Preview زلزال المغرب

زلزال «نيوليبرالي»

زلزال «نيوليبرالي»، قد يبدو العنوان مفارقة. والجواب هو نعم، لكنها إحدى مفارقات النيوليبرالية الرأسمالية، التي تقدِّم النموّ الاقتصادي الذي يصبّ في صالح الأغنياء على أنه سيشمل حتماً كلّ طبقات المجتمع الأخرى. وجه المأساة هو دولة تروِّج لمنجزات البنية التحتية الهائلة والعاجزة عن إنقاذ وإسعاف منكوبي الكوارث الطبيعية.

في مراكش، حيث تعتزم الدولة استعراض منجزاتها الاقتصادية أمام أغنياء العالم ومؤسّساتهم الدولية ومنظّمات المجتمع المدني الموالية لهم، تكفّل زلزال بكشف زيف تلك الإدعاءات مسبقاً. أرادت الدولة من ذلك الاجتماع السنوي لأكبر مؤسّستين استعماريتين (البنك وصندوق النقد الدوليين) نيل شهادة تقدير تستعملها للولوجٍ أكثر إلى مزيد من التمويل من الأسواق الدولية من أجل الاستمرار في نموذج التنمية نفسه القائم على إغناء الأغنياء وإفقار الفقراء، نموذج تنمية يفاقم آثار الكوارث الطبيعية.

من المتوقّع أن يبلغ مستوى التحضّر في المغرب %77 بحلول العام 2050، فمن المحتمل أن يتركّز سكّان الحضر في المستقبل في مناطق شديدة التأثر بالفيضانا

في 8 أيلول/سبتمبر 2023، ضرب زلزال بقوة 7 درجات على مقياس ريختر المناطق المحيطة بمدينة مراكش ومدن أخرى قريبة، هو «الأعنف في تاريخ المغرب منذ أكثر من قرنٍ» وفق المعهد الوطني للجيوفيزياء. خلَّف الزلزال نحو 2,862 قتيلاً، وأكثر من 2,562 مصاباً بحسب الأرقام الرسمية حتى مساء 11 أيلول/سبتمبر الماضي. لم تتوضَّح بعد الأبعاد الكارثية للزلزال، التي يُفاقمها إهمالٌ إجرامي من الدولة، يُضاف إلى عقودٍ من سياسات اقتصادية تجعل ملايين الكادحين والكادحات عزَّلاً أمام كوارث طبيعية أكثر تدميراً (مثل الجفاف والفيضانات والحرائق والزلازل)، بفعل انعدام البنية الوقائية الاستباقية والتدهور المريع للخدمات العمومية وهشاشة البنية التحتية (الطرقية بالأساس) في المناطق التي تصيبها هذه الكوارث. هذه الخيارات الاقتصادية تجعل الكوارث الطبيعية ذات أبعاد طبقية ومجالية حيث يكون فقراء القرى وهوامش المدن الكبرى أكثر المتضرَّرين.

كانت بؤرة زلزال 8 أيلول/سبتمبر 2023 قريبة من سطح الأرض؛ نحو 8 كيلومترات حسب رئيس مصلحة الرصد الزلزالي في المغرب هاني لحسن. وأتت «نتيجة صدعٍ مائلٍ ضحلٍ في سلسلة جبال الأطلس على بعد 75 كيلومتراً جنوبي غربي مراكش. تشير آليّة بؤرة الزلزال إلى حدوث صدعٍ مائلٍ شديد الانحدار باتجاه الشمال الغربي أو صدعٍ مائلٍ عكسي باتجاه الشرق. حيث تحتوي سلسلة جبال الأطلس على مجموعة متنوّعة من الصدوع الجانبية والعكسية، التي تكون عادة باتجاه الشرق-غرب والشمال الشرقي والجنوب الغربي. وقع هذا الزلزال داخل الصفيحة الأفريقية، على بعد 550 كيلومتراً جنوب حدود الصفيحة بين صفيحتيْ أفريقيا وأوراسيا. في موقع هذا الزلزال، تتحرّك الصفيحة الأفريقية حوالي 3.6 ميلمتراً سنوياً غربًا جنوب-غرب نسبة لصفيحة أوراسيا».

هل هناك قصور مُحتمل في تتبع النشاط الزلزالي؟

تتضمّن مهام «المعهد الوطني للجيوفيزياء» في المغرب، «مراقبة الزلازل والإنذار على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع»، وقد عُيِّن هذا المعهد «وكيلاً منفّذاً عن المغرب في الاتفاقية الموقّعة في كانون الأول/ديسمبر 2008 مع الولايات المتّحدة الأميركية وتهدف إلى تركيب منظومة زلزالية وطنية وتشغيلها». يشير موقع «المركز الوطني للبحث العلمي والتقني» إلى وجود «نظام وطني للرصد والإنذار ضد الزلازل»، يتوفر على «مركز للحصول على البيانات ومعالجتها وتخزينها، وشبكة من المحطات الزلزالية، ومجموعة زلزالية عالية الوضوح، وشبكة من أجهزة قياس التسارع، وشبكة من أجهزة قياس المدّ والجزر». طبعاً «لا يمكن توقّع حدوث الزلازل بشكل دقيق» حسب هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، ولكن «يمكن للعلماء فقط احتساب احتمال وقوع زلزال كبير في منطقة معيّنة في خلال عدد معيّن من السنوات» بحسب الهيئة نفسها . فهل جرى احتساب احتمال وقوع زلازل في المغرب؟ وهل هناك ميل إلى الطمأنينة؟ قد يكون الأمر كذلك. فقد صرّح رئيس مصلحة الرصد الزلزالي في المغرب هاني لحسن لموقع الجزيرة قائلاً: «إن إقليم الحوز (جنوب غرب مدينة مراكش) منطقة معروفة بنشاطها الزلزالي الضعيف، سواء من حيث العدد أو من حيث القوّة، وغالباً لم تتجاوز الزلازل المُسجّلة فيها 5 درجات على مقياس ريختر، وبالتالي هي ليست مرشّحة من الناحية التاريخية أن تشهد زلزالاً بهذا الحجم والقوّة».

