معاينة نظرية تبعية جديدة

نظرية تبعية جديدة؟

  • يشكّل طرفا الانقسام الحالي، كلٌّ بطريقته، الوريثين الشرعيين للنيوليبرالية؛ اليمين الفيكتوري الجديد الذي يخضع إلى سيطرة اليمين المتطرّف بالعنف الصريح والوحشي الذي يميّزه. والتقدّمية الجديدة التي هي الآن السلطة الحاكمة في كثير من البلدان التي لا تزال ديمقراطية.

  • سوف يكون الثمن باهظاً إذا لم يوسّع «الإجماع الجديد» نطاقه ليعالج الفقر والتفاوت. وبالنسبة إلى الكثير من البلدان، قد تكون التكلفة هي خسارة أي فرصة للهروب من الفخ الاستخراجي الجديد، النزعة التي تخنق الاستقلال المحلي لهذه البلدان وتقيّد دورها على المستوى الدولي.

ظهرت الحاجة إلى إعادة تنظيم الحوكمة العالمية لإفساح المجال أمام النمو الصيني منذ فترة طويلة. ومع الأزمة المالية في العام 2008، ظهرت حاجة ملحة أخرى: الحاجة إلى إعادة تشكيل الرأسمالية ذاتها. ومثّلت جائحة كوفيد-19 لحظة استراتيجية للمضي قدماً في هذه المهمة المزدوجة. فبعد إعلان إفلاس بنك «ليمان براذرز» بعقد من الزمن، شكّلت حالة الطوارئ الصحية فرصة بالنسبة إلى تجمع دولي لينادي بنظام عالمي ما بعد ليبرالي جديد، نداء ترافق مع دعوات لإعادة هيكلة الحوكمة العالمية، لا سيّما في بعدها الاقتصادي. صار هذا المشروع معروفاً باسم «بريتون وودز الجديد».

على الرغم من وجود إجماع عام في الوقت الراهن على أن النيوليبرالية في أزمة، كان ملحوظا ظهور بدائل عدة قد تشير إلى تغير في المسار له دلالاته. بغض النظر عن كيف يصنف المرء الصين، فالواضح أنها، على النقيض من الاتحاد السوفييتي السابق، لا تمثّل حركة دولية بأي حال من الأحوال. وعلى الرغم من تبنيها النموذج السوفياتي لما لا يقل عن ثلاثة عقود من الزمن، غير أن الصين، بحلول نهاية السبعينيات، كانت تمهد طريقها الخاص، الأمر الذي مكنها أن تنجو من انهيار الكتلة السوفياتية من دون أن تتخلى عن مشروعها.1 وتدلّ الظروف الاستثنائية للأزمة الراهنة على أن العالم الخاضع إلى العولمة يعتمد على الصين، غير أن هذا لا يعني ضمنياً أن الصين تشكّل نموذجاً يُمكن تقليده أو تصديره.

لكن غياب بديل ما بعد رأسمالي راسخ وقابل للتصدير لا يعني عدم وجود توترات جيوسياسية خطيرة. ولا يستبعد هذا الغياب وجود نماذج بديلة للرأسمالية يُمكن محاكاتها في أماكن أخرى. ومع وجود احتمال حقيقي لأن تؤدي الأزمة الحالية إلى حرب شاملة، تأتي الدعوة إلى «بريتون وودز جديد»: اتفاقية تنطوي على إعادة تنظيم الحكومة العالمية بحيث لا يؤدي الانتقال إلى نظام ما بعد نيوليبرالي إلى قيام حرب عالمية.

تدلّ الظروف الاستثنائية للأزمة الراهنة على أن العالم الخاضع إلى العولمة يعتمد على الصين، غير أن هذا لا يعني ضمنياً أن الصين تشكّل نموذجاً يُمكن تقليده أو تصديره

تتلخص الدعوة المزدوجة إلى إصلاح للرأسمالية ونموذجها للحوكمة في التحوّل إلى عقيدة جديدة. لم يُحدد مضمون هذه العقيدة بعد، لأن اتجاهها ونطاقها يستلزمان معركة قائمة بالفعل ضمن السلطة الحاكمة النيوليبرالية. لكن مهما كانت نتائج هذه المعركة، فإن الإصلاح الذاتي هذا يهدف إلى أن يصبح عقيدة جديدة في نهاية المطاف، وهو شيء غالباً ما كان يُسمى، منذ عصر النيوليبرالية، «إجماعاً»، أو «إجماعاً جديداً»، كما قال جيك سوليفان في نيسان/أبريل من العام 2023.

