الاقتصاد الماركسي تحت الاختبار
- مراجعة لكتاب «العالم في أزمة: تحليل عالمي لقانون الربحية عند ماركس»، لغوغلييلمو كارشيدي ومايكل روبرتس الذي يتناول الأزمة المالية العالمية لعام 2007-2009 وأسبابها الكامنة في توسّع الأمولة والسعي نحو الربحية.
كانت أزمة 2007-2008 المالية أشدّ الأزمات حدّة منذ الكساد الكبير. كانت الأزمة عالمية ونتائجها مدمِّرة بالنسبة للطبقة العاملة العالمية. وقد وجد الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد أنفسهم في موقف حرج. فهم لم يتوقّعوا الأزمة ولم يشتبهوا في إمكانية وقوعها حتّى. أفاد أنور شيخ أن روبرت لوكاس، المؤيد البارز للعقيدة الكلاسيكية الجديدة، قد صرَّح في عام 2003 «أن المسألة المركزية لتجنب الإنكماش قد تمَّ حلّها».
في مواجهة ارتباك التيّار السائد، انتبه قِلّة من الاقتصاديين الراديكاليين إلى علامات تُنْذِر بأمورٍ مقبلة. قدَّم أنور شيخ، الأستاذ في «ذا نيو سكول»، تفسيراً ماركسياً كلاسيكياً للأزمة، وعلى هذا الأساس توقّع توقيت الركود في فترة 2007-2008، مشيراً إلى أن الركود قد حدث «في الموعد المحدَّد تماماً». إن التراكم الرأسمالي عملية مضطربة تتخلّلها أنماط من الانتعاش والركود. ولكن هذه الدورات تتّسم بديناميكية طويلة الأمد. وكما يكتب كارشيدي وروبرتس في فصلهما الافتتاحي، فإن الفرضية الماركسية تفيد بأن «مفتاح فهم تعاقب فترات الانتعاش والانكماش، يكمن في حركة معدّلات الربح». والواقع أن الاتجاه العام طويل الأمد لانخفاض معدّل الربح كان هو السبب الحاسم وراء الأزمة المالية أثناء الفترة 2007-2008.
الفرضية الماركسية تفيد بأن «مفتاح فهم تعاقب فترات الانتعاش والانكماش، يكمن في حركة معدّلات الربح»ففي الحرب ضدّ العمل والمنافسين في السوق، تستثمر الشركات الرأسمالية، أكثر فأكثر، في وسائل الإنتاج مقارنة بالعمل. تصبح الأتمتة سلاحاً حاسماً في السعي لتحقيق الربح. فإن زيادة إنتاجية العمل (حجم الإنتاج خلال قَدْر معين من وقت العمل)، تقلِّل من كمية القيمة التي تخلقها كل وحدة انتاجية، وبالتالي تقلِّل من الربحية. تنهار ركيزة التراكم الرأسمالي، فتنفجر في أعقابها الأزمة. إن الأزمة الرأسمالية هي نتيجة متكرّرة لضرورة تحقيق الربح باستمرار. ويمكن للعوامل المضادة أن تلغي تأثير زيادة إنتاجية العمل على الربحية. إلا أنه على المدى الطويل، وبالنظر إلى الارتفاع في إنتاجية العمل، فإن معدل الربح سوف ينخفض.
إن كتاب «العالم في أزمة» هو مجموعة طموحة من المقالات، مع مساهمات لاقتصاديين من كل أنحاء العالم، مكرسٌ لتقديم الشواهد الملموسة التي تدعم الفرضية القائلة بأن ميل معدل الربح إلى الانخفاض هو السبب الكامن وراء الأزمة المالية العالمية في 2007-2008. كما يتطرق مؤلّفو الكتاب كذلك إلى قضية «الأمولة» التي كثر النقاش حولها من أجل توضيح الكيفية التي أسهمت بها هذه الظاهرة في الأزمة المالية.
