حين يتقاعد اللصوص
مراجعة لكتاب ديفيد غريبر «التنوير القرصانيّ أو ليبرتاليا الحقيقية»، الذي لا يركّز على قصّة القراصنة فحسب، بل يوضح كيفية وصولهم إلى مدغشقر وما خلّفته مستوطناتهم من آثار في المجتمع المدغشقري، حيث أسّسوا لأشكال من التنظيم الديمقراطي سمح بازدهار التمكين التجاري للمرأة، وبناء مجتمع أكثر مساواة من المجتمع القائم.
شأنها شأن العديد من الاختراعات العلمية الهامة الأخرى، صِيغَت أولى الوصفات الحقيقية للبارود في الصين. كان المزيج التقليدي من الكبريت والملح الصخري والفحم معروفاً منذ القرن التاسع على الأقل، وعَرَف الخيميائيون الطاويون - الباحثون عن الذهب والخلود - مستحضرات مماثلة منذ مئات السنين. ووردت الإشارات الأولى إلى البارود في «Zhenyuan Miaodao Yaolue»، وهو نص يُنسب في جانب منه إلى الخيميائي في القرن الثالث زينغ ين. وفيه يحذِّر من خلط الكبريت والزرنيخ الأحمر والعسل والملح الصخري معاً، إذ إنه مزيج قابل للاشتعال بدرجة خطيرة: مَن جرَّبه من الخيميائيين أحرقوا المباني وشيَّطوا لحاهم. كما تضمّنت قائمة الإجراءات الواجب تجنُّبها، بحسب زينغ، شرب الترياق المصنوع من الرصاص والفضة والزئبق والزنجفر[1] (يسبِّب الموت)؛ تناول الزنجفر المستخرج من الزئبق والكبريت (يسبِّب الدمامل والقروح)؛ شرب «عصير الرصاص الأسود»، وهو مشروب مقزِّز يزعم عالم الكيمياء الحيوية وعالم الصينيات جوزيف نِدام أنه «مستعلقٌ ساخنٌ من الغرافيت» على هيئة شراب مصنوع من نشارة قلم الرصاص. وبصرف النظر عن ماهيته، يبدو أن عصير الرصاص الأسود يُمرِض المرء أشدّ المرض، ومع ذلك لم يخطر على بال زينغ نفسه أن شخصاً قد يشرب البارود - اقتصر تحذيره للناس على التحذير من إحراق لحيتهم إذا عبثوا به. على أي حال، لم يكن زينغ سوى خيميائياً، وليس ملكاً على القراصنة من مدغشقر يقسم يميناً طقوسية على الأخوّة. ولأجل هذه الطقوس كان مشروب البارود ضرورياً.
بحسب غريبر فإن «شعوب مدغشقر كانت الأكثر مساواة»، ولم يجد علماء الآثار دليلاً مادياً على أي نوع من الدولة المركزية فيها فما من صروح عامة أو قصور، ولا دليل على أي نظام إدارة أو ضرائب، ولا أثر للجيش أو البيروقراطية
وثَّق المؤرِّخ الفرنسي الموريشي نيكولا مايور تلك الصيغة في العام 1806، وأعاد إيرادها الراحل ديفيد غريبر في كتابه «Pirate Enlightenment»، وقد دعت إلى خلط الصوان وحبيبات الرصاص والبارود ومياه النهر في درع مقلوب برأس السكين، ثم تؤخذ الشُربة مع الزنجبيل المنقوع في دم صاحب القسم. كان مايور، وهو تاجر رقيق متقاعد تحوَّل إلى مؤرِّخ، يروي طقوس تتويج شاب يدعى راتسيميلاو، نجل قبطان إنكليزي وأميرة مدغشقرية، نُصِّبَ في العام 1720 حاكماً لكيان سياسي جديد يدعى اتحاد بيتسيميساراكا يقع على الساحل الشمالي الشرقي لمدغشقر. تمركز الاتحاد في بلدة أمبونافولا، أو فولبوينت (ماهاليفونا اليوم)، وامتدّ على أكثر من أربعمئة ميل، ووحّد الأنظمة السياسية المحلّية من خلال مزيج من الحرب والديبلوماسية. ويُعتقد أن الاتحاد - في الغالب - صنعة راتسيميلاو الاستثنائي نفسه الذي ربّما كان في أواخر سنّ المراهقة عندما وصل إلى السلطة. في مرحلة الطفولة، زار راتسيميلاو إنكلترا، على الأرجح مع والده («القبطان توم»)، وتلقّى على الأقل تعليماً محدوداً. وفي الروايات التقليدية، يُحكى أنه صاحب رؤية مستنيرة سعى إلى جلب العلوم والآداب المعاصرة إلى أمة جديدة على شاكلة الدول الأوروبية. لكن يبدو أن استمرارية اتحاده استندت في الغالب إلى كاريزميته الشخصية. إذ بوفاته في العام 1750، بدأ الاتحاد في التفكّك، وبحلول أوائل القرن التاسع عشر كان قد اختفى.
