Preview ماركس الاخضر

اكتشاف ماركس الأخضر

  • مراجعة لكتاب «ماركس في عصر الأنثروبوسين: نحو شيوعية من دون نمو» تأليف كوهي سايتو الذي يقرأ أعمال كارل ماركس التي كتبها بعد 1868 عن العلوم الطبيعية ولم تنشر إلا مؤخّراً، ويخلص إلى أن نموذجه لمجتمع ما بعد الرأسمالية تغيَّر وتجاوز المركزية الأوروبية صوب شيءٍ أشبه بشيوعيةِ النمو المنخفض.

لطالما كان من المُستغرَب ألاَّ يقال سوى القليل عن السنوات الخمس عشرة الأخيرة من كتاباتِ ماركس قياساً إلى المراحل الأخرى من كتاباته. في المقابل، أصبحت أعماله المبكرة - لا سيّما النصوص غير المنشورة التي عُرفت تالياً باسم «المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844» و«الأيديولوجية الألمانية» - موضوعاً لدراسةٍ لا تنقطع بعد أن نشرها العلماء الروس. وبالمِثْل، أثبتت دفاتر الملاحظات الوافرة التي كتبها ماركس في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر في سياقِ إعداده لكتاب «رأس المال» (والتي حملت عنوان «الغروندريسة») أنها بمثابةِ منجمٍ فكري بالنسبة لأولئك الذين يسعون إلى الربط بين تأمّلاته الفلسفية الشابّة وتحليلاته الاقتصادية الناضجة. نشر ماركس المجلّد الأول من كتابه العظيم «رأس المال» في العام 1867؛  بحلول ذلك الوقت، كان قد كَتب بالفعل الجزء الأكبر من المخطوطات التي سيتم تحريرها بعد وفاته في المجلّدين الثاني والثالث.

ومع ذلك، تُعدّ السنوات اللاحقة الممتدّة من العام 1868 وحتى وفاة ماركس في العام 1883، الفترة الأقلّ إنتاجاً في حياته ومن ثمّ الأقل دراسة، على الرغم من أنه كان لا يزال يشتبك مع القضايا النظرية الملحّة. في خلال تلك الفترة، ركّز ماركس على القضايا المتعلقة بالمسارات المُحتملة للشيوعية، لا سيّما بعد العام 1871، عندما ازدهرت كومونة باريس لفترةٍ وجيزةٍ، قبل أن تُقمَع بوحشية. بعد بضع سنوات، كتب نقداً لبرنامجِ غوتا الذي قدّمه حزب العمّال الديمقراطي الاشتراكي الألماني، واستشهد فيه بشعارِ الاشتراكية الدائم: «من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته».

أراد الثوريون الروس أن يعرفوا ما إذا كان يعتقد أن الكومونات الريفية في الفترة القيصرية يمكن أن توفّر أساساً للاشتراكية وأن تسمح لروسيا بتجاوز الرأسمالية. وقد أجاب ماركس بأنه يعتقد أن هذا ممكن بالفعل

في سنواته الأخيرة، بحث ماركس عن الأدلة الأنثروبولوجية الخاصة بالعلاقات الاجتماعية المشاعية في مجتمعاتِ ما قبل الرأسمالية. وقرأ باستفاضةٍ عن الشعوب غير الغربية والسكّان الأصليين في العالم؛ قام عالم الأنثروبولوجيا لورانس كرادر لاحقاً بجمعِ الشروح الواردة ضمن هذه النصوص في «دفاتر كارل ماركس الإثنولوجية». جاء تحدِّيه الفكري الأخير من الثوريين الروس الذين أرادوا أن يعرفوا ما إذا كان يعتقد أن الكومونات الريفية في الفترة القيصرية يمكن أن توفّر أساساً للاشتراكية، ممّا يسمح لروسيا بتجاوز الرأسمالية تماماً. وقد أجاب ماركس بأنه يعتقد أن هذا ممكن بالفعل.

في كتابه «ماركس في عصر الأنثروبوسين» (مطبعة جامعة كامبريدج، 2023)، يعزو كوهي سايتو إطاراً نظرياً جديداً لماركس المُسنّ: شيوعية النموّ المنخفض. ويشبّه سايتو تفكير ماركس في تلك الفترة بحركة تقليص النمو الحالية، التي تعزو إلى اقتصاد ما بعد الرأسمالية القدرة على توفير مستوى جديد للرفاه الاجتماعي مع البقاء ضمن الحدود الطبيعية للمحيط الحيوي. لقد وُضِع بالفعل عدد من الكتب حول وعي ماركس البيئي ونقده «للصدع الأيضي» بين الطبيعة والمجتمع في ظل الرأسمالية. ومع ذلك، فإن أعمال سايتو - سواء في «ماركس والأنثروُبوسين» أو كتابه السابق «الاشتراكية البيئية لكارل ماركس» (مانثلي ريفيو بريس، 2017) - تتميَّز باستخدامها لمجموعةٍ وفيرةٍ من الملاحظات التي اِستقاها ماركس بعد العام 1868 من قراءاته في علم الأحياء وعلم النبات والكيمياء والجيولوجيا وعلم المعادن وغيرها من مجالات العلوم الطبيعية. في خلال العقد الماضي فحسب، أصبحت تلك الدفاتر مُتاحة كجزءٍ من الإصدار الثاني للأعمال الكاملة لماركس وإنغلز. بالاستناد على هذه الأعمال المتأخِّرة المكتشفة حديثاً، يسلِّط سايتو الضوء على بُعدٍ لم يكن مرئيّاً في السابق في فكر ماركس، في وقتٍ أصبح فيه عالمنا وشيكاً من الاشتعال.