أدّى الخراب الذي نتج عن الحرب العالمية الثانية إلى التوسّع الاقتصادي المعروف باسم العصر الذهبي للرأسمالية. وتشير الأدلة إلى أن الربحية عموماً، على نطاق عالمي، كانت في أعلى مستوياتها بعد الحرب. ثم انخفضت الربحية بين عامي 1965 و1982. في منتصف هذه الفترة، شهدنا ركوداً حادّاً بدأ في عام 1973. وبين عامي 1982 و1997، استجابت الشركات والدول الرأسمالية لأزمة الربحية من خلال تغيير شروط الإنتاج وإعادة توجيه الاستثمار نحو القطاعات غير المنتجة. هذه الاستراتيجية غبّ الطلب مع نتائجها قد سُمّيَت بأثرٍ رجعي بـ«النيوليبرالية».
على مستوى الإنتاج، كانت النيوليبرالية تعني تنشيط سلسلة من الاتجاهات المضادة في مواجهة انخفاض الربحية. أدّى التغيير التقني والأساليب «الجديدة» لضخّ العمالة الفائضة، مثل الإنتاج الهزيل، إلى زيادة معدّل الاستغلال ورخص وسائل الإنتاج. ولا يجوز لنا أيضاً أن نستخف بتأثير «العولمة». فقد سمح الاستثمار الرأسمالي في الجنوب العالمي ودمج مجموعات العمال غير الرأسماليين في سوق العمل بحالةٍ من «الاستغلال الوحشي».
استجابت الشركات والدول الرأسمالية لأزمة الربحية من خلال تغيير شروط الإنتاج وإعادة توجيه الاستثمار نحو القطاعات غير المنتجة. هذه الاستراتيجية غبّ الطلب مع نتائجها قد سُمّيَت بأثرٍ رجعي بـ«النيوليبرالية»غير أنه بالنظر إلى ضعف رأس المال الإنتاجي، تحوّل الاستثمار إلى القطاعات غير المنتجة (مثل العقارات والتمويل). وبعبارة أخرى، «إذا لم يتمكّن الرأسماليون من جني ربح كافٍ من إنتاج السلع، فسوف يحاولون جني المال بالمراهنة في البورصة أو شراء أدوات مالية أخرى». إن الأمولة- أي استبدال الائتمان بالمال وزيادة الاستثمار في رأس المال الوهمي بدلاً من رأس المال الإنتاجي- التي يدعمها تاريخ من أسعار الفائدة المنخفضة وإلغاء القيود، هي استراتيجية رأس المال لزيادة الأرباح. وهكذا، في السنوات الخمس والثلاثين الماضية، كان «التوسّع في السيولة العالمية بكل اشكالها (القروض المصرفية، الديون المضمونة بأوراق مالية، والمشتقات المالية) غير مسبوق».
ويمكن استخدام الائتمان والديون كأدوات لمواجهة انخفاض الربحية. ولهذا السبب «قبل انهيار عام 2008 كان هناك تراكم هائل في الائتمان للقطاع الخاص في الولايات المتحدة وقد بلغ أكثر من 300% من الناتج المحلي الإجمالي». وكما هو متوقّع، فإن العنصر الأكبر يتعلّق برأس المال الإنتاجي. بلغت ديون الشركات غير المالية في عام 2011 في الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة 113% من إجمالي الناتج المحلي. وعلى المنوال نفسه، فإن الاستثمار في رأس المال الوهمي، مثل المشتقات المالية وقروض الرهن العقاري الثانوية الشهيرة، قد سمح للشركات الرأسمالية بنشر أدوات المضاربة والتحوّط للتعامل مع عدم اليقين في أسعار الصرف وضعف الربحية.
ومن الممكن أن يخرج الائتمان ورأس المال الوهمي عن خطّ الإنتاج الرأسمالي. ونظراً لانخفاض الربحية، يميل رأس المال إلى المضاربة، وهي الحقيقة التي تفسِّر الزيادات الحادّة في الربحية قبل الانهيار مباشرة. إن اختلاف القيمة الاسمية لرأس المال الوهمي عن قيمة الأساسيات يؤدي إلى تضخم مصطنع في أسعار الأصول. وحين ينكشف الضعف فسوف يحدث انهيار هائل في أسعار الأصول. وهذا من شأنه أن يؤدّي إلى نشوء مشاكل في السداد والاستثمار والطلب الفعّال، الأمر الذي يؤدّي إلى الركود.