ورواية مايور محفوظة في مخطوط في المكتبة البريطانية معنون بـ«Histoire de Ratsimilaho, Roi de Foule-pointe et des Betsimisaraka». والحال أن روايته ليست الحكاية الوحيدة عن ملوك وممالك القراصنة في مدغشقر، إلا أنها من روايات قلّة لم ينفرد الخيال في نسجها. كان مايور كاتباً موثوقاً: فقد عاش وعمل في الجزيرة لمدة خمسة وعشرين عاماً وجمع معلوماته من جنرالات راتسيميلاو ومقرَّبيه، كانوا حينها من كبار السن. كما أنه على معرفة بابن راتسيميلاو ووريثه. ولا ريب أن موضوع عمله كان شخصاً حقيقياً، ولا محالة أن اتحاد بيتسيميساراكا وُجِد على أرض الواقع - يطلق سكّان المنطقة على أنفسهم اسم بيتسيميساراكا إلى يومنا هذا. تعني الكلمة «الكثرة غير المنقسمة»، وبحسب غريبر الذي أجرى دراسةً ميدانية أنثروبولوجية في مدغشقر في أواخر الثمانينيات، فإنهم «أحد أكثر شعوب مدغشقر مساواة». لذا، ما من شكّ في أن شيئاً غير عادي على الصعيد السياسي قد حدث في شمال شرق مدغشقر في بداية القرن الثامن عشر، وأن له علاقة بالقراصنة وأحفادهم.
لكن من غير الواضح ما كان عليه ذلك الشيء على وجه الدقة. تركت ممالك مدغشقر الأخرى في ذلك العصر بصمة ملموسة واضحة، إلا أن علماء الآثار لم يجدوا دليلاً مادياً على أي نوع من الدولة المركزية في المنطقة: ما من صروح عامة أو قصور، ولا دليل على أي نظام إدارة أو ضرائب، ولا أثر للجيش أو البيروقراطية، في الواقع لا شيء يشير إلى أي انقطاع في أساليب الحياة القائمة على الساحل. اعتقد مايور ومن أتوا بعده أن راتسيميلاو كان خبيراً استراتيجياً عسكرياً بارعاً وصاحب رؤية سابقة لعصره، لكن رواياتٍ معاصرة أخرى تصوِّره محض زعيم محلّي بغيض، أو نائباً لملك آخر في مكان آخر من الجزيرة، أو حتى مساعداً لـ«ملك» قرصانيّ مختلف تماماً يسمى جون بلانتين. إنها صورة محيِّرة. يسأل غريبر «ماذا يستخلص المرء من كل هذا؟»
في كتابه «Pirate Enlightenment, or the Real Libertalia» يحاول غريبر الإجابة عن هذا السؤال. وكما يوحي العنوان، يرى غريبر أن في الحكاية ما يتجاوز توقّعات المرء المعتادة عن حلقة قصيرة في التاريخ المحلّي أو قصّة مبتذلة عن مملكة قراصنة مُتخيَّلة، فضلاً عن أن الكتاب يفيض بالمواد المبهرة: أحلاف دم وتسميمات، وسحرة وأميرات، ومدن قراصنة معزولة في جزر استوائية، وملوك محتالون يحكمون إمبراطوريات وهمية، وغيرها الكثير. علاوة على كل ذلك، لدى غريبر قضية ليطرحها مؤداها أن الأحداث على الساحل الشمالي الشرقي لمدغشقر قد تعيد صياغة فهمنا للتطوّرات الفكرية في عصر التنوير.
