Preview الاشياء مهمة

الأشياء مهمَّة

  • مراجعة لكتاب «العالم المادي» لإد كونواي الذي يحاجج من خلاله بفكرة رئيسية مفادها أنه على الرغم من كلِّ ما يقال عن أننا نحيا في عالمٍ يغدو أكثر فأكثر غير مادي وحيث تكمن القيمة الأكبر في العناصر غير الملموسة كالتطبيقات والشبكات والخدمات عبر الإنترنت، لا يزال كل شيءٍ يرتكز على العالم المادي والمواد الخام المستخرجة الذي من دونها لن يتمكن العالم من الاشتغال ولا رأسمال من التراكم.

«على الرغم من كلِّ ما يقال عن أننا نحيا في عالمٍ يغدو أكثر فأكثر غير مادي وحيث تكمن القيمة الأكبر في العناصر غير الملموسة كالتطبيقات والشبكات والخدمات عبر الإنترنت، لا يزال كل شيءٍ يرتكز على العالم المادي».  هكذا يبدأ إد كونواي، مُحرِّر الاقتصاد في قناة «سكاي تي في»، كتابه الصغير الرائع «العالم المادي».

يتلخّص موضوعه الأساسي في أنه «حين ننظر إلى الميزانيّات العمومية لاقتصادنا، والتي تكشف على سبيل المثال عن أن أربعة من كلّ خمسة دولارات في الولايات المتّحدة تأتي من قطاع الخدمات، بينما يُعزى جزءٌ ينحسر باستمرار إلى الطاقة والتعدين والتصنيع. بيد أن كل شيء تقريباً، بدءاً من الشبكات الاجتماعية إلى تجارة التجزئة إلى الخدمات المالية، يعتمد بالكامل على البنية التحتية المادية التي تيسّره وعلى الطاقة اللازمة التي تشغّله. من دون الخرسانة والنحاس والألياف الضوئية لن يكون هناك مراكز للبيانات ولا كهرباء ولا إنترنت. وأجرؤ على القول إن العالم لن ينتهي إذا توقّف تويتر أو إنستغرام فجأة؛ بيد أن القصة سوف تختلف تماماً إذا نفد منا الفولاذ أو الغاز الطبيعي على حين بغتة».

من دون الخرسانة والنحاس والألياف الضوئية لن يكون هناك مراكز للبيانات ولا كهرباء ولا إنترنت. وأجرؤ على القول إن العالم لن ينتهي إذا توقّف تويتر أو إنستغرام فجأة؛ بيد أن القصة سوف تختلف تماماً إذا نفد منا الفولاذ أو الغاز الطبيعي على حين بغتة

إن تفريق كونواي بين المادي وغير المادي ليست صحيحة بالطبع. وكما أوضحنا أنا وجي كارشيدي في كتابنا «رأسمالية القرن الحادي والعشرين»، فإن منتجات العمل الذهني هي منتجات مادية شأنها شأن الأشياء الموضوعية خارج عقولنا. يمكن للأفكار أن تتحوّل للاستخدام المادي وتغدو سلعة لرأس المال. والواقع كما قال ماركس، لا يعني ذلك أن هذه المواد الأساسية سوف تختفي، بل ستظل موجودة. عندما لا يوظّف أي عمل بشري لاستخدامها، عندها سينتهي للعالم.

والواقع أن كتاب كونواي يذكرك بأن كل الحديث عن أن «الأصول غير الملموسة» تمثل حالياً أهم أشكال الاستثمار لدى الرأسماليين، وأنه بالمستطاع أن نحصل على «رأسمالية من دون رأس مال»، هو محض هراء، أو على الأقل غير صحيح بالكامل في العالم المالي للولايات المتّحدة وغيرها من اقتصادات مجموعة السبع. لا يزال الجزء الأكبر من الاقتصاد العالمي يرتكز على إنتاج «الأشياء» من خلال عمل مليارات البشر لتحويلها إلى سلعةٍ.