إن أكثر حجج سايتو إثارةً للجدل (على الأقل بين بعض الماركسيين) هو تأكيده على تخلِّي ماركس بعد العام 1868 عن مفهومه الأولي عن المادية التاريخية. يؤكِّد سايتو أن كتابات ماركس المُسنّ تكشف عن قطيعة حاسمة مع كل سرديات التطور الخطيِّ التي يتقدّم التاريخ بموجبها في مراحلٍ يحدّدها تطوّر القوى الإنتاجية. تفترض هذه الأطروحة التي يُستشهد بها كثيراً، والتي لخَّصها ماركس بإيجازٍ في مقدّمة كتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» في العام 1859، أن التناقض بين علاقات الإنتاج الاجتماعية وتقدّم القوى الإنتاجية يُحيل العلاقات الاجتماعية إلى «قيودٍ»، ومن ثم «تبدأ حقبة جديدة من الثورة الاجتماعية». وبالنظر إلى روح الهيمنة على الطبيعة، وُصِف هذا التركيز على الإنتاجية باعتبارها قاطرة التغيير بـ«البروميثيِّ»؛ كما وُصف تصوّره المتعلّق بما تمثله التنمية الاجتماعية والاقتصادية بالأوروبيِّ النزعة. في هذه الفترة، كرّر ماركس افتراضات لا يرقى إليها الشكّ على نطاقٍ واسع: وهي أن التقدّم كان نتيجة الإبتكار التكنولوجي، وأن أوروبا الغربية تمثل نموذجاً للنمو في جميع أنحاء العالم.

يؤكد سايتو أن التحوّل الدراماتيكي يتجلّى في كتابات ما بعد العام 1868، ويكتب: «أخيراً، تخلّى ماركس عن النزعة العرقية والنزعة الإنتاجية، ونبذَ مخطّطه السابق للمادية التاريخية». يصف سايتو هذا التحوّل في فكر ماركس المُسنّ بأنه نوعٌ من القطيعة المعرفية، مستحضراً المصطلح نفسه الذي استخدمه لوي ألتوسِّير لوصف الوثبة الأولى لماركس في العام 1845 من الفلسفة إلى المادية التاريخية. اتضح ابتعاد ماركس بالفعل عن المفاهيم الإثنية للتطوّر الاجتماعي في دراساته عن المجتمعات غير الغربية، ولا سيّما في دفاتر الملاحظات العرقية ورسائله المتعلّقة بالكوموناتِ الروسية. كما يميط سايتو اللثام عن قيام ماركس في الوقت نفسه بتكثيف دراسته للعلوم الطبيعية بهدف تعميق نقده للصدع الأيضي للرأسمالية مع الكوكب. أصبحت الأشكال ما قبل الرأسمالية التي أسماها ماركس بـ«الشيوعية البدائية» محور التركيز بوصفها نماذج صغيرة لعلاقات المساواة الاجتماعية القائمة على الروابط المستدامة مع الطبيعة. يجادل سايتو بأنه بعد أن تجاوز النزعتين العرقية والإنتاجية، مات ماركس بعد أن وصل إلى موقف يتسق مع الموقف المعاصر لشيوعيِّيِ تقليص النمو.

يشبّه سايتو تفكير ماركس في تلك الفترة بحركة تقليص النمو الحالية، التي تعزو إلى اقتصاد ما بعد الرأسمالية القدرة على توفير مستوى جديد للرفاه الاجتماعي مع البقاء ضمن الحدود الطبيعية للمحيط الحيوي

رفضت الحركة البيئية الحديثة، التي ظهرت في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ماركس تماماً على اعتبار أنه من بقايا الفكر البروميثي الذي طابَقَ خطأً بين التقدّم الاجتماعي والسيطرة على الطبيعة. اعتبره الخُضر عموماً شخصية عفا عليها الزمن لا يملك سوى أفكاراً متحجِّرة بشأن الإنتاجية والتكنولوجيا. إن تَحوُّل الدول الاشتراكية المتحقّقة بالفعل إلى التصنيع مع التجاهل الأرعن للطبيعة، أو قيام النقابات العمّالية في الدول الرأسمالية بمنحِ الأولوية للمطالبة بالوظائف ومستويات المعيشة الأعلى على حساب البيئة، لم يساعد بلا شك. غالباً ما كان يُفترض أن الماركسية وحماية البيئة هما أيديوُلوجيتان سياسيتان متعارضتان، مما يعكس الانقسام بين الحركات الحمراء والخضراء التي استمرت حتى نهاية القرن العشرين.

حتى الاشتراكيون البيئيون الذين استخدموا مفاهيم ماركس في الدعوة إلى بدائل للرأسمالية كانوا لا يزالون متردِّدين في النظر إليه باعتباره مُنظِّراً بيئياً واعياً قد تُرشد أفكاره حركتهم. وكان من المقبول إلى حدٍّ كبير أن ماركس والماركسية بحاجةٍ إلى منظور بيئيٍّ مُطعَّم بنقد الاقتصاد السياسي – لكي يصير «أخضراً». وتمثّل أحد الاعتراضات الثابتة في أن ماركس قد أخفق في إدراك الحدود الطبيعية للنمو الاقتصادي ولم يأخذ في الاعتبار كيف يمكن لاستنزاف الموارد والدمار البيئي أن يهدِّد تراكم رأس المال. إن المجلة الاشتراكية البيئية «الرأسمالية، والاشتراكية، والطبيعة»، التي بدأت في العام 1988 في جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز، أدَّت دوراً مهماً في تخضير ماركس والماركسية. واقترح المحرِّر المؤسس للمجلة، جيمس أوكونور، أن «التناقض الثاني للرأسمالية» ينشأ عندما نأخذ في الاعتبار التكاليف المرتفعة الناجمة عن استغلال ظروف الإنتاج الطبيعية والاجتماعية. كان الافتراض السائد هو أن أفكار ماركس لا تشكِّل بحدِّ ذاتها أساساً كافياً للاشتراكية البيئية، إذْ كانت بحاجةٍ إلى أن تُعدَّل بمصادرٍ إضافية للتناقض وتُخصَّب بمنظورٍ أخضر.