كانت مدغشقر في أواخر القرن السابع عشر حالة شاذّة. فبسبب بعدها من طرق الشحن، لم تُدمَج بالكامل في نظام التجارة الدولية في المحيط الهندي. وظلت خارج نطاق النفوذ المتزايد للقوى الأوروبية
كانت مدغشقر في أواخر القرن السابع عشر حالة شاذّة. فبسبب بعدها من طرق الشحن، لم تُدمَج بالكامل في نظام التجارة الدولية في المحيط الهندي. وظلت خارج نطاق النفوذ المتزايد للقوى الأوروبية: لم تكن ضمن اختصاص شركة رويال أفريكان البريطانية أو شركة الهند الشرقية، وفشلت محاولات الاستيطان السريعة فيها من قبل الهولنديين والفرنسيين مراراً وتكراراً. سيطرت على غرب الجزيرة ممالك كبيرة وقوية، وسكنها أيضاً التجّار السواحيلية والعرب المعروفون باسم أنتالاوترا («شعب البحر») الذين سيطروا على التجارة ذهاباً وإياباً مع زنجبار والبرّ الرئيسي الأفريقي. لكن الشرق، سيما الشمال الشرقي، كان أقل تطوّراً بكثير. لذلك لم يحظَ باهتمام القوى المحلّية وظل بعيداً من متناول القوى الأجنبية، ما جعله مكاناً مثالياً لاختباء القراصنة وتقاعدهم، بعدما أدركوا أن حركة الشحن البحري الثرية للغاية في المحيط الهندي والبحر الأحمر تعطي غنائم أكبر من نظيرتها في منطقة الكاريبي. لتبدأ في العقود الأخيرة من القرن السابع عشر أعداد كبيرة من القراصنة في التوقّف هناك، واتخذ أكثرهم زوجات مدغشقريات واستقروا وسط المجتمعات المحلّية. مع نهاية تسعينيات القرن السابع عشر، ربما كان بضعة آلاف من القراصنة قد اتخذوه مكان إقامة مؤقّتة أو دائمة، وامتلأ الساحل الشمالي الشرقي «بمستوطنات صغيرة للقراصنة» صار بعضها مدناً أو موانئ مهمّة.
أكبر تلك المستوطنات وأشهرها كانت سان ماري. وهذه تأسّست على يد قاتل مطلوب يدعى آدم بالدريدج، وكانت حصناً في جزيرة نوزي بارا الصغيرة، قبالة الساحل بالقرب من أمبونافولا. شكَّلت موطناً لما يصل إلى ألف شخص، الكثير منهم قراصنة أو قراصنة سابقون، وكانت بمثابة ميناء لإعادة تجهيز السفن ومحطّة إمداد لسفن القراصنة، ومكاناً لتوزيع المنهوبات. كما صارت محطّة توقّف دورية في «جولة القراصنة» الممتدّة من البحر الكاريبي إلى المحيط الهندي، وكان لبالدريدج نفسه تجارة مع رجل أعمال فاسد من نيويورك استخدم بيع وشراء الرقيق من مدغشقر غطاءً للتخلّص من المجوهرات والمنهوبات النفيسة. في النهاية نهبَ أبناء مدغشقر من البرّ الرئيس سان ماري في العام 1697، بعدما خرج بالدريدج في حملة غادرة لاصطياد العبيد.