«الدولة القوية» التي تحدّث عنها النموذج التنموي الجديد، هي عكاز دائم يسند رأس المال الخاص، ودعمُ مستهدِف ومحدود ومؤقّت للكادحين والكادحات

في اليوم نفسه الذي ضرب فيه الزلزال المغرب، سجِّل نحو 27 زلزالاً في مناطق أخرى من العالم، لكن، بالنسبة للمغرب لم يكن هناك أي تحذير بإمكان وقوع زلزال. وقبل ما يقارب السنة سُجِّلت هزّة أرضية في عرض ساحل أكادير بتاريخ 12 كانون الأول/ديسمبر 2022 بقوّة 3.3 درجات على مقياس ريختر على عمق كيلومترين، تلتها هزّة ثانية بعد أسبوع بتاريخ 18 كانون الأول/ديسمبر بقوّة 3.3 درجات. فهل جرى أخذ كل هذه الوقائع والمعطيات بالحسبان؟

لا يتعلّق الأمر بجهلٍ في المعطيات العامّة عن الكوارث الطبيعية، فتقارير المؤسّسات المالية الدولية ذاتها تعجُّ بها:

  • يُعدُّ المغرب من أكثر البلدان تعرُّضاً للأخطار الجيولوجية والمناخية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛
  • يتحمّل المغرب بالفعل العبء الأكبر من تغيّر المناخ، الذي سيزيد من تفاقم تأثير الكوارث المرتبطة به؛
  • بحلول العام 2030، من المتوقْع أن يكون %42 من الساحل المغربي معرَّضاً بشكل كبير لخطر الفيضانات والتعرية؛
  • صُنِّفت المدن الساحلية المغربية، مثل الرباط وطنجة، على أنها حسّاسة للغاية للفيضانات… وبما أنه من المتوقّع أن يبلغ مستوى التحضّر في المغرب %77 بحلول العام 2050، فمن المحتمل أن يتركّز سكّان الحضر في المستقبل في مناطق شديدة التأثر بالفيضانات.1

ماذا تُعدُّ الدولة لمواجهة مخاطر الكوارث التي تمتلئ بها صفحات تقارير المؤسّسات الدولية والمعاهد المتخصِّصة؟ لا شيء، باستثناء وقوع الفأس في الرأس، وتدبير الكوارث وفق المنطق النيوليبرالي نفسه. تفضِّل الدولة توجيه المالية العمومية نحو الاستثمارات ذات المردودية العالية لرأس المال، بينما تُهمِل الاستثمارات ذات الطابع الاجتماعي والبيئي، على الرغم من كلّ الدعاية الهائلة لمجهودات رصد الكوارث الطبيعية والحدّ منها، وهي مجهودات مموَّلة بقروض من البنك الدولي.

سياسات نيوليبرالية تفاقم مخاطر كوارث الطبيعة

فاقم «غياب» الدولة آثار كارثة الزلزال وعواقبه، وغيره ممّا سبق من كوارث أسوة بحرائق العرائش في العام 2022. يتحدّث «النموذج التنموي الجديد» عن «عودة الدولة القوية»، ولكن يصحُّ ذلك فقط عندما يتعلّق الأمر بإنقاذ القطاع الخاص وحفزه ودعمه، كما وقع إبان جائحة كوفيد-19 وبعدها، إذ أعلنت الدولة عن خطّةٍ لإنعاش الاقتصاد (المقصود المقاولات) بغلاف مالي قدره 120 مليار درهم، بينما المبلغ المرصود «للصندوق الخاص بتدبير جائحة كوفيد-19» نحو 42 مليار درهم، صُرِف منها نحو 15.26 مليار درهم لدعم 5.5 ملايين أسرة، و6 مليارات درهم لتعويض الأجراء والأجيرات والمستخدمين والمستخدمات الذين توقّفت المقاولات حيث يشتغلون. تكشف تركيبة هذه الأرقام عن كنه «الدولة القوية» التي تحدّث عنها النموذج التنموي الجديد، فهي عكاز دائم يسند رأس المال الخاص، ودعمُ مستهدِف ومحدود ومؤقّت للكادحين والكادحات لتفادي الكارثة الاجتماعية من أجل ضمان السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي.

أما السكّان في البوادي والأحياء الهامشية فهم غير موجودين ضمن معادلة عودة الدولة القوية، إلّا حينما يتعلّق الأمر بقمعهم حينما يهبّون إلى النضال، أو استهدافهم ببرامج إحسانية تُسمّى «حماية اجتماعية» لتضميد جراح التفقير. أصاب الزلزال بعمق المناطق الأكثر فقراً؛ البوادي وهوامش المدن والمراكز الحضرية الصغيرة في الحوز، مراكش، شيشاوة، وتارودانت، ووارزازات وأزيلال. دمّر الزلزال شروط الحياة البائسة التي يصارع فقراء القرى للبقاء على قيدها. شروط حياة جعلتها الخيارات الاقتصادية للدولة النيوليبرالية أكثر بؤساً. صرّحت منظّمة الصحة العالمية بأن الزلزال المدمّر «أثّر على أكثر من 300 ألف شخص بمدينة مراكش المُدرجة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي».