إن الإجماع على افتقار ماركس إلى الوعي البيئي ينكسر بفضلِ عملينِ مهمين من الأبحاث المنشورة في مطلع القرن. أعاد جون بيلامي فوستر في كتابه «إيكولوجيا ماركس» (2000) النظر في تحوّله الفلسفي إلى المادية فيما يتعلّق بالطبيعة والعلم، وهو مسار فكري تتبَّعه فوستر إلى أطروحة ماركس الشاب حول أبيقور. وفي الوقت نفسه، أعاد كتاب «ماركس والطبيعة» (1999) لبول بوُركيت اكتشاف البُعد البيئي في تحليل ماركس للقيمة، مع التركيز على مساهمة الطبيعة في الإنتاج واحتمال حدوث أزمة ناجمة عن «الآثار الخارجية» للرأسمالية. ومن خلال استخلاص العناصر البيئية الكامنة في فلسفة ماركس واقتصاده، أصدر فوستر وبوُركيت تحديات تكميلية لمعاصريهما من الاشتراكيين البيئيين. وبدلاً من إضافة وجهة نظر بيئية إلى فكر ماركس، أصرّ فوستر وبوركيت على أنها كانت موجودة فعلاً طوال الوقت.

وعلى خطى فوستر وبوركيت، استخدمت أبحاث القرن الحادي والعشرين على نحوٍ خلاّق فكرة ماركس عن الأيض (الصَّدع الأيضي) لوصف التفاعل بين الطبيعة والمجتمع، فضلاً عن الصدع الذي تسبَّبت فيه سرقة الرأسمالية للأرض والعمّال على حدٍّ سواء. ومنذ ذلك الحين جرى الاستناد على نقدِ ماركس للصدع الأيضي في العديد من الدراسات المرتبطة بالقضايا البيئية الُملِّحة. قدَّم بحث سايتو بالاستناد إلى دفاتر الملاحظات المكتوبة بعد العام 1868 والمضمَّنة في الإصدار الثاني للأعمال الكاملة لماركس وإنغلز، مواد إضافية يمكن أن تقدّم فهماً أعمق لفكر ماركس البيئي. يحتوي القسم الرابع من الإصدار الثاني للأعمال الكاملة لماركس وإنغلز - وهو القسم غير المكتمل بعد - على شروحٍ ومقتطفاتٍ وتعليقاتٍ من دفاتر الملاحظات الشخصية لماركس. ويقدِّر سايتو أن ثلث هذه الدفاتر كُتب في السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياة ماركس؛ أكثر من نصف هذه الدفاتر مُكرّس لدراسة موضوعات من العلم الطبيعي.

عُرضت النتائج التي استخلصها سايتو من هذه المخطوطات في القسم الثاني من كتاب «الاشتراكية البيئية لكارل ماركس»، والذي فاز في العام 2018 بالجائزة المرموقة التي تُمنح للأبحاث الماركسية، جائزة دويتشر التذكارية. يعتمد كتاب «ماركس في عصر الأنثروبوسين» كذلك على دفاتر الملاحظات المتأخِّرة التي يحتوي عليها الإصدار الثاني للأعمال الكاملة لماركس وإنغلز، بيد أنه يتناول مجموعة واسعة من القضايا المتّصلة بحقلٍ فرعيٍ سريع الإزدهار في الأدبيات الماركسية والبيئة. طوَّر سايتو في البداية عدداً من هذه الأفكار أثناء تأليفه لكتابٍ سابق نُشر في اليابان بعنوان Hitoshinsei no Shihonron (رأس المال في عصر الأنثروبوسين) - وقد حقّق نجاحاً تجارياً مفاجئاً وبيعت منه نصف مليون نسخة.

يؤكِّد سايتو أن كتابات ماركس المُسنّ تكشف عن قطيعة حاسمة مع كل سرديات التطور الخطيِّ التي يتقدّم التاريخ بموجبها في مراحلٍ يحدّدها تطوّر القوى الإنتاجية

يتفاعل كتاب «ماركس في عصر الأنثروبوسين» بصورةٍ أكبر مع الأشكال الحالية للفكر البيئي الراديكالي، حيث يؤسِّس سايتو لقضية شيوعية النمو المنخفض. يبدأ سايتو بتتبع رفض وإعادة اكتشاف نظرية ماركس المتصلة بالأيضِ. ومن قراءته لكتاب رأس المال، يستخلص مفاهيم جديدة للصدع الأيضي، مُضفياً عليه ثلاثة أبعاد بالتوازي مع ثلاثِ طرق لتغيير، وليس لحلّ، الأزمات التي خلقتها هذه الصدوع. يوضح سايتو أن نقد ماركس البيئي لم يكن معروفاً لفترة طويلة، ويُرجع ذلك جزئياً إلى أن ديفيد ريازانوف، المحرّر الروسي للإصدار الأول للأعمال الكاملة لماركس وإنغلز، أهمل نشر دفاتر الملاحظات المتأخرة، واستبعد ما بها من شروحٍ معتبراً إيّاها «تحذلقاً لا يغتفر». ويعزو سايتو بعْث نظرية ماركس عن الأيض إلى الفيلسوف السياسي المجري استفان ميزاروس، بادئ الأمر في محاضرته التذكارية لجائزة دويتشر في العام 1971، ثم بصورةٍ أكثر منهجية في كتابه العملاق «ما وراء رأس المال» (1995). كما يؤكّد سايتو أن روزا لوكسمبورغ استخدمت بشكل صحيح فكرة الأيض في تنظير العلاقة الاستغلالية بين المراكز الرأسمالية والأطراف ما قبل الرأسمالية على الصعيد العالمي، على الرغم من أنها قدّمت هذا بالأساس كنقدٍ لكتاب ماركس رأس المال.