«إنه في الواقع مكان جميل، عالمٌ من الأفكار. في العالم الأثيري نحن نبيع الخدمات والتنظيم والإدارة؛ نبني التطبيقات والمواقع الإلكترونية؛ ننقل الأموال من خانةٍ إلى أخرى؛ نتاجر في الأفكار والنصائح وقصّات الشعر وتوصيل الطعام. إذا هُدِمت الجبال على الجانب الآخر من الكوكب، فمن المستبعد أن يشكل ذلك أمراً مهماً هنا في العالم الأثيري». مع ذلك، يشير كونواي إلى أنه في العام 2019، استخرج العالم وحفر وفجَّر موادٍ من الأرض أكثر من كلّ ما قمنا باستخراجه منذ فجر البشرية وحتى العام 1950. «ولنتأمّل ذلك للحظة. ففي عام واحد استخرجنا موارد أكثر ممّا استخرجته البشرية طوال الشطر الأكبر من تاريخها، من الأيام الأولى للتعدين إلى الثورة الصناعية والحروب العالمية، وكل شيء». 

وبينما يتراجع استهلاك المواد في الدول ما بعد الصناعية مثل الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة، فإنه يرتفع بمعدّل مذهل على الجانب الآخر من العالم، في البلدان التي يستورد منها الأميركيون والبريطانيون معظم بضائعهم. ولا تنحصر تلك الموارد في الطاقة فحسب. لا يمثِّل النفط وغيره من أنواع الوقود الأحفوري سوى جزء صغير من إجمالي كتلة الموارد. ففي مقابل كلّ طن من الوقود الأحفوري، يستخرج العالم ستة أطنان من المواد الأخرى، معظمها رمال وأحجار، بالإضافة إلى المعادن والأملاح والمواد الكيميائية. يلاحظ كونواي أن «الأشياء مهمّة» بالنسبة لرأس المال والحكومات التي تمثِّل رأس المال.

في العام 2019، استخرج العالم وحفر وفجَّر موادٍ من الأرض أكثر من كلّ ما قمنا باستخراجه منذ فجر البشرية وحتى العام 1950

إن العالم المادي، كما يسمِّيه كونواي، لا يزال ركيزة الاقتصاد العالمي. «امزج الرمل والحصى مع الأسمنت، وأضف بعض الماء، فتحصل على الخرسانة. وهي بكلّ معنى الكلمة المادة الأساسية للمدن الحديثة. امزجه بالحصى والقار فتَحصُل على الأسفلت الذي تُصنع منه غالبية الطرق، أي تلك التي لم تُصنع من الخرسانة. من دون السيليكون لن نكون قادرين على صنع رقائق الكمبيوتر التي يستند إليها العالم الحديث. ذوِّب الرمل عند درجة حرارة عالية، وضع الإضافات المناسبة، وسوف تصنع الزجاج. لقد تبيّن أن الزجاج - الزجاج العادي والبسيط - هو أحد الألغاز العظيمة في علم المواد؛ فهو ليس سائلاً ولا صلباً وذو تركيب ذري، وهذا ما لم نفهمه بالكامل حتّى الآن. الزجاج الموجود في الواجهة الأمامية لسيّارتك هو الشكل البدائي فحسب، لأنه، عندما يُنسج الزجاج في خيوطٍ مقترنة بالريزين يتحوّل إلى ألياف زجاجية: وهي المادة التي تُصنع منها الشفرات الخاصة بتوربينات الرياح. وعند صقلها إلى أسلاكٍ رفيعة ودقيقة تتحوّل إلى ألياف ضوئية ينقل عبرها الإنترنت. وأضف الليثيوم إلى هذا المزيج أيضاً وسوف تحصل على زجاجٍ قوي ومرن؛ أضف البورون وستحصل على ما يُسمَّى بزجاج البوروسيليسات».

يحدِّد كونواي ست مواد رئيسية لا غير تقود الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين وهي: الرمال والملح والحديد والنحاس والنفط والليثيوم. إنها المواد الأكثر استخداماً والأعصى على الاستبدال. وفي الكتاب، يصطحبنا كونواي في رحلة عبر تاريخ تلك الموارد الرئيسية والتكنولوجيا المرتبطة بها.

