Preview الاقطاع التكنولوجي

الإقطاع التكنولوجي الذي قتل الرأسمالية

  • مراجعة لكتاب «الإقطاع التكنولوجي الذي قتل الرأسمالية» ليانيس فاروفاكيس، الذي يتناول دور شركات التكنولوجيا الكبرى وخصخصة مشاعات الإنترنت، بمساعدة أزمة العام 2008 التي دفعت البنوك المركزية إلى فتح سدود أموال الدولة، في بروز نوعٍ جديدٍ فائق القوّة من رأس المال.

في أكثر من مناسبة، أعرب يانيس فاروفاكيس، وزير المالية اليوناني الأسبق والمحاضر الاقتصادي ومؤلف عديد الكتب، عن أن اليسار يجيد نقد الرأسمالية لكنّه لا يجيد بالمثل اجتراح البدائل.

كتب فاروفاكيس في كتابه الأخير حاضرٌ مختلف: رسائل من حاضر بديل (2020) «حين صاغت مارغريت تاتشر عبارة «تينا» – قولها في الثمانينيات: «لا يوجد بديل» (there is no alternative) – ساورني الغضب لأنني شعرت في أعماقي أنها محقّة: فاليسار لم يكن لديه بديل موثوق أو مرغوب فيه للرأسمالية». لكن أتباعها لم يصمدوا طويلاً. وتابع قائلاً: «مع انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، شعرنا نحن اليساريون – الديمقراطيون الاشتراكيون والكينزيون والماركسيون على حد سواء – بأننا سنمضي أيامنا الباقية في الجانب الخاسر من التاريخ، وبالمثل في العام 2008، مع انهيار ليمان براذرز، رأى مَن يحمل الأيديولوجيا النيوليبرالية التاريخَ يثور بقوة مماثلة محبطةٍ للنفس».

لا تزال هذه الأيديولوجيا تهيمن على العالم الغربي – الناطق بالإنكليزية بكل تأكيد – ولكن الرأسمالية تحوّلت مرة أخرى بحكم ضرورتها وتطوّرها الحتمي على السواء. «إن التحوّل للرأسمالية في مقام التمويه للحرباء: من صلبها وآلية دفاعية في آنٍ»، بحسب فاروفاكيس في كتابه الجديد، الإقطاع التكنولوجي: ما الذي قتل الرأسمالية، الصادر هذا الأسبوع. «افترضتُ، خطأً، أن الرأسمالية لا يأتيها التهديد الحقيقي إلا من ظهور العمّال المنظّمين، لذا فاتني التحول الملحمي في عصرنا: كيف لخصخصة مشاعات الإنترنت، بمساعدة أزمة العام 2008 التي دفعت البنوك المركزية إلى فتح سدود أموال الدولة، أن تأتي بنوعٍ جديد فائق القوة من رأس المال».

افترضتُ، خطأً، أن الرأسمالية لا يأتيها التهديد الحقيقي إلا من ظهور العمّال المنظّمين، لذا فاتني التحوّل الملحمي في عصرنا: كيف لخصخصة مشاعات الإنترنت، بمساعدة أزمة العام 2008، أن تأتي بنوعٍ جديد فائق القوة من رأس المال

لقد تسبّب ذلك الطوفان من الأموال المطبوعة من حكومات مجموعة السبع لإبقاء البنوك المركزية واقفة على قدميها، وهي الطريقة الواضحة الوحيدة لإبقاء الاقتصاد الدولي على قيد الحياة، في ظهور تَجسُّدٍ جديد للرأسمالية. لم يكن هذا التَجسُّد الغاية النهائية، بل كان بمثابة نقلة إلى نظامٍ لن يغيّر الاقتصاد فحسب، بل تنظيم المجتمع أيضاً – السياسي والاجتماعي.