بالعودة إلى أوروبا، انتشرت على نطاق واسع تقارير مدبجة عن مدن مثل سان ماري وشخصيّات مثل بالدريدج على شكل ثرثرات في المقاهي وفي الأدب الشعبي. كانت حكايات القراصنة جذّابة للغاية - وأثبتت ديمومتها - لدرجة يعتقد معها غريبر أنها شكّلت «أهم أشكال التعبير الشعري عند بروليتاريا شمال الأطلسي الناشئة التي أرسى استغلالها الأرضية للثورة الصناعية»: نوع من الأدب المضادّ الأناركي الفاتن أذهل الجمهور بحكايات مُسهبة عن الإجرام الدرامي وصناديق الكنوز والممالك الخارجة عن القانون التي أنشأها رجال ملعونون يبحرون تحت شعار الجمجمة والعظمتين المتقاطعتين. في بعض الأحيان حملت هذه الحكايات مضموناً سياسياً، إذ يزخر فولكلور القراصنة بالإشاعات والخيالات عن أنظمة سياسية جديدة أسّسها القراصنة في المناطق الاستوائية النائية. وقد صوِّرَت ممالك القراصنة الأسطورية مختلفة كل الاختلاف عن المجتمعات الأوروبية في ذلك الوقت: صوِّرَت في الغالب ممالك فاضلة انعدم فيها العوز والتسلّط، والمواطنون فيها متساوين وتوزّع كل الأشياء بينهم بالتساوي، وتقَرَّر الأمور السياسية فيها بالوسائل الديمقراطية.
يمكن وصف هذا التداول البسيط بين روّاد الحانات للأفكار المتعلّقة بالمساواة والملكية والعقد الاجتماعي والسلطة السياسية بأنه النسخة العامية لما سيصبح الموضوعات الأساسية لفكر التنوير. شبَّهَ دانيال ديفو المستوطنين القراصنة في مدغشقر بمؤسِّسي روما، وزعمَ مونتسكيو أن الإغريق كانوا في الأصل قراصنة، ويشير غريبر إلى أن الحكايات عن سياسة القراصنة كانت مألوفة للعديد من الكتّاب والمفكّرين في ذلك الوقت. كان القرصان بصفته طوباوياً جلفاً ملتزماً بالتحرّر من جميع القوانين والحكومات «إحدى شخصيّات عصر التنوير شأنه شأن فولتير وآدم سميث». (لا نريد إضفاء الرومانسية على القراصنة، إذ يمكن أن يكونوا عديمي الضمير والرحمة كما تشي سمعتهم التقليدية، وإن كان انعدام الضمير والرحمة في حالتهم على الأرجح أمراً عادياً بحسب معايير ذلك الزمن).
صوِّرَت ممالك القراصنة الأسطورية في الغالب ممالك فاضلة انعدم فيها العوز والتسلّط، والمواطنون فيها متساوين وتوزّع كل الأشياء بينهم بالتساوي، وتقَرَّر الأمور السياسية فيها بالوسائل الديمقراطية
كانت ليبرتاليا أو ليبرتاتيا أشهر ديمقراطية قرصانية في ذلك العصر، وهي مستوطنة أسطورية قيل إنها تقع في - أمِن مكان آخر غيرها؟ - مدغشقر. تظهر ليبرتاليا في «A General History of the Pyrates»، وهو مُصنَّف من مجلّدين عن القراصنة وأفعالهم نُشر في لندن في العام 1724 منسوب إلى «القبطان جونسون»، ولكن يُعتقد أن كاتبه في الغالب ديفو. يقدِّم الكتاب روايات مفصّلة عن هؤلاء القراصنة سيئي السمعة مثل هنري أفيري و«كاليكو جاك» راكام، وجميعهم باستثناء واحد يردون في السجّلات التاريخية.
والمستثنى هنا قرصانٌ فرنسي معروف باسم القبطان ميسو. ركب ميسو البحر بتشجيع من صديقه، وهو «كاهن خليع» يدعى قرة تشيولي كان قد صحبه في روما، وبحسب ما ورد في «General History of the Pyrates» فقد كانت نيّة ميسو من ركوب البحر «شنّ حرب مشروعة على العالم بأسره، لأنه أراد حرمانه من تلك الحرية التي كانت حقّاً من حقوقه بموجب قوانين الطبيعة».