بعد أعوام من ادعاء تنمية العالم القروي، تتذرّع الدولة بانعدام المسالك للوصول إلى ضحايا الزلزال! لكن هذا مجرّد مبرّر لتغطية واقع أصبح مرئياً. فالدولة تتدخّل بسرعة في أوعر المناطق عندما يتعلّق الأمر بقمع نضال اجتماعي؛ وتتدخّل بسرعة أيضاً لإنقاذ القطاع الخاص عبر حقنه بمليارات الدراهم من المالية العمومية. إنها الدولة القوية التي وعد النموذج التنموي الجديد بعودتها: دولة قامعة للفقراء وداعمة للأغنياء.

 أدّت السياسات التقشّفية الرهيبة في ميزانيات الاستثمار في الاستشفاء والتعليم والنبى التحتية وبرامج استباق الكوارث الطبيعية والوقاية منها، إلى تضاعف آثار تلك الكوارث

ضرب الزلزال بقوّة في العالم القروي، الذي طالما تغنَّت الدولة بتنميته وأحدثت صندوقاً خاصاً لذلك الغرض. وبعد عشرين سنة عن ذلك، تتذرّع الدولة بغياب البنية التحتية والطرق للوصول إلى المناطق المنكوبة.

بحسب آخر تقرير للمندوبية السامية للتخطيط: «ظاهرة الفقر المتعدد الأبعاد هي قروية بامتياز، إذ كان يعيش 85,4% من مجموع الفقراء بالوسط القروي في العام 2014 في مقابل 80% في العام 2004»، ويضيف أن «مراكش آسفي هي الجهة التي تضمّ أكبر عدد من الفقراء بالمغرب»،2  ولا يعني هذا أن الفقر الحضري أقل كارثية.

تعيد الخيارات الاقتصادية النيوليبرالية للدولة إعادة إنتاج التقسيم الاستعماري القديم بين «مغرب نافع» وآخر «غير نافع»، مع الإشارة إلى أن الأول يضمّ تناقضاته الخاصة بين مراكز المدن الكبرى حيث توجّه الاستثمارات لتجهيز بنية تحتية جبّارة لاستقطاب الاستثمارات الخاصة، وهوامش حيث ملايين العمّال والعاملات والمهمّشين والمهمّشات. إن مؤشِّر «النافع» هنا يتعلق بمدى منفعة منطقة ما لمراكمة الأرباح. فالبنية الطرقية الحديثة والجبّارة، من مطارات دولية وطرق سيّارة وقطارات وقطار سريع-البرّاق، كلها مموَّلة بمالية عمومية من أجل حفز الاستثمار الخاص.

وهذا التوجّهٌ قديم، وقد أقرّ به تقرير الخمسينية الصادر في العام 2006، إذ أشار إلى أن «مالية صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي مالية متأتية من خصخصة المقاولات العمومية، وُظِّفت في مشاريع مهيكلة من قبيل تشييد البنى التحتية كالطرق والطرق السيّارة والسكك الحديدية، أو بنى استقبال الاستثمارات الخاصة. وهو يُساهم في تمويل برامج إنجاز البنى التحتية لاستقبال الاستثمارات، ويقدّم دعماً مادياً مباشراً للمستثمرين».3  وهو الدور نفسه الذي خصّصه «النموذج التنموي الجديد» (نيسان/أبريل 2021) للقطاع العام: «يجب على القطاع العام الاستمرار في تأدية دور أساسي في تقوية تنافسية الاقتصاد الوطني وتحفيز المبادرة الخاصة».

الزلازل والفيضانات والحرائق والجفاف هي كوارث طبيعية، لكن سياسة الدولة وخياراتها الاقتصادية تجعل تلك الكوارث أكثر تدميراً وذات أبعاد طبقية بحيث يتضرّر منها الفقراء، ومجالية بحيث تتضرّر فيها المناطق الهامشية والبوادي. وليس هذا إلّا الوجه الآخر للكارثة الاجتماعية الناتجة عن السياسات النيوليبرالية:

وليس هذا خاصاً ببلداننا فحسب، فسياسات التقشّف المطبّقة في كل بقاع العالم تجعل الأمر سيان سواء في المغرب أو في الولايات المتّحدة. يتحدّث نعوم تشومسكي عن الإعصار الذي ضرب نيو أورلينز، مشيراً إلى مسؤولية الاقتطاعات من الميزانية المخصّصة لـ«الوكالة الفيدرالية لإدارة الحالات الطارئة» في خلال السنوات الثلاث السابقة للإعصار في مفاقمة آثاره، متّخذاً أبعاداً طبقية وعرقية، حيث أن غالبية المتضرّرين والمتضرّرات هم من ذوي البشرة الداكنة والطبقة العاملة والفقراء. ويستنتج تشومسكي قائلاً إن الأجندات النيوليبرالية لحكومة بوش خلقت «دولة عاجزة عن خدمة المواطنين عموماً، وتلك سمة صارخة أخرى من سمات الدولة الفاشلة».4

تمتلئ تقارير البنك وصندوق النقد الدوليين، وينقل المغرب عنها حرفياً، عبارة «مراجعة دور الدولة». والمقصود هنا تقليص الأدوار الاجتماعية التي كانت تقوم بها الدولة بسبب ميزان قوى اجتماعي وسياسي في سياق ما بعد نزع الاستعمار، وتعظيم أدوارها التدخّلية لصالح رأس المال الخاص، فضلاً عن تشديد وجهها القمعي. أدّت السياسات التقشّفية الرهيبة في ميزانيات الاستثمار في الاستشفاء والتعليم والنبى التحتية، وفي الميزانيات الموجّهة نحو استباق الكوارث الطبيعية والوقاية منها، إلى تضاعف آثار تلك الكوارث.