تشكل مسألة ما إذا كان ماركس وإنغلز يختلفان في تفكيرِهما بشأن الطبيعة والعلم موضوعاً للانقسام بين الماركسيين. إن المذهب الذي بدأ يتحجر في أواخر القرن التاسع عشر وضعهما على قدمِ المساواة، وتعامل مع إنغلز باعتباره شارحاً معصوماً لأفكار ماركس. ومع ذلك، أصرّ المنشقون الماركسيون الغربيون على وجودِ فروقٍ حاسمة. فعلى حين طبّق إنغلز الديالكتيك على معرفةِ الطبيعة ككل (وهو النهج الذي كرّسته لاحقاً الأيديولوجية الستالينية الرسمية للمادية الديالكتيكية)، استخدم ماركس الديالكتيك لتحليل الشؤون الإنسانية فحسب: شؤون المجتمع والتغير التاريخي.

يعثر الماركسيون البيئيون اليوم على قدرٍ من التماثل يفوق الاختلاف الموجود بين ماركس وإنغلز. على سبيل المثال، يجادل بوركيت بأنه «لم يتمكّن من العثور على اختلافٍ واحدٍ مهِّم في مناقشات ماركس وإنغلز المادية والطبقية المتعلّقة بالشروط الطبيعية». وبالمثل، يتعاطى فوستر مع تحليل إنغلز الديالكتيكي للطبيعة باعتبارهِ امتداداً منسجماً تماماً لفكرِ ماركس. بيد أن سايتو، على الناحية الأخرى، يلمح ظهور بعض الاختلافات المهمّة عند إعادة النظر في رأس المال على ضوء دفاتر الملاحظات المكتوبة بعد العام 1868 في الإصدار الثاني للأعمال الكاملة لماركس وإنغلز. والأهم من ذلك، يوضح سايتو كيف قام إنغلز بتحرير فقرة رئيسية في كتاب رأس المال، المجلّد الثالث، حيث ميّز ماركس في الأصل بين الأيض الاجتماعي والطبيعي في الزراعة. لقد حذف إنغلز عبارة «الأيض الطبيعي» وغيّر الإشارة من «التربة» إلى «الحياة». يؤكّد سايتو أن هذا التدخّل التحريري يدل على اختلاف أفكارهمَا عن فكرةِ الأيض، الذي اقتبسه ماركس من دراسات يوستوس فون ليبيغ عن استنزاف التربة في الزراعة الرأسمالية. ويخلص إلى أن إنغلز فشل في تقدير المركز الفكري لمفهوم الأيض الذي ميّز فكر ماركس في دراساته المتأخّرة للعلوم الطبيعية بشكل كامل.

كان جيورجي لوكاش أبرز المفكّرين الماركسيين الذين وجدوا مبرّراً للتمييز بقوّة بين منهج ماركس الجدلي ومنهج إنغلز. في كتابه الرائد «التاريخ والوعي الطبقي»، ألقى لوكاش باللائمة على إنغلز لسعيهِ إلى توسيع الديالكتيك بحيث يشمل معرفة الطبيعة، نظراً لأن ماركس كان قد قيَّد نفوذه في إطار العوالم الإنسانية الخاصة بالتاريخ والمجتمع. سيصبح التاريخ والوعي الطبقي نصّاً تأسيسياً للماركسية الغربية. بعد نشره في العام 1923، تعرّض لوكاش لهجوم من عقيدة الكومنترن. وكعضوٍ ملتزم في الحزب الشيوعي المجري، تراجع لوكاش في النهاية عن عددٍ من أكثر أفكار الكتاب هرطقة.

أصدر فوستر وبوُركيت تحديات تكميلية لمعاصريهما من الاشتراكيين البيئيين. وبدلاً من إضافة وجهة نظر بيئية إلى فكر ماركس، أصرّ فوستر وبوركيت على أنها كانت موجودة فعلاً طوال الوقت.

ومع ذلك، يتحدّى سايتو التأويل المهيمن للوكاتش باعتباره مفكراً أدَّى فصله المطلق بين المجتمع والطبيعة إلى وقوعه في نوعٍ من الازدواجية المنهجية والأنطولوجيّة. ويجادل بأن لوكاش استخدم بكفاءةٍ مفهوم الأيض بطرقٍ تتَّسق مع ماركس ويمكن تطويرها لتغدو أساساً لعلم البيئة الماركسي. وللحصول على أسانيدٍ نَصيّة، يشير سايتو إلى دفاع لوكاش عن التاريخ والوعي الطبقي في مخطوطة لم تُكتشف وتُنشر حتى العام 1996، بعنوان «الذيلية والديالكتيك». وهو يشدّد على أن مقاربة لوكاش للعلاقة بين الطبيعة والمجتمع كانت ديالكتيكية وليست ثنائية (في الهيغلية، تتطوّر الظروف الطبيعية والاجتماعية معاً بوصفها «وحدة الإختلاف» أو «هوية الهوية واللاّهوية»). بعد أن استخلص نظرية الأيض من «الذيلية والديالكتيك»، يقول سايتو إن لوكاش يقدّم بديلاً نقدياً لكلٍّ من الثنائية الديكارتية الكلاسيكية وواحديةِ الطبيعة والمجتمع التي برزت مؤخرَّاً رفقة الحركة الخضراء.