على متن سفينته، فيكتوار، كانت الحرية والإخاء والمساواة هي القاعدة: عومل السجناء برفق، وحُرِّر الأفارقة المستعبدون وانضمّوا إلى الطاقم عن طيب خاطر، واتُخذت القرارات بالتوافق العام. بعد العديد من المغامرات في البحر، أسَّس ميسو وقرة تشيولي مستوطنة على ساحل مدغشقر: ليبرتاليا، أي أرض الحرية. أصبح سكّانها معروفين باسم الليبري، وطرحوا عنهم جنسيّاتهم ولغاتهم السابقة ليصبحوا «الوحدة من الكثرة». كان من المقرّر أن تكون حكومتهم «ديمقراطية الشكل، يكون الشعب في ظلّها صانع قوانينه والحكم فيها». ألغيت العبودية والدَّيْن المُنظّم، وقُسّمَت الأرض والماشية بالتساوي، على غرار قسمة غنائم القرصنة على متن فيكتوار. انتشرت الأنباء عن مجتمع ميسو الحرّ. فجاء العديد من القراصنة المشهورين الآخرين، بينهم هنري أفيري، للانضمام إليه قبل أن تتدمّر المستوطنة في النهاية على يد قبيلة مدغشقرية معادية.
وهذه كلّ القصة. لكن ما من دليل على وجود ميسو أو ليبرتاليا فعلياً، غير أن وصف الحياة على متن فيكتوار يلامس شيئاً من الحقيقة: بعض سفن القراصنة، على عكس السفن التجارية وسفن البحرية، تعمل وفقاً لمبادئ المساواة. فقد كانت تلك السفن محكومة بالتوافق في ظل غياب سلطة عليا يستأثر بها القبطان. وفي الغالب اتُخِذت القرارات جماعياً، حيث لا يتمتّع القبطان بسلطة قيادة خاصّة إلّا أثناء المعركة، بل إن بعض السفن كانت قد كتبت بنوداً تحدِّد شروط التوزيع العادل للغنائم. كما قد يتلقّى أفراد الطاقم تعويضات عن الإصابات. وكما في ليبرتاليا، قد تكون هذه السفن بوتقة تتشكَّل فيها الوحدة من الكثرة. ويعتقد غريبر أن لتلك السفن دور ربّما في «قيادة تطوير أشكال جديدة من الحكم الديمقراطي» في ذلك الوقت. يقول غريبر:
«تألفت أطقم القراصنة في الغالب من شخصيات بخلفيّات متباينة لديها معرفة بأنواع عدّة من الترتيبات الاجتماعية (قد تحمل السفينة الواحدة إنكليزاً وسويديين وعبيداً أفارقة هاربين وكريوليين كاريبيين وأميركيين أصليين وعرباً)، ولمَّا كان اجتماعُ هؤلاء في مواقف تُحتِّم الإنشاء السريع لبنى مؤسّسية جديدة، فقد التزموا بنوع من المساواة الاتفاقية ولهذا السبب كانوا - إلى حدّ ما - مختبرات مثالية للتجربة الديمقراطية».
مثل هذه الأمور المتعلقة بالواقع القرصانيّ غذَّت بالتأكيد الفولكلور عن جنّات القراصنة، لكنّها لم تكن بالكامل من نسج الخيال. لربّما لم تكن سان ماري بالدريدج أكثر من مدينة لصوص من دون نظام حكم حقيقي، لكنها في هذا الصدد حالة شاذّة. فقد جرّب القراصنة في مدغشقر تطبيق سياسات سفنهم على الشاطئ. وفي وقت ما في أوائل القرن الثامن عشر، أسّس ناثانيل نورث من برمودا مجتمعاً للقراصنة في أمبونافولا، المقرّ المقبل لاتحاد بيتسيميساراكا راتسيميلاو. حظي نورث، وهو «قرصان معارض وصاحب ضمير على غير المعتاد»، باحترام سكّان ساحل مدغشقر بصفته وسيطاً عادلاً في النزاعات المحلّية، وكان بحسب غريبر «صاحب جهود دؤوبة في تحويل الروابط الديمقراطية التي ظهرت للمرّة الأولى على متن السفينة إلى أشكال مُمكنة على الأرض»، بينها نظام قضائي مؤقّت يتميّز بمحاكمات عادلة لمجرمي المجتمع، مع هيئة محلَّفين تختارها القرعة.