كتب على سبيل المثال مقالةً على موقع بروجكت سنديكيت في العام 2021 قال فيها: «الواقع أنَّ ميزانيات البنوك المركزية العمومية، وليس أرباحها، التي تدير النظام الاقتصادي، تفسِّر لنا ما حدث في 12 آب/أغسطس 2020. حين سمع المموِّلون الأخبار الكئيبة، قالوا لأنفسهم: «عظيم! سوف يطبع بنك إنكلترا، المذعور، المزيد من الجنيهات ويوجِّهها إلينا. حان وقت شراء الأسهم!». في مختلف أنحاء الغرب، تطبع البنوك المركزية الأموال التي يقرضها المموِّلون للشركات، والأخيرة تستخدمها لإعادة شراء أسهمها (التي انفصلت أسعارها عن الأرباح)».

كان هذا صحيحاً، ولكن شيئاً آخر كان يحدث أيضاً. فقد حلّت المنصّات الرقمية محل الأسواق كموقع لاستخراج الثروات الخاصة. وقع تحولٌ جذري حين أصيبت المجموعة الصاعدة من الحالمين التكنولوجيين –لاري بيج، وسيرجي برين، وبيل جيتس، ومارك زوكربرغ، وجاك دورسي، وإيلون ماسك، وآخرين – بخيبة أمل بسبب الإشراف الحكومي والتطورات التكنولوجية الأخرى في أدوات سيطرة الدولة وبدأوا في إدارة شكلهم الخاص من النجاح التجاري. وسرعان ما تحوّلت أحلامهم عن مشاعاتٍ جديدة إلى سوق عالمية ضخمة. وقد ظهروا فجأة على رأس قوائم الرأسماليين أصحاب الثروات الهائلة. إنهم بشائر توقعات فاروفاكيس بزوال الرأسمالية.

في كتابه الإقطاع التكنولوجي، يتمسك فاروفاكيس بمخطّطه السابق عن بديل رأسمالية القرن الحادي والعشرين الذي أطلق عليه مسمى النقابيّة الشركاتيّة: وهي ضرب من التطوير للمفهوم الألماني Mitbestimmung (الاشتراك في اتخاذ القرارات بين الإدارة والعمّال)، بالإضافة إلى عناصر مثل نظام مالي عالمي أخلاقي ينقل الثروة إلى الجنوب العالمي، وغير ذلك الكثير. ثم يستعرض ملخصاً واضحاً في الملحقات الختامية. يأخذنا فاروفاكيس عبر تاريخ الرأسمالية، ويعود بنا إلى الأساطير اليونانية، مستخدماً محادثة حيّة مع والده (ولو بعد وفاته) الذي عانى من السجن كمعارض للشمولية اليونانية. ومن حديث والده عن الإقطاع، قبل ظهور التصنيع، يأخذ الاستعارة التي سيعود إليها.

استخراج القيمة تحوّل بعيداً من الأسواق نحو المنصّات الرقمية، مثل فايسبوك وأمازون، التي لم تعد تعمل مثل شركات احتكار القلة التي تُركِّز الاستثمار في الإنتاج وتقصره عليه، بل تعمل بشكل أشبه بالملكيات الخاصة أو الإقطاعيات التي يرأسها لوردات الإقطاع القدامى

لكن ما يجعل القارئ أسير الكتاب هو موضوعه: تحليله المتكامل بدقة للتَجسُّد الأخير للرأسمالية الذي يسميه «الرأسمالية السحابية». يشير فاروفاكيس إلى أن استخراج القيمة تحوّل بعيداً من الأسواق ونحو المنصّات الرقمية، مثل فايسبوك وأمازون، التي لم تعد تعمل مثل شركات احتكار القلة التي تُركِّز الاستثمار في الإنتاج وتقصره عليه. بل تعمل بشكل أشبه بالملكيات الخاصة أو الإقطاعيات التي يرأسها لوردات الإقطاع القدامى الذين جمعوا ثرواتهم عن طريق المحاصصة في إنتاج الأقنان المربوطين إليهم.

يكتب فاروفاكيس: «للمرة الأولى في التاريخ، ينتج الجميع تقريباً رأس مال الشركات الكبيرة بالمجان». «هذا ما يعنيه تحميل الأشياء على فيسبوك أو التنقّل عبر خرائط غوغل». ويصف الإقطاع التكنولوجي بالتهديد الأكبر لغاية تاريخه على الديمقراطية الاجتماعية.