نالت سياسة التقشّف أيضاً من «المركز المغربي للبحث العلمي والتقني» الذي يضمّ «المعهد الوطني للجيوفيزياء»، إذ شمله بند «تنويع مصادر التمويل» الذي يعفي الدولة من تمويل منظومة التعليم والبحث العلمي. أشار تقرير خبرة صادر عن برنامج «TAIEX» (أداة المساعدة التقنية وتبادل المعلومات) التابع للمفوّضية الأوروبية إلى ذلك بالحرف: «في إطار رسالته المتمثّلة في تعزيز البحث العلمي وتطويره، يعمل المركز الوطني للبحث العلمي على تنويع مصادر تمويل البحوث العلمية من خلال جعل خبرته في إدارة برامج البحث متاحة لأي مؤسّسة ترغب في تعزيز البحث وتمويله».5

تجّار أزمات؟

امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بعبارت استنكار استغلال تجّار الأزمات لفرصة الزلزال من أجل مراكمة الأرباح، في إشارة إلى الأسواق الكبرى ومحطّات الوقود التي لم تعمَد إلى تخفيض أسعار مواد التموين والوقود، وشركة السكك الحديد التي لم تعفِ قوافل التضامن من رسوم العبور. كل هذا في تذكير بالأرباح الطائلة التي راكمتها شركة «أوكسجين» المملوكة لأخنوش التي اغتنت من احتكار تزويد المؤسّسات الاستشفائية بالأوكسجين في عزّ جائحة كوفيد-19. لكن كل هذا يغفل كبار تجَّار أزمات آخرين: البنك الدولي والدولة وشركات التأمين.

ماذا أعدَّت إذن الدولة للكوارث التي يفاقمها تدمير الرأسمالية للطبيعة. لم تُعِد الدولة سوى المنظور الرأسمالي الحالي لمواجهة أزمة المناخ، أي اعتبارها فرصة لمراكمة الأرباح عبر آليّات «التأمين والتعويض» الموصى بها من البنك الدولي. وهو توجّه يركز على «أنشطة التعافي اللاحقة»، على حدّ تعبير البنك الدولي. وتشكل أنشطة التعافي سوقاً مُغرية بعد الصدمات، «طبيعية» كانت أو اقتصادية أو سياسية مثل الحروب. وهذا هو مغزى تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، في مقابلة مع الجزيرة بأن «جهود جميع الجهات الرسمية في المغرب تنصبّ حالياً على الانتهاء من المرحلة الأولى المتعلّقة بجهود الإغاثة تمهيداً للانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار». والترجمة الحرفية لهذا التصريح هو: «فلتتكلّف مبادرات التضامن الشعبي والتبرّعات لصندوق تدبير آثار الزلزال بجهود الإغاثة غير المُجزية والتي يجب أن تنتهي بسرعة، كي يتأتى لشركات العقار البنوك تسريع الانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار، وهذا محض صيغة أخرى لشعار تشريك الخسائر وخصخصة الأرباح.

وبدلاً من الاستباق والوقاية حلّ توجّه جديد: «التأمين». يخفي البنك الدولي هذا التوجه تحت عناوين مُبهِرة مثل «دعم مسيرة المغرب نحو بناء القدرة على الصمود لمجابهة الكوارث». وبدلاً من تعزيز منظومة الوقاية والتوقّع، يتحدّث البنك الدولي عن مشاريع مموّلة بقروض غايتها: «تقليص مخاطر الكوارث وتعزيز القدرة المالية على الصمود في وجه الكوارث الطبيعية للسكان المستهدَفين. ومساندة نظام مبتكر للتأمين ضدّ مخاطر الكوارث يُغطِّي القطاعين العام والخاص». منح البنك الدولي المغرب قرضاً بقيمة 200 مليون دولار في 20 نيسان/أبريل 2016، لتمويل برنامج «الإدارة المتكاملة لمخاطر الكوارث والصمود في المغرب»، الذي يهدف إلى «تحسين المرونة المالية للأسر والشركات المغربية ضدّ الكوارث الطبيعية والبشرية».6

بدلاً من الاستباق والوقاية حلّ توجّه جديد: «التأمين». يخفي البنك الدولي هذا التوجه تحت عناوين مُبهِرة مثل «دعم مسيرة المغرب نحو بناء القدرة على الصمود لمجابهة الكوارث»