من الرمال نحصل على جميع أنواع المنتجات، بدءاً من الزجاج إلى الألياف الضوئية: «من السهل أن نقنع أنفسنا بأننا جرّدنا عصر المعلومات من الخصائص المادية. مع ذلك، فلا مكالمات الفيديو، ولا عمليات البحث على الإنترنت، ولا البريد الإلكتروني، ولا الخوادم السحابية، ولا مجموعات صناديق البث ستكون ممكنةً من دون شيءٍ مادي». فمن الرمال يُصنع الإسمنت. «يوجد الآن أكثر من 80 طناً من الخرسانة على هذا الكوكب لكلّ شخص على قيد الحياة، أي ما مجموعه 650 غيغاطن في المجمل. وهو ما يفوق الوزن الإجمالي لكلِّ الكائنات الحيَّة على هذا الكوكب: كل بقرة، وكل شجرة، وكل إنسان ونبات وحيوان وبكتيريا، وكَائن وحيد الخلية. وكذلك تحتوي الرمال على السيليكون. وهو ينطوي على خصائص فريدة تمكّنه من التحوّل إلى زجاج. إنه ليس قوياً بما يكفي لتحمّل المباني في شكل خرساني فحسب؛ بل إنه المادة الأساسية لأشباه الموصلات كذلك».

وهنا ينكشف التناقض في إنتاج المواد الخام بواسطة رأس المال. تتركّز ملكية الرمال والزجاج والإسمنت ورقائق السيليكون ويسيطر عليها عددٍ محدودٍ من الشركات. على سبيل المثال، تقوم شركة TSMC التايوانية بتصنيع المعالجات لصالح شركة Apple أو Tesla أو شركات رقائق «fabless» مثل Nvidia وQualcomm (كلمة «fab» هي اختصار لمعمل التصنيع). وهي الآن واحدة من الشركات الأكثر قيمة في العالم. ولا يوجد سوى عدد قليل من الشركات القادرة على صنع رقائق السيليكون المثالية، ولا يوجد سوى موقع واحد في العالم قادر على صنع رمال الكوارتز الخاصة بالبواتقِ حيث تجري بلْوَرة تلك الرقائق.

ولا يؤدّي ذلك إلى تركّز الثروة في أيدي قلّة من الناس فحسب، بل يؤدّي كذلك إلى صراعات سياسية. تحتل شجرة الصنوبر الراتينجية في الولايات المتّحدة مكاناً رئيساً في إنتاج السيليكون الخاص بالرقائقِ الدقيقة. «فإذا حلقت فوق منجمي شجر الصنوبر بطائرة رشّ تحتوي على مسحوقٍ معين، يمكنك أن تنهي الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات والألواح الشمسية في غضون ستة أشهر». تقع شركة TSMC في قلب حرب الرقائق التي تختمر بين الولايات المتّحدة والصين، والتي تُعَد واحدة من السمات الرئيسية لمحاولة الإمبريالية الأميركية خنق اقتصاد الصين».

يوجد الآن أكثر من 80 طناً من الخرسانة على هذا الكوكب لكلّ فرد، أي ما مجموعه 650 غيغاطن في المجمل. وهو ما يفوق الوزن الإجمالي لكلِّ الكائنات الحيَّة على هذا الكوكب

هناك أيضاً ظاهرة الاحتباس الحراري، التي لا يتردّد كونواي في تذكيرنا بها. «تكمن لعنة الخرسانة في كونها واحدة من أكبر مصادر انبعاث الكربون على كوكب الأرض. وعلى الرغم من الاهتمام الكبير المنصَّب على المصادر الأخرى للغازات المسبِّبة للاحتباس الحراري العالمي مثل الطيران أو إزالة الغابات، يولّد إنتاج الأسمنت كمّيات من ثاني أكسيد الكربون أكبر ممّا يتولّد عن هذين القطاعين مجتمعين. ويساهم إنتاج الإسمنت بنسبة مذهلة تتراوح بين 7% و8% من إجمالي انبعاثات الكربون».

يوضح كونواي أننا باستخدام الملح نصنع مواد كيميائية رئيسة مثل كلوريد الصوديوم؛ الصودا الكاوية التي تستخدم في عدد لا يحصى من العمليات الصناعية، بما فيها صناعة الورق والألمنيوم، ولكن الأهم من ذلك ربما هو ما نستخدمه في صناعة الصابون والمنظّفات. عبر مزج الكلور القلوي بالملح نحصل على مياه شرب نظيفة وظروف معيشية نظيفة: الصابون والمنظّفات. من دون الصودا الكاوية، لن نتمكّن من صنع الورق، لأننا نستخدم المادة الكيميائية المساهمة في تحويل الخشب إلى ألياف. ومن دون كلوريد الهيدروجين لن نتمكّن من صنع الألواح الشمسية أو رقائق السيليكون. وهناك الكلور أيضاً لتنقية المياه.