إن رأس المال السحابي – الكمية الهائلة من القيمة التي تتنقل عبر الإنترنت بنسب ضئيلة ومجزأة – من شأنه أن يؤدي إلى ظهور طبقة حاكمة جديدة. ويوضح فاروفاكيس أن هذه الطبقة الحاكمة سيتضح أنها ثورية، «إذ سوف تستغل رأسمالها السحابي لجعل البشرية بأكملها تقريباً تعمل لصالحها، إما مجّاناً أو مقابل أجر زهيد – بما في ذلك العديد من الرأسماليين. والأهم من ذلك، يا لها من خطوة إلى الوراء ستتضح عن هذا كله في إطار المخطط الأوسع لتحرير البشرية والكوكب من الاستغلال».

ومن ناحية أخرى، فإن الشركات التي يطلق عليها فاروفاكيس الشركات الثلاث الكبرى، بلاك روك وفانغارد وستايت ستريت، سوف تمتلك عدداً مذهلاً من الشركات الأميركية الضخمة المُنتِجة للسلع والخدمات الضرورية لعيش البشر. ويشمل ذلك شركات الطيران الكبرى وشركات تصنيع السيارات وشركات تصنيع الأسلحة والكثير من شركات وول ستريت وغيرها. تمثِّل هذه العمالقة الثلاثة المساهمَ الأكبر في قرابة 90% من شركات البورصة الأميركية، بما فيها إكسون موبيل وكوكا كولا وشركات التكنولوجيا مثل أبل ومايكروسوفت، حيث تدير الأسهم للمستثمرين الساكنين الذين يفضلون تفويضها التعامل مع مخاطر الأعمال. تبلغ استثمارات بلاك روك قرابة 10 تريليون دولار أميركي، و8 تريليون دولار أميركي لشركة فانغارد، و4 تريليون دولار أميركي لشركة ستيت ستريت. يشير فاروفاكيس إلى أنه بإجمالي 22 تريليون دولار، تغدو قيمة الدولار «بأصفاره الكثيرة خارج حدود التصور العقلي».

الشركات الثلاث الكبرى، بلاك روك وفانغارد وستايت ستريت، هي المساهمَ الأكبر في قرابة 90% من شركات البورصة الأميركية، وتدير الأسهم للمستثمرين الساكنين الذين يفضّلون تفويضها التعامل مع مخاطر الأعمال

لقد برز الإقطاع كاستعارة للتحول الاقتصادي في المجتمع الغربي منذ أقل من عقد من الزمان. وصار بسرعة أكثر من مجرد تعبير مجازي. والنظرية الأكثر رصانة حتى الآن وضعتها الأستاذة بجامعة هارفارد شوشانا زوبوف في كتابها الصادر في العام 2019 الموسوم عصر رأسمالية المراقبة: الكفاح من أجل مستقبل إنساني على الحدود الجديدة للقوة. وقالت: إذا كان الاحتباس الحراري يمثل تهديداً وجودياً لكوكب الأرض، فإن النمو المتسارع للمراقبة غير المنظمة، عبر تطور الإنترنت العالمي، يشكل تهديداً لرفاهيتنا السياسية والاجتماعية والنفسية – وبعبارة أخرى، لوجود المجتمع الإنساني كما نعرفه.

تؤكد زوبوف في كتابها أن «المزعج هو عودةُ التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية إلى مستواها زمن «الإقطاع» قبل الثورة الصناعية، ولكننا، نحن الناس، لم نَعُد. نحن لسنا فلاحين أميين، أو أقنان، أو عبيد. وسواء كنا «طبقة وسطى» أو «مهمّشين»... فنحن نعلم أننا نستحق الكرامة وفرصة عيش حياة هادفة. الأمر أشبه بمعجون أسنان وجوديّ، بمجرد إخراجه من علبته، لا يعود بالإمكان إرجاعه إليها مرة أخرى».

يغدو تخيل المستقبل أصعب من دون الدخول في عالم الخيال العلمي.

نشر هذا النص في The Monthly

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.