يجمع المؤلّفون على أن النيوليبرالية كانت ناجحة على المدى المتوسط لأنها أوقفت انخفاض معدّلات الربح. بيد أن التدابير الطارئة، على الرغم من أهمّيتها، تخسر في الأجل الطويل. وبالنسبة لسائر الدول التي شملتها الدراسة، ثمة انخفاض في الربحية وعلاقة ارتباط عكسية بين إنتاجية العمل والربحية. ويشير هذا الانخفاض إلى أن الأزمة المالية في الفترة 2007-2008 تمثّل نهاية «نجاح» النيوليبرالية في مواجهة القوى البنيوية المهيمنة. ولم يكن من شأن التغيير في الإنتاج وأَمَولة الاقتصاد الكلّي أن يلغي اتجاه معدّل الربح إلى الانخفاض، بل إنه ساهم في الواقع في ضعف الأساسيات وعدم اليقين السوقي اللذين شكّلا خلفية الأزمة المالية.
إن الأمولة- أي استبدال الائتمان بالمال وزيادة الاستثمار في رأس المال الوهمي بدلاً من رأس المال الإنتاجي- التي يدعمها تاريخ من أسعار الفائدة المنخفضة وإلغاء القيود، هي استراتيجية رأس المال لزيادة الأرباحتمثل هذه التوليفة من الأبحاث جهداً تزداد الحاجة إليه لتحديد التقديرات التجريبية للمقولات والاتجاهات الماركسية من أجل تقييم الفرضية. وثمة مساهمات، كتلك التي قدمها توني نورفيلد، توفّر رؤى حول صلة التمويل بالاتجاهات الطويلة الأجل. موطن آخر من مواطن قوة الكتاب يتمثل في تعزيز التفسير الماركسي في مواجهة الفرضيات المنافسة. على سبيل المثال، ينشر عمل خوسيه تابيا اختباراً يسمى «سببية غرانغر» لتحديد ما إذا كانت أنماط الربحية تسبق أنماط الاستثمار. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الحقيقة تُضعف الفرضية الكينزية القائلة بأن «الاستثمار، بشكل عام، يسبّب الربح».
إن التفسير الماركسي هو تفسيرٌ سببي. ولكن ليس من السهل التمييز بين الاستنتاجات السببية وبين العلاقة و/أو التوقّع. ويمكن تحديد الصعوبة في المفاضلة بين «الإنحياز والاختلاف». ونحن نحاول استخدام زيادة الإنتاجية «كمؤشر» لانخفاض الربحية. فإذا كان الانحياز يشير إلى الخطأ الذي ينتج عن تبسيط الافتراضات، والاختلاف يشير إلى الخطأ الذي تتسبب فيه حساسية النموذج إلى التقلّبات الصغيرة في السجل، إذن، هل مؤشرنا «مُبسِّطٌ»، أم «شديد الحساسية» للتشوّش والقيم المتطرفة؟ يوفّر التعلّم الآلي وسيلة عملية للتعامل مع مثل هذه المشاكل.
إننا نمرّ بلحظة حرجة بالنسبة للنيوليبرالية. لقد كان التعافي هزيلاً على أفضل تقدير، وتتكاثر التقارير عن اندلاع أزمة مقبلة. وتساهم المشاكل «المجرَّدة» المذكورة في خلق عدد كبير من الشرور. فنحن نعيش في عالم يتسم بتفاقم التفاوت والعسكرة والحكم البوليسي، وحيث تُنذر أزمات الهجرة والمناخ بالتطوّر إلى هلاكٍ جماعي في المستقبل المنظور. ولكن على الرغم من كل العلل التي تعاني منها الرأسمالية، فإنها لن تقوّض نفسها بنفسها. وهناك إمكانية متاحة لأن يلجأ رأس المال إلى أكثر الوسائل يأساً لاستعادة ديناميكيته. ويَعِد اليمين المتطرف بتكثيف المشروع النيوليبرالي وتحطيم القيود التي تحقّقت بشق الأنفس والتي تفرضها «الديمقراطية التمثيلية» و«الرأسمالية الخضراء».
والآن، أكثر من أي وقتٍ مضى، يدفع الاقتصاد السياسي باتجاه العمل الثوري.
نُشِرت هذه المراجعة في International Socialist Review.