بالانتقال إلى الحديد والصلب، يذكِّرنا كونواي أن هذه هي المعادن الوحيدة القابلة للصبّ والطّرْق للحصول على الشكل المرغوب، والأهمّ من ذلك كلّه صنع الأدوات. لا يوجد معدن آخر مفيد يتمتّع بمزيج القوّة والمتانة والتوافر نفسه. إذا كنت تعيش في اقتصادٍ متقدّمٍ مثل الولايات المتّحدة واليابان والمملكة المتّحدة أو معظم بلدان أوروبا، فهناك نحو 15 طنّاً من الصلب للشخص الواحد موجوداً في السيّارات والمنازل والمستشفيات والمدارس، وفي مشابك الورق في مكتبك، وفي أسلحة الجيش. والواقع أن كونواي يشير إلى الصلب كمقياس لمستويات المعيشة والتفاوتات التكنولوجية. وفي مقابل المستويات في العالم الغني التي تبلغ 15 طناً للفرد الواحد، يتوفّر للفرد في الصين نحو 7 أطنان من الصلب. وبالنسبة لفرد يعيش في أفريقيا جنوب الصحراء، يتوفّر أقل من طن واحد من الصلب للفرد. «إننا نتحدث مراراً عن فجوات الدخل بين الدول، ولكن ماذا عن عدم المساواة في السيليكون، وعدم المساواة في الأسمدة، وعدم المساواة النحاس. نعم، عدم المساواة في الصلب؟».

ثم هناك النحاس. «من دونه سوف نقبع في الظلام حرفيّاً. إذا كان الصلب يمثّل الهيكل العظمي لعالمنا والخرسانة هي لحمه، فإن النحاس هو الجهاز العصبي للحضارة وكذلك للدوائر والكابلات التي لا نراها قطّ، ولكن يستحيل للعالم أن يعمل من دونه». لا سبيل إلى توليد الكهرباء أو توزيعها من دون النحاس. حتى الألواح الشمسية تحتوي على كميات كبيرة من النحاس. باختصار، إذا كان ثمة تيّار كهربائي، فهو موجود في الغالب بفضل النحاس.

يُستخرج النحاس من أفقر البلدان في العالم، وتسيطر الشركات العالمية الغنيّة على استخدامه وإنتاجه الحيوي بدعمٍ من حكومات البلدان الفقيرة. ولا تزال سلسلة القيمة المضافة من تعدين النحاس إلى منتجات الاستهلاك الحديث قائمة. «أجهزة الآيفون اليوم هي أقوى بكثير من أجهزة الكمبيوتر الموجودة على متن مركبة أبولو التي نقلت الإنسان إلى القمر، أو تلك الموجودة في حاسوبك المحمول قبل بضع سنوات، بيد أن النحاس لا يزال هو نفسه النحاس».

حتى لو قمنا بإعادة تدوير كلّ ما قابل للتدوير من الأنابيب والأسلاك القديمة، فسوف نظل نعاني من نقصٍ شديد في ما نحتاج إليه

ويشير كونواي إلى أمرين تناولتهما نظرية القيمة لدى ماركس، من دون أن تعرف عنهما شيئاً بالطبع. «مع استمرار ارتفاع كمية المواد التي نستخرجها من الأرض وتحوَّل إلى منتجات غير عادية، تنخفض نسبة الأشخاص اللازمة للقيام بذلك». وعلى هذا، هناك ارتفاع مستمرّ لما أطلق عليه ماركس التركيب العضوي لرأس المال. والثاني هو أن الإنتاج الرأسمالي لا يأخذ في الاعتبار ما يسمِّيه الاقتصاد السائد «الآثار الخارجية»، أي «الأضرار الجانبية» التي تلحق بالبيئة بالنسبة للبشر وسائر الكوكب. «لا توجد حسابات بيئية أو تحليل لتدفق المواد تأخد في الاعتبار المعادن المكرّرة. وحتى بمقاييس الأمم المتّحدة المتعلقة بحجمِ تأثير البشر على الكوكب، فإن هذه النفايات الصخرية لا تؤخذ بالاعتبار».