يتناول الجزء الثاني من كتاب «ماركس في عصر الأنثروبوسين» مجموعة من الأفكار التي تعالج عصر الأزمة البيئية العالمية الذي نعيشه. توفّر نظرية الأيض وعدم هوية الطبيعة الأساس لنقدِ سايتو لهذا الطيف من المفكّرين المعاصرين. الهدف المعتاد هو جيسون دبليو مور، الذي انتقد مفهوم الصدع الأيضي باعتباره نوعاً من الثنائية الديكارتية يُكرر تخطيطياً فكرة فصل الطبيعة عن المجتمع. كما يستهدف سايتو أنصار «إنتاج الطبيعة»، أي أولئك الذين يؤكّدون الأساس الاجتماعي لمفاهيمنَا المتعلقة بالقوى الطبيعية بينما يرفضون أو يقلّلون من أهمية الحدود البيئية للتطور الاجتماعي والاقتصادي.

نشأ هذا المنظور بين بعض الماركسيين الذين اشتبهوا في إصابة حركة حماية البيئة بالمالتوسيةِ الجديدة؛ أما اليوم، فقد اعتنقها من نصّبوا أنفسهم أنصار الحداثة البيئية، مثل أولئك المرتبطين بمعهد Breakthrough. على الرغم من أن هذا الفصل يستطلع مجموعة متباينة من الفكر البيئي، إلا أن سايتو يعالجها على أنها أشكال من «الأحادية» لأنها جميعاً تحل نظرياً ثنائية المجتمع والطبيعة بهذه الصورة أو تلك. ويقدّم نظرية الأيض باعتبارها طريقة ديالكتيكية فعّالة لصوغِ العلاقة بين الطبيعة والمجتمع: لا ينفصلا، ولا يمكن اختزال أحدهما إلى الآخر، وَيتطوّران بصورةٍ مشتركة ضمن علاقة مضمخة بالصراع والتناقض.

يتناول الفصل التالي من كتاب سايتو الرؤية الحالية لمجتمع ما بعد الرأسمالية والتي أطلق عليه اسم «الشيوعية الفاخرة المؤتمتة بالكامل». ويتصوّر الماركسيون من هذا المنظور عالماً مستقبلياً مليئاً بالوفرة والأشياء المجّانية، بمقدورهِ تقليل العمل البشري إستناداً إلى التقدُّم المُحرَز في الأتمتة والتقنيات الرقمية وتبادل المعلومات والذكاء الاصطناعي. يعترض سايتو مجادلاً  بأن ذلك يرقى إلى مستوى جديد من الاشتراكية الطوباوية يقع تحت تأثير إحياء الفكر البروميثيِّ بين بعض الماركسيين اليوم.

يقدّم نظرية الأيض باعتبارها طريقة ديالكتيكية فعّالة لصوغِ العلاقة بين الطبيعة والمجتمع: لا ينفصلا، ولا يمكن اختزال أحدهما إلى الآخر، وَيتطوّران بصورةٍ مشتركة ضمن علاقة مضمخة بالصراع والتناقض

إن رؤيتهم لمجتمعٍ مؤتمتٍ بالكامل قلّل إلى حد كبير من الحاجة إلى العمل، إنما تستمد إلهامها النظري من قسمٍ في كتاب ماركس الغروندريسة بعنوانِ «شذرة عن الآلات». في هذا القسم، يقترح ماركس أنه مع تزايد أتمتة الإنتاج في ظل الرأسمالية، تفقد الثروة المادية للمجتمع ارتباطها بالقيمة التي يخلقها العمل، وعلى حد تعبيره، «إن خلق الثروة الحقيقية يغدو أقل اعتماداً على وقتِ العمل وعلى حجم العمالة المستخدمة». ويحمل هذا التناقض بذور الأزمة التي قد تؤدّي إلى انهيار الرأسمالية. إن الأتمتة والاستثمار في رأس المال الثابت يفتحان تلقائياً إمكانيات جديدة لمجتمعاتِ ما بعد الرأسمالية، حيث يستطيع الناس الاستمتاع بمزيدٍ من وقتِ الفراغ في حين تتراكم المعرفة الجماعية في ما أطلق عليه ماركس «العقل العام».

يعترض سايتو على ذلك التصور للأتمتة والوفرة في مجتمعاتِ ما بعد الرأسمالية. ويوضح أن ماركس عدل سريعاً عن خط التفكير الموجود في «شذرة عن الآلات».  بداية من مخطوطاتهِ الاقتصادية في أوائل ستينيات القرن التاسع عشر، ميّز ماركس تمييزاً حاسماً بين الدّمجِ «الصوري» والدمجِ الحقيقي». ففي حين يشير الدمجِ الصوري إلى استغلال رأس المال لممارسات العمل الموجودة مسبقاً، يرمز الدمجِ الحقيقي إلى تحويلٍ أشْمَل للقوى الإنتاجية والعلاقات الاجتماعية التي تشكل نمط الإنتاج. وفي ظل شروط سيطرة رأس المال الفعليّة على العمل، يمثل تطوّر القوى الإنتاجية وسيلة للحدّ من مهارات القوى العاملة، وإخضاعها للمراقبة والانضباط الزمني مع وضعِ السيطرة على عملية العمل في أيدي الإدارة.

