أستاذ الاقتصاد الفخري في جامعة ماساتشوستس - أميرست، وحالياً أستاذ زائر في برنامج الدراسات العليا في العلاقات الدولية في جامعة نيوسكول في نيويورك. مُعدّ ومقدّم برنامج إذاعي أسبوعي بعنوان «Economic Update»، ومؤِّلف كتب عدّة منها «فهم الماركسية»، «الديمقراطية في العمل»، «المرض هو النظام: عندما تفشل الرأسمالية في إنقاذنا من الأوبئة أو من نفسها»، «فضيحة الرأسمالية: الانهيار الاقتصادي العالمي وماذا نفعل حيال ذلك»، «النظريات الاقتصادية المتنافسة: الكلاسيكية الحديثة، الكينزية والماركسية».