على عكس السفن التجارية وسفن البحرية، تعمل سفن القراصنة وفقاً لمبادئ المساواة. فقد كانت محكومة بالتوافق في ظل غياب سلطة عليا يستأثر بها القبطان. وفي الغالب اتُخِذت القرارات جماعياً وحدِّدت شروط التوزيع العادل للغنائم
على الرغم من تعرّض سان ماري للهجوم، فقد ظلّت معظم المستوطنات الساحلية الأخرى على حالها. صار العديد من القراصنة المستوطنين الآن جزءاً من عائلات مدغشقر، وكان البعض يدافع عن الساحل ضدّ حملات اصطياد العبيد الأوروبية، في الغالب عن طريق سرقة سفن العبيد. لكن سكّان مدغشقر ظلّوا على الدوام يصنّفونهم غرباء، إلّا أن القراصنة صاروا عنصراً مهمّاً وشبه مندمج في المجتمع الساحلي. في الحقيقة، صار أحفاد القراصنة من جهة الأب والمدغشقريات من جهة الأم - أناس من أمثال راتسيميلاو - أرستقراطية عائلية في النهاية تُعرف باسم ملاطا (من «ملاطو») ثم زانا ملاطا («أبناء ملاطا»)، وبها لا تزال تُعرَف خلفة هؤلاء.
لكن اهتمامات غريبر لا تقتصر على قصّة القراصنة. بل يريد أن يوضح لنا كيف فُهِم وصولهم من وجهة نظر أبناء مدغشقر، وما خلّفته مستوطنات القراصنة من الآثار في المجتمع المدغشقري القائم. نحن على دراية بما يحدث عادةً لمجتمعات السكّان الأصليين حين يبدأ الأوروبيون ذوو الشعر الطويل المدجّجين بالسلاح استيطان أراضيهم، لكن غريبر يجادل بأن التفاعل بين المستوطنين القراصنة وأبناء الساحل المدغشقري كان معقّداً ومتوازناً إلى حدّ ما. فعلى الرغم من جاذبيتهم كأجانب غرباء، لم يكن للقراصنة رأس مال اجتماعي يُذكَر. غير أنهم حازوا أسلحة مفيدة والكثير من الحلية المنهوبة، وكان بوسعهم ممارسة تجارة النفائس مع القوى البعيدة. وحين لم يتورّطوا في الصراعات المحلّية الصغيرة، كان القراصنة - بصفتهم غرباء - في وضع يسمح لهم بالتفاوض بحيادية بين الأطراف المتحاربة. ومن المحتمل أن أشكال التنظيم الديمقراطي والعدالة المرتجلة عند هؤلاء كانت مفيدة في هذا الصدد. على أي حال، فبحسب رواية غريبر، كانت محصّلة تأثير استقرارهم في الساحل غير متوقّعة: ازدهار التمكين التجاري للمرأة، تبعه في اتحاد بيتسيميساراكا إنشاء ما كان إلى حدّ ما مجتمعاً أكثر مساواة من المجتمع القائم. لم تكن قوة المرأة ولا العلاقات الاجتماعية القائمة على المساواة في السابق سمة بارزة للحياة في مدغشقر على الساحل الشمالي الشرقي، شأنها شأن أوروبا في أوائل القرن الثامن عشر.
رأت المدغشقريات في وصول القراصنة فرصة اجتماعية واقتصادية جديدة. فالزواج من قرصان لديه مكتنزات من النهب يتيح للشابّة فرصة التحوّل إلى تاجرة مستقلّة، وأيضاً الهروب من قيود مجتمعٍ أبوي عنيف. (ومع أن ترتيبات الجنس والزواج كانت حرّة إلى حدّ ما في بعض مناطق مدغشقر، ففي الشمال الشرقي وبحكم التأثير التاريخي لزافي إبراهيم، وهو من النخبة الغيورة على الدين ولعلّه ينحدر من يهود اليمن أو الإسماعيليين، كانت النساء خاضعات لضوابط شديدة الصرامة). يقترح غريبر أنه من الأفضل لنا أن نقلب الرواية الأوروبية التقليدية: «لم يظهر الملاطا لأن القراصنة الأجانب استقرّوا في الساحل وتزوّجوا من مدغشقريات، بل لأن المدغشقريات انطلقن للعثور على رجال أجانب للزواج». بدأ القراصنة، من جانبهم، يرون في الزواج من مدغشقريات حلّاً مُمتازاً لمشكلة النهب المتكرّرة، إذ كان شركاؤهم الجدد في وضع يسمح لهم بتصريف المنهوبات التي كانت بغير هذه الطريقة صعبة التصريف.