باختصار، إن الدّمج الحقيقي للعملِ في ظل رأس المال يتعارض أكثر فأكثر مع فصل علاقات وقوى الإنتاج بالطريقةِ التي فعلها ماركس في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر؛ وبدلاً من ذلك، تُدمج علاقات الهيمنة الاجتماعية في «الابتكار» التكنولوجي والتنظيمي. ويؤكّد سايتو أن ماركس بدأ يبتعد عن مفهومه المادي للتاريخ، والذي يفيد بأنه يمكن ببساطة مصادرة القوى المنتجة وتحويلها إلى أدوات للتحرّر. وعلى النقيضِ من ذلك، فإن الثورة على رأس المال تستلزم هدماً شاملاً وإعادة بناء للأسسِ التقنية والتنظيمية للمجتمع.

يكشف سايتو عن رؤيته الكاملة لشيوعيةِ تقليص النمو في الجزء الثالث والأخير من كتاب «ماركس في عصر الأنثروبوسين».  هنا، يعتمد على القسم الرابع من الإصدار الثاني للأعمال الكاملة لماركس وإنغلز: دفاتر ملاحظات ماركس المكتوبة بعد العام 1868 عن العلوم الطبيعية، والتي لم تُنشر إلا مؤخراً وظلَّت غير مترجمة. ويؤكد سايتو أن هذه الفترة تمثل «تحوّلاً كبيراً» في فكر ماركس المُسنّ الذي يبتعد عن وجهة نظره السابقة بشأن المادية التاريخية.  وهو يضع هذه الدفاتر في سياق بحث ماركس المُسنّ عن المجتمعات المشاعية غير الغربية (الدفاتر الإثنولوجية) ومراسلاته مع فييرا زاسوليِتش عن الكومونات الريفية في روسيا. ويخلص سايتو إلى أن نموذج ماركس لمجتمع ما بعد الرأسمالية تغيَّر في خلال هذه السنوات، حيث تجاوز زخارف المركزية الأوروبية والإنتاجية البروميثية صوب شيءٍ أشبه بشيوعيةِ النمو المنخفض.

الأتمتة والاستثمار في رأس المال الثابت يفتحان تلقائياً إمكانيات جديدة لمجتمعاتِ ما بعد الرأسمالية، حيث يستطيع الناس الاستمتاع بمزيدٍ من وقتِ الفراغ في حين تتراكم المعرفة الجماعية في ما أطلق عليه ماركس «العقل العام».

يعرض الفصل الأخير الشيوعية المنخفضة النمو بوصفها المستقبَل المحتمل للوفرةِ المشتركة، حيث سيتم تمييز مقياس الثروة بصورةٍ حاسمةٍ عن شكل القيمة السائد في الرأسمالية. نقطة الانطلاق هي فكرة ماركس عن التراكم البدائي: إن مصادرة المشاعات يمثل النفي الأوليِّ للتفاعل الأيضي بين الطبيعة والإنسانية. بينما تشكّل الثورة المناهضة للرأسمالية نفياً لهذا النفي، وتستعيد وحدتنا الأصلية مع الطبيعة على مستوى أرقى وعلى نطاق أوسع. وسوف يُعاد تعريف الثروة باعتبارها القيم الاستخدامية التي توفّرها الطبيعة والمجتمع، وليس باعتبارها «تكدّساً هائلاً من السلع»، على نحو ما كتب ماركس في السطر الأول الشهير من رأس المال. ففي حين تعمل الخصخصة والتسليع على خلق الندرة المصطنعة المتوطنة في الرأسمالية، فإن شيوعية تقليص النمو تستلزم وفرة من هذه الثروة الاجتماعية والطبيعية المشتركة. 

ومن هذا المنظور، يعيد سايتو النظر في بعض المقاطع الشهيرة لماركس عن الشيوعية. لقد فُهمت هذه المقاطع على نطاق واسع على أنها دليل على إيمان ماركس البروميثي بنموِ القوى المنتجة. وعلى وجه الخصوص، يمكن تفسير نقده لبرنامج غوتا، بدعوته الشهيرة لإشباع «كل حسب حاجته»، على أنها مطالبة بوفرةٍ مادية غير محدودة يستهلكها الجميع، بغض النظر عن القدرة الطبيعية. وبدلاً من ذلك، يؤكّد سايتو على إمكانيةِ قراءة هذا المقطع من منظور غير إنتاجي، معيداً تصوّر مقياس الوفرة طبقاً لما أسماه ماركس الثروة المشتركة أو التعاونية.

وبالمثل، يعيد سايتو تقييم نقاش ماركس الذي يُقتبس كثيراً عن الحرية والضرورة في رأس المال، الفصل الثالث عن «الصيغة الثلاثية». ومرة أخرى، غالباً ما يُفهم هذا المقطع على أنه مطالبة بتوسيعِ عالم الحرية عن طريقِ الأتمتة والسيطرة على الطبيعة، مما قد يؤدّي إلى تقصير يوم العمل وبالتالي تقليص عالم الضرورة. بيد أن سايتو يصرّ على أنه من الممكن تعظيم الحرّية ووقت الفراغ من دون زيادة القوى الإنتاجية في الوقت نفسه، ولا سيّما عندما ندرك أن التغلّب على الضرورة ليس مسألة حدود طبيعية فحسب، بل أيضاً مسألة تقشّف وندرة تفرضها الرأسمالية بصورةٍ مصطنعة. باختصار، يمكن استخلاص قراءات جديدة من هذه المقاطع الماركسية عندما تُفهم مقولات الوفرة والندرة والحرية والضرورة من حيث العلاقات الاجتماعية وتفاعُلنا الأيضي مع الطبيعة، بدلاً من من قَصرِ التفسير على القضايا الفنية الضيّقة المتعلّقة بالقدرة الإنتاجية.