تبنّت الدولة هذا المنظور القائم على «التأمين»، وهو ما أثنى عليه البنك الدولي بقول: «اعتماد نظام مبتكر للتأمين ضدّ المخاطر في 2018 (القانون رقم 110-14)، الذي أصبح نافذاً في كانون الثاني/يناير 2020. واستحدث القانون آليّة تأمين خاصة تغطّي نحو 9 ملايين شخص، وأنشأ صندوقاً عاماً، وهو «صندوق التضامن ضد الوقائع الكارثية»، منفصلاً عن صندوق مكافحة آثار الكوارث الطبيعية ومُوجَّهاً لمساندة الأسر الأشد فقراً والأكثر احتياجاً، التي يقدّر عددها بنحو 6 ملايين شخص. وتُقدِّم الآليّتان الخاصة والعامة للتأمين مجتمعتين نحو 100 مليون دولار تعويضاتٍ للمتضرّرين كل عام».7  طبعاً، ستكون «شركات التأمين» هي المستفيدة الأولى من هذه الآليّة، وهو ما أقرّه البنك الدولي عند حديثه عن اعتماد المغرب لقانون رقم 110-14 بشأن إدخال نظام تأمين ضدّ مخاطر الكوارث سنة 2016: «يضمن التغطية للأسر والشركات من خلال أقساط إضافية تتلقّاها وتديرها شركات التأمين الخاصة».8

تموَّل هذه البرامج عبر قروض ثنائية ومتعدِّدة الأطراف: «قدَّم البنك الدولي للإنشاء والتعمير 300 مليون دولار من خلال مشروع التدبير المندمج لمخاطر الكوارث الطبيعية والصمود باستخدام أداة تمويل البرامج وفقاً للنتائج. وتلقَّى البرنامج أيضاً مساندة من خلال برامج مساعدات فنية عدّة موِّلت من خلال الصندوق العالمي للحدّ من الكوارث والتعافي من آثارها، وأمانة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية بمبلغ يقارب 1.5 مليون دولار شاملةً دعماً لصندوق مكافحة آثار الكوارث الطبيعية، والاستراتيجية الوطنية لإدارة مخاطر الكوارث، وبناء قدرة المناطق الحضرية على الصمود، وتمويل أنشطة مواجهة مخاطر الكوارث في المناطق والتأمين ضدها».9

أصدرت الدولة مرسوماً بتاريخ 12 أيلول/سبتمبر 2019 يقضي بإلزامية إدراج الضمان ضدّ عواقب الوقائع الكارثية في عقود التأمين، وآخر ينصُّ على إحداث رسم التضامن ضدّ الوقائع الكارثية. ووفق منظور «الحماية الاجتماعية المعمّمة»، وقبلها «التغطية الصحية»، خصّصت الدولة للفقراء الذين لا يشكّلون سوقاً مغرية «صندوق تضامن ضد الوقائع الكارثية» يُموَّل في جزء منه عبر مخصّص مالي من ميزانية الدولة، والجزء الآخر عبر عائدات رسوم شبه ضريبية تسمى «ضريبة التضامن ضد الوقائع الكارثية، المحدَّث بموجب مرسوم صادر بتاريخ 30 أيلول/سبتمبر 2019، ويقضي باقتطاع نسبة %1 من الأقساط أو أقساط إضافية أو اشتراكات مؤداة بموجب عقود التأمين ذات الصلة بعملية التأمين غير التأمين على الحياة». والغاية تجميع ذوي القدرة الشرائية المنخفضة في صندوق من أجل إنشاء قدرة شرائية جماعية موجّهة نحو صناديق شركات التأمين.

ولم يغب مفهوم «التوازنات المالية» العزيز على قلوب المؤسّسات المالية الدولية عن «التأمين ضدّ الكوارث». إذ نصّ القانون 110.14 المتعلق بإحداث نظام لتغطية عواقب الوقائع الكارثية على مهام الصندوق اعتماد استراتيجية مناسبة وناجعة ترمي إلى إيجاد حلول مبتكرة ضامنة للتوازن بين التغطية الشمولية للمتضررين وبين الإمكانات المالية المتاحة للصندوق. هكذا ستتقلّص المبالغ المفرَج عنها للتأمين عن مخاطر الكوارث، و«الحلول المبتكرة» هي سبل الاحتيال المعهودة لدى تلك شركات التأمين من أجل «تخفيف عبء تغطية أضرار الحوادث عن كاهلها: اللجوء إلى خبراء منتدبين من الشركات، اشتراط آجال الإخطار، التأخر في التعويض أو اختلالات في ثمن التعويض مقارنة مع حجم الضرر، إلخ…». وما يفاقم الأمر هو أن قطاع التأمينات خضع للتحرير الكامل منذ 6 تموز/يوليو 2006، ومنذ ذلك التاريخ لم تعد أقساط التأمين مُدرجة ضمن قائمة السلع والمنتجات والخدمات المقننة أسعارها.

دولة بطيئة وإجراءات بيروقراطية ثقيلة

تمتلئ تقارير المؤسّسات المالية الدولية بانتقادات توجَّه إلى الدولة الممركَزة والقطاع العمومي المتضخّم المتسم ببطء الإجراءات وفرط البيروقراطية.10  والمحصلة هي دولة سريعة التدخّل عندما يتعلّق الأمر بحقن المقاولات والبنوك من المالية العمومية، وبطيئة التدخل عمداً - وحتى جامدة - عندما يتعلّق الأمر بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية لملايين الكادحين، أو عند وقوع كوارث طبيعية.

لا يريد رأس المال دولةً تتدخّل لفرض الضرائب عليه، ودولة تموِّل الخدمات العمومية والاجتماعية؛ إنه يريد «دولة قليلة التكاليف» في وجه مطالب الكادحين والكادحات، لكنه ينوِّه بالدولة التي تموِّل مشاريع حفز المقاولات وضمان أرباحها. لقد كانت «دولة قليلة التكاليف» شعار الحركة العمّالية في وقت من الأوقات، وقد سطت النيوليبرالية على هذا الشعار مالئة إياه بمضمون في صالح الشركات ورأس المال. لذلك نرى المؤسّسات المالية الدولية تنتقد تضخّم القطاع العمومي وفرط بيروقراطيته وتوصي بتفكيكه وتحويله لصالح القطاع الخاص «الأكثر كفاءة والأقل بيروقراطية»!