والواقع أن كونواي يعود إلى ملاحظته عن التناقض بين السعي للحصول على المزيد من الموارد المادية وتأثيره على البيئة. «إن تقليص أثر الكربون سوف يعني زيادة أثر النحاس. والخبر السار هنا هو أن بعض هذه المواد يمكن أن تأتي من إعادة التدوير. أما الخبر السيء فهو أنه حتى لو قمنا بإعادة تدوير كلّ ما قابل للتدوير من الأنابيب والأسلاك القديمة، فسوف نظل نعاني من نقصٍ شديد في ما نحتاج إليه». 

وتنطبق الإشكالية نفسها على الوقود الأحفوري. يشير كونواي إلى أنه قبل تفشّي الوباء، أكثر من 80% من الطاقة الأولية في العالم كان يتأتى مباشرة من حرق الوقود الأحفوري: الفحم والنفط والغاز. «واللافت فيما يتعلّق بهذا الرقم هو مدى استقراره: أكثر من 80% في مطلع الألفية، وأكثر من 80% في العام 1990، وأعلى بقليل - حوالي 85% - في العام 1980. في المقابل، لم توفر الرياح والطاقة الشمسية سوى 1.5% من الطاقة في العام 2019. في السنوات الـ 13 الماضية، أنتجنا كميات من البلاستيك تزيد عن كامل إنتاجنا منه منذ اختراعه في أوائل القرن العشرين وحتى العام 2010. وباستثناء بعض الانخفاضات التي سجّلت في خلال جائحة كوفيد-19 في العام 2020 وأزمة النفط في أوائل السبعينيات، يميل إنتاج البلاستيك إلى الارتفاع بشكلٍ كبيرٍ».

يتطلّع كونواي إلى الابتكار التكنولوجي للتغلّب على هذا التناقض. بيد أنه يعترف بأن «لا جدوى من التظاهر بأن الأمر سيكون سهلاً أو سيتحقق من دون بعض التنازلات غير المريحة». أَمْ ربما كان الأجدر به أن يفكّر في شيءٍ أكثر دراماتيكية يتمثل في التغيير البنيوي للعلاقات الاجتماعية وملكية الموارد في العالم؟

وأخيراً، هناك الليثيوم، القاعدة المادية للإنتاج في القرن الحادي والعشرين. يعدّ الليثيوم أساسياً للسعة التخزينية لبطاريات وسائل النقل الكهربائية، وعدد لا يحصى من الأجهزة الحديثة التي تعمل بلا كهرباء. مجدّداً، يقع الليثيوم في قلب معركة القوة الاقتصادية: «تتركّز احتياطيات هذا المعدن في عدد محدود من الدول. لذلك بينما يشعر بقية العالم بالذعر إزاء هيمنة الصين على سلسلة إمداد البطاريات، يشعر الكثيرون في بكين بالذعر إزاء اعتماد الصين على بقيةِ العالم في الحصول على المواد الخام».

في العام 2022، وللمرّة الأولى على الإطلاق، توقّفت أسعار بطاريات الليثيوم عن الانخفاض وبدأت بالارتفاع، لأن المخاوف المتعلّقة بإعاقة إمدادات المواد الخام أدَّت إلى ارتفاع الأسعار. وهذا أحد الأسباب الرئيسة المُفاقِمَة للتضخّم منذ انتهاء الجائحة

ويذكِّرنا هذا بجانبٍ آخر من نظرية القيمة لدى ماركس يتعلّق بالمواد الخام. هناك اتجاه نحو انخفاض القيمة المتضمّنة في السلع مع ارتفاع إنتاجية العمل (أي انخفاض متوسّط وقت العمل المستغرق لإنتاج السلع). ويشير كونواي إلى قانون رايت: ففي كلّ مرة يتضاعف فيها إنتاج سلعة ما، تنخفض تكلفتها بنحو 15%.  وقانون رَايت، كما يطلق عليه أحياناً «نجح إلى حدٍّ مخيف في تفسير الانخفاضِ في أسعارِ كل شيء من سفن الحاويات إلى المواد البلاستيكية المتخصّصة».