«ماركس في عصر الأنثروبوسين» هو كتاب ذو أهمية هائلة بالنسبة للحظتنا التاريخية، لكنه بالتأكيد لا يخلو من عيوب. حجّة سايتو مقنعة من الناحية المنطقية، بيد أن أسانيده النصية ضعيفة؛  لقد توصّل إلى استنتاجات قوية بالاستناد إلى مقاطعٍ قصيرة من الأعمال غير المكتملة، وهو يعتمد كثيراً على تدخلات إنغلز التحريرية في مخطوطات ماركس. ولكن، على الرغم من الخطورة التي تحفّ بقراءةِ المخطوطات والدفاتر غير المكتملة، فالحقيقة أن ماركس ترك وراءه مجموعة كبيرة من الأعمال غير المكتملة (وربما غير القابلة للإكمال). إن الكشف عن أفكاره يمثل في حد ذاته عملية تاريخية، حيث اكتشفت أجيال مختلفة واستخلصتْ رؤىً من النصوص المجتزأة، دافعةً بها في حوارٍ مع تحدّيات وصراعات عصرها. لقد عثر الماركسيون على نسخةِ ماركس التي يحتاجون إليها في لحظتِهم الخاصة؛ ولا يختلف الماركسيون البيئيون اليوم عن ذلك.

 ففي حين تعمل الخصخصة والتسليع على خلق الندرة المصطنعة المتوطنة في الرأسمالية، فإن شيوعية تقليص النمو تستلزم وفرة من هذه الثروة الاجتماعية والطبيعية المشتركة

في العام 1907، احتفل أوتو باور بالذكرى الأربعين لكتاب «رأس المال، المجلّد الأول» من خلال التفكير في كيفية استفادته هو ومعاصريه، على عكس أسلافهم، من الوصول إلى المجلّدين الثاني والثالث المنشورين بعد وفاته. كان موضوع النقاش هو النمو السرطاني للرأسمالية إلى مرحلة احتكارية إمبريالية تخضع للتمويل الدولي والشركات المساهمة. بينما أصرّ التحريفيون مثل إدوارد برنشتاين على أن هذه التطوّرات تحكم على تحليل ماركس بالتقادم، ردَّ باور بأنه على العكس من ذلك، أصبح الفهم الأكثر الأغنى لمنهج ماركس الديالكتيكي ممكناً عبر تتبع الاعتماد المتبادل والتعقيد المتزايد لمقولاته مع تطوّرها عبر المجلّدات الثلاثة لرأس المال. شدّد باور على أن إعادة بناء منهج ماركس في علاقته بديالكتيِك هيغل يمثّل المفتاح للحفاظ على راهنية «رأس المال» في العصر الجديد.

وبعد عقودٍ من الزمن، كان اكتشاف ونشر المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 بمثابة الأساس الفكري للماركسية الغربية، وسوف يحدّد لاحقاً تلقِّي أفكار ماركس بين جيل اليسار الجديد. نُشرت الطبعة الكاملة لهذه المخطوطات، التي كتبت في باريس عندما كان ماركس في السادسة والعشرين من عمره، للمرّة الأولى باللغة الألمانية في العام 1932. وعندما قرأها واستوعبها باحثون مثل هربرت ماركوز، لم توفّر المخطوطات الحلقة المفقودة بين ماركس وهيغل فحسب، بل قدّمت كذلك بديلاً إنسانياً للماركسية السوفياتية. وليس من قبيل الصدفة أنْ قام باحثو الكومنترن بتجاهلها أو الاستخفاف بها معتبرين إيّاها أعمالاً غير ناضجة، وحُذفت لاحقاً من الطبعات الألمانية والروسية لأعمال ماركس وإنغلز الكاملة. ألقت الشرطة السرّية لستالين القبض على ديفيد ريازانوف، مؤسّس معهد ماركس إنغلز الذي كشف للمرّة الأولى عن مخطوطات العام 1844، واتُّهم بالتعاون مع الثورة المضادة للمناشفة، وتم ترحيله إلى معسكرات العمل القسري، وأُعدم في العام 1938. 

نُشرت الترجمة الإنكليزية الأولى للمخطوطاتِ الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 في العام 1959، في الوقت المناسب تماماً للتأثير على جيلٍ من مثقّفي اليسار الجديد في بريطانيا والولايات المتّحدة. قدّمت التأملات الفلسفية لماركس الشاب في باريس رؤية أكثر إنسانية للشيوعية، بقدر ما أرست الأساس لنقد الإغتراب في الحياة اليومية في ظل الرأسمالية.

بالنسبة للجيل الذي سعى إلى إحداثِ تغيير اجتماعي جذري ثم خاب أمله في الشيوعية، شكّلت المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 نوعاً من الوحي. وقد وجدت هذه المجموعة، التي نشأت في خضم ثراء غير مسبوق، أن مفهوم الاغتراب لا ينطبق على اغتراب العمل الذي عاشوه في العمل فحسب، ولكنه ينطبق أيضاً على التسليع المتزايد للاستهلاك وأوقات الفراغ والفضاء العام والوقت. لم تكن هذه الاكتشافات أقل من دعوةٍ إلى ثورةٍ في الحياة اليومية.