كلّما وقعت كارثة طبيعية تتعالى صرخات العديد من الناس متسائلة: «أين الدولة؟». والجواب قائم في الطابع المفرط البيروقراطية لأنظمة التأمين11  التي فوضت لها الدولة أمر التدخّل للتأمين على الكوارث والتعويض عنها، وتعقد الإجراءات تلك يخدم احتفاظ تلك الشركات بأكبر قدر ممكن من مبالغ التأمين والإفراج عن أقل قدر من التعويض. عندما يتعلّق الأمر بالشركات فلا ضير من أن تكون مفرطة البيروقراطية!

كلّما وقعت كارثة تتعالى صرخات العديد من الناس متسائلة: «أين الدولة؟». والجواب في بيروقراطية أنظمة التأمين التي فوضت لها الدولة أمر التدخّل للتأمين على الكوارث والتعويض عنها

يتحدّث القانون المحدّث لنظام تغطية عواقب الوقائع الكارثية عن «آليّات الحكامة»، ومن ضمنها لجنة «تتبع الوقائع الكارثية»، تتولى مهمّة تتبع تنفيذ النظام، ويُعهد إليها جمع كل المعلومات لدى الإدارات ومصالح الدولة أو الجماعات الترابية أو أي هيئة أخرى. وتتكلّف هذه اللجنة بإبداء الرأي للحكومة بشأن الطابع الكارثي للواقعة المعروضة على أنظارها، ومساعدة صندوق التضامن ضد الوقائع الكارثية في تقييم الأضرار اللاحقة بضحايا الواقعة. ومعنى ذلك في آخر التحليل: دوّامة من الإجراءات البيروقراطية وصِفر تدخل. لقد قتل الإهمال ما لم يقتله الزلزال.

وفي الوقت الذي ظل فيه السكان تحت الأنقاض أو يتضورون جوعاً، وانبعثت بشكل تلقائي وسريع مبادرات تضامن شعبي، ضيَّع الناطق الرسمي باسم الحكومة، الكثير من الوقت يستعرض فيه «الإجراءات الإدارية البيروقراطية» التي انتهت بإصدار مرسوم بتأسيس صندوق تدبير آثار الزلزال، وفوِّضت له صلاحية استقبال أموال المتبرّعين!

دولة تسطو على مبادرة تضامن شعبية

في وجه تعاظم جهود التضامن المنبثقة عفوياً من أسفل، ومن أجل ضبطها من طرف الدولة، جرى إحداث صندوق خاص سُمِّيَ «الصندوق رقم 126 الخاص بتدبير الآثار المترتبة على الزلزال». هكذا تسطو الدولة التي روَّجت طيلة عقود لأطروحة «انسحاب الدولة لصالح هيئات أخرى من جهات ومجتمع مدني وقطاع خاص»، على المجهودات التضامنية الجماعية «الخاصة» بالسكان، وتسعى لتجييرها لصالحها، كما فعلت تماماً في عز جائحة كوفيد-19.

وسوف يُموَّل الصندوق من التبرّعات ليتكفّل بتمويل إعادة تأهيل وبناء المنازل المدمّرة، والأشخاص في وضعية صعبة، فضلاً عن النفقات المتعلّقة بتشجيع الفاعلين الاقتصاديين بهدف الاستئناف الفوري للأنشطة على مستوى المناطق المعنية. هكذا سيموّل المواطنون والمواطنات عملية إعادة الإعمار والتأهيل، لكن سوف تستأثر الدولة بشرف تلك العملية، إذ هي الساهرة على ذلك عبر صندوق أُحدِث بمرسوم. وسوف تقطف الشركات أرباح إعادة الإعمار.

طبعاً، في دولة الاستبداد الفردي، تؤدّي مثل هذه الصناديق دوراً سياسياً: التحكم في المبادرات الشعبية الآتية من أسفل. فحين يجتمع الناس ويتعاونون من أجل جمع المعونات وإرسالها، فذلك بالنسبة للدولة «تجمهر غير مرخّص» لا تؤمن عواقبه. ومن الأفضل اعتماد الآليّات البيروقراطية من مراسيم وتأسيس صناديق ولجان وزارية، بالإضافة إلى الآليّات النقدية التي تجري بطرق فردية عبر الدفع المباشر من وراء مكاتب البنوك أو الدفع غير المباشر عبر الإنترنت. هكذا تتفادى الدولة كل نقاش جماعي، وتقضي على تجمّعات المتضامنين والمتضامنات، وتحولهم إلى ذرات فردية تغذّي بها آليّتها الدعائية.

يفضِّل الرأسماليون صناديق التبرّعات تلك، إذ يتقاسمون عبء تكاليف أزمات هم سببها مع المتضررين والمتضرّرات منها. يرفض الرأسماليون صناديق تموَّل بواسطة ضرائب على الأرباح والمِلكية، ويريدون صناديق يحددون هم، لا الدولة ولا القانون، نسبة التبرّع فيها. وبعد انجلاء الكارثة تكون الأرباح المحقَّقة أضعافاً مضاعفة مقارنة بمبالغ تبرّعهم.