ولكن يبقى هناك خطر دائم لارتفاع أسعار المواد الخام بما يعيق ربحية رأس المال ويؤدّي إلى أزمات في الإنتاج وضرب مستويات المعيشة لملايين البشر. وهذا ما نظر إليه ماركس باعتباره عاملاً رئيساً في ميل معدّل الربح إلى الانخفاض في الإنتاج الرأسمالي. «كلّما تطوّر الإنتاج الرأسمالي حاملاً معه وسائل أكبر لزيادة مفاجئة ومتقطّعة في نسبة رأس المال الثابت، كلّما ارتفع فائض الإنتاج النسبي لرأس المال الثابت، وتراجع إنتاج النباتات والمواد الخام أكثر، وكلّما زاد ارتفاع أسعارها الموصوفة سابقاً وردّ الفعل المقابل» (ماركس، رأس المال، المجلد 3). وبالتالي، فإن معدّل الربح يتناسب عكسياً مع قيمة المواد الخام.

وكما أشار خوسيه تابيا، أدَّت التحولات الكبرى في تقنيات استخدام الموارد الجديدة تاريخياً إلى تسريع تراكم رأس المال والحدّ من انخفاض معدل الربح. ولكن على العكس من ذلك، يمكن لأي ارتفاع في أسعار المواد الخام الرئيسية أن يقود إلى نشوب الأزمات، على نحو ما رأينا في أزمةِ النفط في السبعينيات. وفي كتابنا «رأسمالية القرن الحادي والعشرين» نبيِّن العلاقة العكسية العالية بين أسعار الوقود الأحفوري والمواد الخام عموماً وبين معدل الربح. (ص17)

يذكِّرنا كونواي: «تعرفون إلى أين سننتهي إذا عجز المعروض من هذه المواد عن مواكبة ارتفاع الطلب عليها. ففي العام 2022، وللمرّة الأولى على الإطلاق، توقّفت أسعار بطاريات الليثيوم ــ تلك الأسعار التي انخفضت باستمرار بفعل قانون رايت منذ التسعينيات ــ عن الانخفاض، وبدأت بالارتفاع. وتفسير ذلك أن المخاوف المتعلّقة بإمدادات المواد الخام، بما فيها الليثيوم، أدَّت إلى ارتفاع أسعار المكّونات». وهذا أحد الأسباب الرئيسة المُفاقِمَة للتضخّم منذ انتهاء الجائحة.

ويختتم كونواي كتابه بالتناقض الرئيسي للقرن الحادي والعشرين: الاحتباس الحراري وتغيّر المناخ. كيف يصل العالم إلى «صفر انبعاثات» في الوقت الذي يحتاج فيه إلى الكثير من موارد المواد الخام؟ بالطبع، لا يتحدّث كونواي عن خضوع تلك الموارد لسيطرة حفنة من الشركات العملاقة، وإن كان ذلك هو العائق الرئيس للوصول إلى صفر انبعاثات.

في المقابل، يشعر كونواي بالقلق من أن التّٓحوُّل إلى الطاقةِ المتجدّدة سيعني المزيد من استخراجِ المواد الأساسية. «لنتأمّل هنا فيما يقتضيه استبدال توربينة صغيرة تعمل على الغاز الطبيعي، وتضخّ 100 ميغاوات من الكهرباء، وتكفي 100 ألف منزل، بأخرى تعمل على طاقة الرياح. سوف تحتاج إلى نحو 20 توربينة رياح ضخمة. ومن أجل بناء تلك التوربينات، ستحتاج إلى نحو 30 ألف طن من الحديد و50 ألف طن من الخرسانة، بالإضافة إلى 900 طن من البلاستيك والألياف الزجاجية للشفرات و540 طناً من النحاس (أو ثلاثة أضعاف هذه الكميات لبناء مزرعة رياح بحرية). ومن ناحية أخرى، تتطلّب توربينات الغاز حوالي 300 طن من الحديد، وألفي طن من الخرسانة، وربما 50 طناً من النحاس للفّافات والمحوِّلات. وبالحصيلة سنحتاج إلى استخراج المزيد من النحاس في خلال السنوات الـ 22 المقبلة أكثر مما استخرجناه طوال الخمسة آلاف عام الماضية من تاريخ البشرية».

الأشياء مهمَّة. 

نُشِر المقال بموافقة مسبقة من الكاتب.