من الممكن تعظيم الحرّية ووقت الفراغ من دون زيادة القوى الإنتاجية في الوقت نفسه، ولا سيّما عندما ندرك أن التغلّب على الضرورة ليس مسألة حدود طبيعية فحسب، بل أيضاً مسألة تقشّف وندرة تفرضها الرأسمالية بصورةٍ مصطنعة

يتذكر مارشال بيرمان - المفكّر الماركسي الذي اشتهر بتشريحه للحداثةِ والتحديث في كتابه «كل ما هو صلب يذوب في الهواء» - قِصّة لطيفة: عندما كان مراهقاً في العام 1959، اشترى 20 نسخة من المخطوطات ووزّعها كهدايا في عيد حانوكا. يحكي بيرمان عن اليوم الذي دلف فيه إلى مكتبةٍ بالقربِ من Union Square في مدينة نيويورك ووجد أن سعر النسخة الواحدة يبلغ 50 سنتاً: «…لعدة أيام تالية، كنت أتجوَّل حاملاً معي كومة من الكتب، وكنت أشعر بسعادةٍ غامرةٍ لأنني سأقوم بتوزيعها على كل المحيطين بي. خذوا هذا! قلت، وأنا أضع الكتاب أمام وجوههم. سوف يسدِّد إليك لكمة. إنه لكارل ماركس، ولكن قبل أن يغدو كارل ماركس. سوف يُبيَّن لك كيف أن حياتنا كلّها خاطئة، بيد أنه سيجعلك سعيداً كذلك. هاتفني في أي وقت إذا لم تفهمه، وسوف أشرح لك كل شيء. عمّا قريب سيتحدّث الجميع عنه، وستكون أنت أول من يعلم».

في زماننا هذا، نستطيع القول إن سايتو يندرج في زمرةٍ من المفكّرين يبحثون عن كارل ماركس آخر، ماركس الذي يأتي بعد العام 1868. إذا كان ماركس قد كتب المخطوطات في نظر بيرمان قبل أن يغدو «ماركس»، فربّما نستطيع أن نقول إن سايتو كان يبحث عن ماركس الفترة اللاحقة.

شكّل نشر دفاتر ملاحظات ماركس المتأخرة فى الإصدار الثاني للأعمال الكاملة لماركس وإنغلز هديّةً للبحث العلمي في القرن الحادي والعشرين. تشمل قائمة النصوص الأساسية المتعلّقة بهذا الموضوع كتاب كيفن أندرسون «ماركس في الهوامش» (جامعة شيكاغو، 2010)، والذي اضطلع بإعادة بناء أفكار ماركس عن الاستعمار والعرق والقومية عبر فحص المخطوطات المتأخرة وأعماله الصحفية الأقل شهرة المتصلة بالمجتمعات غير الغربية. وبالمثل، ساهم كتاب «ماركس عن الچندر والأسرة» لهيذر براون (بريل، 2012) من خلال الاعتماد على «دفاتر ماركس الإثنولوجية» عن مجتمعات ما قبل الرأسمالية لإلقاء الضوء على وجهات نظره في النظام البطريركي واضطهاد المرأة. وكما هو الحال في المسائل البيئية، تُعدّ قضايا الاستعمار والعنصرية والجندر والسلطة الأبوية حاسمة من دون ريبٍ بالنسبة للحركات الاجتماعية في عصرنا. وعلى الرغم من أنه كان يُظنّ منذ أمدٍ طويل أنه لا يوجد لدى ماركس أيّ شيء مهمّ بصددها. ومرّة أخرى، يعمل الماركسيون على إحياء ماركس الذي نحتاج إليه في صراعاتِ اللحظة التاريخية الراهنة.

سرعان ما أصبحت الرؤية المتصلة بتقليص النمو المنطوية في كتاب «ماركس في عصر الأنثروبوسين» نقطة خلاف مركزية في اليسار. في العدد الصادر في صيف 2023، بادرت مجلة Monthly Review ــ المجلة الاشتراكية الموقَّرة التي يحرّرها حالياً جون بيلامي فوستر ــ إلى تأييد برنامجاً اشتراكياً بيئياً لتقليص النمو المخطّط والتنمية البشرية المستدامة. ومع ذلك، جُوبِهَ النمو المنخفض بخصومٍ لاذعين يواصلون التشديد على تطوير القوى الإنتاجية باسم الاشتراكية وشجب الاهتمام بالبيئة باعتباره شكلاً من أشكال التقشّف والترويج للفَناء. الأمر المختلف اليوم هو عودة ماركس كشخصيةٍ محوريةٍ في النقاش، أبعد ما يكون عن التقادم، فقد عاد كشخصيةٍ مُبجلة، سعى المتحاورون على جانبي النقاش المتعلّق بتقليصِ النمو إلى الحصول على تأييدهِ الفكري. إن مساهمة سايتو شديدة الإقناع، وسوف تثبت فعاليتها في التوفيق بين التحليل الماركسي والفهم الحالي لتقليصِ النمو. إن الأيام التي كان يُفترض فيها أن أفكار ماركس لا تتوافق مع حماية البيئة وأنها بحاجةٍ إلى التَّخضيرِ قد ولَّت لحسنِ الطالع، ويرجع الفضل في ذلك بصفةٍ كبيرةٍ إلى مساهمات سايتو. بيد أن الجدل الدائر بشأن تقليص النمو لم يُحسم بعد بطبيعة الحال، وسوف يستمر النضال من أجل إحياء قراءة ماركس التي في استطاعتها أن تسلّط الضوء بصورةٍ شاملةٍ على أزماتِ عصرنا.

نُشرِ المقال في Protean.