إجماع وطني نيوليبرالي

فضلاً عن الفوائد الاقتصادية والمادية التي تُجنى من أزمات مماثلة، لا تفوت الدولة أي فرصة للترويج لخرافة «الإجماع الوطني». امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بعبارات التنويه بـ«الحس الوطني» الذي حفز المغاربة أجمعين للوقوف يداً واحدة من أجل إسعاف وإنقاذ منكوبي المناطق التي ضربها الزلزال.

يفضِّل الرأسماليون صناديق التبرّعات، إذ يتقاسمون عبء تكاليف أزمات هم سببها مع المتضررين والمتضرّرات منها، ويرفضون صناديق تموَّل بواسطة ضرائب على الأرباح والمِلكية

لكن هذه الموجة الوطنية العارمة تخفي وراءها إجماعاً وطنياً على ما تريد الدولة - ووراءها المؤسسات المالية الدولية - جعلَه «ثوابتَ وطنية»: على الدولة ألا تتحمّل وحدها مسؤولية الكوارث الطبيعية ومخاطرها وآثارها. وليس هذا إلّا تنفيذاً للفصل 40 من الدستور القائل: «على الجميع أن يتحمّل، بصفة تضامنية، وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف التي تتطلّبها تنمية البلاد، وكذا تلك الناتجة عن الأعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد». وهو وجه آخر للدستور نفسه الذي يحمّل الأسر والمجتمع المدني والقطاع الخاص مسؤولية توفير الخدمات العمومية من صحة وتعليم وإسكان، بينما يقتصر دور الدولة على «تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين من تلك الخدمات».

وكما وقع في عز جائحة كوفيد-19، تنبري أصوات كثيرة لكبت أي صوت منتقد أو داعٍ لمحاسبة الدولة بمبرر أن الوقت وقتُ تضامن وإسعاف وإنقاذ، وليس وقتَ محاسبة وانتقاد. وكأن المغرب جنّة حرَّية التعبير عن الرأي في الأوقات التي لا تشهد فيه البلاد كوارث طبيعية. وتستفيد الدولة من ذلك أيما استفادة. ففي لحظات الأزمات والكوارث تُتاح للجماهير فرصة التجمّع وإمكانَ اكتشاف حقيقة المجتمع الذي يعيشون فيه. وإذ تكتشف الجماهير حقيقة الوضع وحجم التأخّر التاريخي، تسعى إلى تعويض تاريخي عبر قفزات، قد تكون ثورة أو انتفاضة. وكل رفض لانتقاد ومحاسبة الدولة والرأسمالية في هذه اللحظة هو تفويت فرصة لا تأتي إلّا نادراً، في الوقت الذي تستغلّه الدولة لتثبيت وتكريس خياراتها الاقتصادية النيوليبرالية.

سوف تنتهي موجة «الزهو الوطني» سريعاً كما انتهت سابقاتها. وسوف يكشتف الناس الواقع المرّ: واقع دولة لا تتدخّل بسرعة إلا لقمعهم أو لإنقاذ الشركات الرأسمالية. وكما حدث في الحسيمة سنة 2004 بعد الزلزال المدمّر، سوف يهبّ الكادحون والكادحات إلى النضال من أجل إعادة بناء منازلهم المهدمّة وإعادة ربط القرى بخدمات الطرق والكهرباء والماء. وآنذاك سوف يتكشّف مرّة أخرى الوجه الحقيقي للدولة القامعة. علينا الحفاظ على حذرنا وحسنا النقدي تجاه دولة الاستبداد النيوليبرالي، ونتفادى الانجرار السهل نحو مشاعر وطنية زائفة، ونستعد للقادم من موجات النضال الاجتماعي. فبعد حين سيضطر المتضررون والمتضرّرات من الزلزال إلى الاحتجاج. علينا أن نستغل فرصة التلاقي وتضافر الجهود القائمة حالياً في إطار حملات التضامن من أجل بناء شبكات لدعم تلك النضالات ونقاش أصل المشكل والبلاء: سياسات الدولة النيوليبرالية التي تفاقم آثار كوارث الطبيعة.

علينا ألا نقتصر على جعل مهمتنا حالياً في جمع الدعم المادي (غذاء ولباس ومأكل…)، بل أن نجعل من مجهودات التضامن هذه فرصة لبناء شبكات من أسفل، شبكات علاقات نجعلها فضاءً لنقاش أوضاع العالم القروي وأحياء الهوامش بالمدن الكبرى، هذه المناطق التي دائماً ما يُعتبَر سكّانها المتضررين الرئيسيين من كوارث طبيعية، فضلاً عن كوارث اقتصادية واجتماعية (الفقر، البطالة، غياب البنية التحتية، الأمية).

تضامن شعبي يحتاج إلى تنظيم ومركزة

في وجه جمود أجهزة الدولة، انطلقت بسرعة البرق حملات تضامن شعبي منبثقة من أسفل المجتمع، مستخدمة وسائل التواصل الاجتماعي. مئات القوافل من عشرات المدن تمكّنت من الوصول إلى أوعر المناطق المصابة بالزلزال، في الوقت الذي تذرّعت الدولة بوعورة المسالك لتبرير تخلّفها عن إغاثة المنكوبين والمنكوبات.

إنها مجهودات تضامن محمودة ومطلوبة. حملات تضامن تؤكّد أن حسّ الانتماء الجماعي لا يزال قائماً، ولم تنل منه عقودُ الدعاية النيوليبرالية التي تركّز على «الفرد» بدل «الجماعة»، وعلى «الخلاص الفردي» بدل «الخلاص الجماعي»، وعلى المبادرة الفردية والتنافس بدل التعاون والتضامن.