يبدو أن هذا الترتيب أتاح للمرأة قدراً لا بأس به من الاستقلال الذاتي. وبالنظر لانعدام المكانة الاجتماعية للزوج القرصان، وعدم إجادته عادةً اللغة المحلّية، فقد تنازل عن جميع المسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية تقريباً لشريكته. أمّا المرأة، فبزواجها من قرصان يمكنها بضربة واحدة أن تحصل على التحرّر من سيطرة أسرتها والانتقال إلى وضع الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي وعلى ما يبدو الجنسي، مع غياب أقارب الزوج. صارت الموانئ والقرى الواقعة على الساحل أحياناً «مدناً نسائية»، حيث كانت التجارة والاتصالات مع العالم الخارجي تحت سيطرة فئة جديدة من التجّار «شكّلت العمود الفقري لمثل هذه المجتمعات... فما من قرار هام يمكن اتخاذه من دونهن». يعتقد غريبر أنه من خلال إلقاء نصيبهن مع الغرباء الأثرياء المرموقين، رأت المدغشقريات فرصة «لإعادة إنشاء المجتمع المحلّي» وفقاً لميولهن، «ونجحوا في فعل هذا مع إنشاء المدن الساحلية وتغيير الأعراف الجنسية والترويج الناجح لأطفالهن من القراصنة كطبقةٍ أرستقراطية جديدة».
المرأة بزواجها من قرصان يمكنها بضربة واحدة أن تحصل على التحرّر من سيطرة أسرتها والانتقال إلى وضع الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي وعلى ما يبدو الجنسي
ماذا عن راتسيميلاو، الملك المراهق المتنوّر؟ بعد تنصيبه بتوافق عام «رئيساً إلى الأبد» في أمبونافولا - تنصيبه استدعى طقس البارود، وهو مزيج من طقس الحرب المدغشقري التقليدي ونخب الرُم والبارود عند القراصنة - عُقِد عدد من الاجتماعات العامّة الكبرى لتقرير شكل حكمه. سمح راتسيميلاو للزعماء المحلّيين بمواصلة إدارة شؤونهم، وحصر تدخّله في التوسّط في النزاعات أو الشكاوى. وبعد حين، فُكِّكت التراتبيات الأرستقراطية الموجودة في الساحل، وصارت العشائر المحلّية المختلفة على قدم المساواة مع بيتسيميساراكا. هناك ظلوا متساوين اجتماعياً مثل الكثرة غير المنقسمة. وعلى الرغم من تراث راتسيميلاو وسمعته، فقد استُبعِد المالاطا والتجّار النساء والقراصنة من بلاطه ومداولاته. لكنه أبرم اتفاقيات معهم تمكّنهم من الحفاظ على وضعهم من دون تدخّل. من جانبهم، واصل الملاطا وأمّهاتهم الطَموحات عملية تقديم أنفسهم نخبة عائلية خارجية، وهو تطوّر أزال في النهاية تأثير المحافظ زافي إبراهيم على النساء. ومع أن كل هذا قد يبدو طريقة غير تقليدية لإدارة مملكة، فإنه خلال الثلاثين عاماً أو نحو ذلك من حكم راتسيميلاو القائم على عدم التدخّل، ساد سلام متواصل، وتوطّدت بيتسيميساراكا كشعب، وكان الساحل الشمالي الشرقي محمياً من الرقّ. ولا يزال عصره في نظر البعض عصراً ذهبياً.
يتمثّل اهتمام غريبر الأساسي في إظهار أن النشاط الفكري في القرن الثامن عشر لم يقتصر أبداً على الصالونات والمقاهي في العواصم الأوروبية: فقد كان الحديث عن السياسة والحقوق والديمقراطية يحتدم في أماكن بعيدة جداً. وفي بعضها - سفن القراصنة ومستوطنات القراصنة ومجتمع مدغشقر الساحلي، في مثال غريبر - لم تكن الطرائق الجديدة لتنظيم الحياة الاجتماعية مجرّد نقاشات فكرية بل تجارب حيّة وعملية. قد يكون لهذه الليبرتاليات الحقيقية تأثير كبير في ما حدث في نهاية المطاف في تلك الصالونات: يقدّم غريبر الكثير من الأدلة ليبين حدوث نقاشات عديدة محتدمة حول ما أنجزه أشهر الأبطال غير المعتادين في هذا العصر في معاقلهم البحرية.
إن توسيع الرؤية لجعل رجال مثل راتسيميلاو وناثانيل نورث أبطال التنوير غير الشرعي لهو محاولة تقويض شائقة للأرثوذكسية، بلا شك: حلقة استفزازية مفيدة من التاريخ من الأسفل تُظهر أن الأطراف كانت تتحرّك أسرع من المركز، مثلما هو الحال في كثير من الأحيان. لكن نقطة غريبر تتجاوز ذلك. لا يقتصر الأمر على أن قصّة التنوير تحتاج إلى تعديل لتعكس تعقيدها الحقيقي، بل إن الأساليب التقليدية للتاريخ العالمي بحاجة إلى إعادة تقويم عميقة. لم يكن أبناء مدغشقر مجرّد مضيفين منعزلين لممالك القراصنة، سواء كانت خيالية أو حقيقية: لقد انشغلوا بتجاربهم السياسية الخاصّة. لم يكن القراصنة مَن تولى القيادة، أو حتى أبناؤهم، بل أبناء الساحل المدغشقري هم من انخرطوا في حوار ثري وودّي لسنوات عديدة مع طاقم متنوّع من الغرباء القادمين من الأراضي البعيدة. يجب أن يُنظر إلى اتحاد بيتسيميساراكا على أنه «تجربة سياسية أولية للتنوير، وتوليف إبداعي بين حكم القراصنة وبعض العناصر المساواتية في الثقافة المدغشقرية التقليدية». كان الاتحاد جزءاً من شبكة التجارة والسياسة والفولكلور التي امتدّت على جميع أنحاء العالم وجعلت سكّان الساحل «فاعلين سياسيين عالميين بالمعنى الكامل للمصطلح».
والاعترافُ بمكانة مدغشقر القرن الثامن عشر في تاريخ التنوير لا يضطرنا إلى نسف قصّة أوروبا. فحين أظهر جوزيف نِدام لقرّاء الإنكليزية أن البارود قد اكتُشِفَ في الصين، لم يغيّر ذلك من قصّة استخدام البارود في أوروبا، خلا وضعه على أساس أدقّ وأمتع. يلاحظ غريبر أن «الإدانة الشاملة لفكر التنوير» الرائجة في بعض الأوساط «غريبة حقاً»، بالنظر إلى الموضوعات الراديكالية عند مفكّري عصر التنوير والمشاركة المباشرة للنساء وحقيقة أن العديد من مصادر الإلهام المُعترف بها كانت غير أوروبية. إذ افتراضك أن الشوفينية التاريخية للأوروبيين قد محت دائماً مساهمة أي شخص آخر يسهِّل من ذلك المحو: «كتاب من أربعمئة صفحة يهاجم روسّو لا يزال كتاباً من أربعمئة صفحة عن روسّو». بيد أن المطلوب تحوّل كامل في التركيز. ليس «تصفية استعمار» التاريخ - وهو مصطلح مبتذل وغير كافٍ، مستعار من معجم المؤسّسات البيروقراطية -، بل ثورة في فهمنا لعمقه واتساعه. فالعالم أكبر بكثير مما كان يحدث في باريس ولندن.
نُشِرت هذه المراجعة في London Review of Books.