مجهودات التضامن تعالج الأعراض فقط، إذ تركّز على تقديم مساعدة ظرفية للضحايا، لكنها لا تعالج أصل المشكل، أي السياسة النيوليبرالية التي تفاقم آثار الكوارث الطبيعية

ولكن بسبب غياب بنيات تنظيم شعبي وبفعل قصور التنظيمات العمالية (النقابات) عن تنظيم تضامن طبقي ومركزته، تنتهي حملات التضامن الشعبية إلى أن تندرج ضمن السياق الاقتصادي القائم، وتبتلعها المؤسّسات البيروقراطية لدولة الاستبداد النيوليبرالي. بسبب غياب تنظيم ممركِز ينظم جمعَ المعطيات وعمليات شراء المعونات وتوزيعها، يحدث تضخّم في شراء سلع دون أخرى، أو إفراط في تزويد مناطق دون أخرى. وقسم من المعونات قد يُهدَر ويُتلف، خصوصاً المواد الغذائية. ويؤدّي انعدام تنظيم ومركزة التضامن ذاك إلى احتمال ظهور محتالين صغار، يستحصلون أموالاً بدعوى اقتناء مواد الإسعاف والتموين. وتستغل الدولة كل نقاط القصور تلك للبرهنة على القصور الفطري للشعب عن تسيير أموره وتدبيرها، ولتبرير سطوها على عملية التضامن تلك وبقرطتها وتسليعها.

كما يؤدي هذا إلى سرعة عطب التضامن الشعبي. سوف تتوقف مجهودات التضامن بعد حين، إذ أنها تفتقد إلى مقومات الصمود. فغالبية المتضامنين والمتضامنات سوف يجدون أنفسهم مرغَمين على الالتحاق بمقرات عملهم، وسيجد الفقراء المنكوبون أنفسهم وحيدين ومعزولين.

كما علينا أن نعي جيّداً بأن مجهودات التضامن المطلوبة هذه، تعالج الأعراض فقط، إذ تركّز على تقديم مساعدة ظرفية للضحايا، لكنها لا تعالج أصل المشكل: السياسة النيوليبرالية التي تفاقم آثار الكوارث الطبيعية.

استغلت الدولة غياب تنظيم ومركزة حملات التضامن، وتمكّنت بسهولة من توجيهها نحو قنوات مؤسّساتها البيروقراطية، ووجّهت صبيب التضامن نحو «صندوق تدبير آثار الزلزال»، قاطفة الثمار السياسية لموجة تضامن شعبي جاءت لتحل محل غياب الدولة.

من أجل مجتمع بديل آخر ممكن

دخلت الرأسمالية عصر أزمات متطرّفة تتضافر كل أبعادها لتشكّل أزمة حضارة برجوازية. أصبحت الأزمات هي القاعدة: أزمات مناخ وأوبئة وكوارث بيئية، فضلاً عن أزمات اقتصادية وحروب وحروب مضادة، وتصاعد لليمين المتطرّف والحركات الرجعية الدينية. ويتضافر كل هذا لإلقاء الحمل الثقيل لأزمة الحضارة البرجوازية بكل أبعادها على كاهل شعوب الجنوب العالمي وشغيلة المراكز الإمبريالية.

التسليع الشامل للطبيعة ولكل أوجه النشاط البشري هو الذي يقف وراء الأزمات الاقتصادية والسياسية، ويخلق ظروف نشوء أزمات بيئية ووبائية، ويفاقم مخاطر الكوارث الطبيعية

إن التسليع الشامل للطبيعة ولكل أوجه النشاط البشري هو الذي يقف وراء الأزمات الاقتصادية والسياسية، ويخلق ظروف نشوء أزمات بيئية ووبائية، ويفاقم مخاطر الكوارث الطبيعية. وسوف تفضي كل إجراءات إضفاء الطابع الأخضر على الرأسمالية ومحاولة أنسنتها إلى إطالة أمد نظام يدمِّر البيئة والإنسان.

لا بد من نضال يدافع عن المشاع المشترك ويحارب منظور تسليع الطبيعة والعمل البشري، ويعيد الاعتبار لمنطق التعاون الجماعي والخدمة العمومية تحت الرقابة المباشرة للمنتجين والمنتجات والمستهلِكين والمستهلكات.

تستعمل المؤسسات المالية الدولة المديونية رافعة لفرض برامجها النيوليبرالية على دول الجنوب العالمي وشماله على حدّ سواء، وتفرض برامجَ خصخصة المقاولات والمؤسسات العمومية وتسليع الخدمات العمومية والاجتماعية. وترفض تلك البرامج كل نفقة لا تدخل في منطق مراكمة الأرباح، وضمنها النفقات الموجّهة لتوقع واستباق والحماية من الكوارث الطبيعية والوبائية، كونها غير مُدرّة للأرباح. وتفضل تلك المؤسّسات ومعها الدول والشركات.

لا بد من النضال من أجل الامتناع عن ووقف سداد الديون غير الشرعية، ومن أجل التمتع الجماعي بالمشاع المشترك، أي موارد الأرض والخدمات العمومية والاجتماعية، بعيداً من آليات السوق والتسليع.

أُعدَّت هذه الورقة بالشراكة بين «المعهد العابر للقوميات» و«جمعية أطاك المغرب - الشبكة الدولية لإلغاء الديون غير الشرعية».