على الرغم من التناقضية الظاهرة لهذا، يسعى النموذج المقترح لهذا التحوّل عن النيوليبرالية إلى محاكاة صعود النيوليبرالية نفسها وترسخها. فترى وجهة نظر منطقية أن النيوليبرالية نشأت - بشكل كامل - من مبادئ إطار مفهومي سائد مفصل حديثاً في الاقتصاد، بسياساته وقواعده الاقتصادية، ورؤية متميزة للدولة والجغرافيا السياسية. ثم صار هذا الإطار المفهومي السائد مهيمناً بسبب الاستيلاء على المؤسسات وما أسفرت عنه المعارك الثقافية والانتخابية.2

يتكشف المنطق الكامن وراء التكيّف المعاصر للمشروع النيوليبرالي الماضي على النحو التالي تقريباً: بزغت النيوليبرالية في سياق الحرب الباردة، وتمكنت، ضمن العالم الرأسمالي، من أن ترسخ نفسها من دون نشوب حرب معممة. على نحوٍ مماثل، سوف تتسم اللحظة الحالية من تفكك العولمة، بالنسبة إلى بعض البلدان المركزية، بشكل جديد من أشكال الحرب الباردة، الحرب التي ستسمح، طالما ظلت «باردة»، بالانتقال إلى نظام جديد ما بعد نيوليبرالي على غرار صعود النيوليبرالية ذاتها.

لكن هذا الاقتراح لن يكون قابلاً للتطبيق إذا ما اعتمد على القوتين المؤسسية والاقتصادية فحسب لهذه النخب العالمية. هناك مقومان آخران في الأقل يجعلان المشروع معقولاً، حتى لو لم يتحقق كواقع مادي. أولهما، إن لا معكوسية التحولات الاجتماعية المترافقة مع النيوليبرالية جعلت من المستحيل موضوعياً أن يكون ثمة برنامج يحاول أن «يعيد عقارب الساعة إلى الوراء». واليوم، لا يُعتبر الاقتراح باستئناف التنظيم على النمط الكينزي أكثر من مجرد نزعة إرادية سياسية وهمية. ثانيهما، يخدم ترسيخ انقسام سياسي حاسم - وُلِد من أزمة النيوليبرالية ذاتها - مشروع الانتقال ضمن النظام على نحوٍ جيد، حيث يحوّل النصر المحتمل لليمين المتطرف إلى تهديد يفرض على القوة المعتدلة أن تتجه إلى اليسار بشكل أكبر.

جغرافيا سياسية داجنة

ليست النيوليبرالية مجرد عقيدة اقتصادية؛ بل أرست جذوراً اجتماعية عميقة.3 وكثّف نجاحها في تفكيك آليات التضامن العالمي من حدة النزاعات حول التوزيع، مخلفةً آثار مدمرة ومدمرة ذاتياً. نتج الانقسام السياسي الحاد الذي يُمكن رؤيته في عديد من البلدان اليوم عن هذه السيرورة. ففي البلدان التي لا تزال ديمقراطية، يقع هذا الانقسام بين يمين لا يخشى التحالف مع اليمين المتطرف، من جهة، ونزعة تقدمية جديدة ترغب في أن تصلح النيوليبرالية، وأن تبعدها عن أكثر سماتها تطرفاً، من جهة أخرى. وهذا انقسام حقيقي، وليس مجرد «استقطاب» ينتمي فيه الطرفان، بحسب الاستعارة، إلى «المجال المغناطيسي» ذاته.4 فالطرفان ليسا مختلفين فحسب، بل يستحيل التوفيق بينهما. إنهما «مشروعان لعالمين مختلفين».

ربما يحاجج بعض الناس أن للانقسام السياسي اليوم نظيراً في الانقسام الذي حدث قبل مئة عام؛ إذ لم يكن ثمة أرضية مشتركة تجمع المشاريع المتمايزة للرأسمالية الصفقة الجديدة والفاشية والاشتراكية السوفياتية. غير أنه ثمة أساس مشترك يجمع طرفي الانقسام اليوم. وهذا الأساس ليس الديمقراطية، على الرغم من أن اليمين المتطرف في البلدان التي لا تزال ديمقراطية في يومنا هذا، على عكس ما كان قبل مئة عام، يدعي أنه نصير الديمقراطية. والأساس المشترك هو النيوليبرالية ذاتها وإرثها. والسؤال المثير هو أي أجزاء من النيوليبرالية علينا أن نصون وأي أجزاءها علينا نطرح.

يشكّل طرفا الانقسام الحالي، كلٌ بطريقته، الوريثين الشرعيين للنيوليبرالية؛ وجها العملة ذاتها. ووصف غاري غيرستل،5 في حديثه عن الولايات المتّحدة، كيف أن أحد الطرفين هو وريث «الفيكتورية الجديدة» (نيوليبرالية رونالد ريغان المحافظة في ثمانينيات القرن العشرين)، في حين أن الآخر وريث «الكوزموبوليتانية» (النيوليبرالية التقدمية التي ترسخت منذ عهد إدارة بيل كلينتون في تسعينيات القرن العشرين). واليوم، يجب التأكيد على أن اليمين الفيكتوري الجديد يخضع إلى سيطرة اليمين المتطرف بالعنف الصريح والوحشيّ الذي يميزه. وأصبحت التقدمية الجديدة الآن، من جهة أخرى، هي السلطة الحاكمة ذاتها في عديد من البلدان التي لا تزال ديمقراطية.

تصدر الدعوة إلى «بريتون وودز جديدة» عن السلطة الحاكمة بالتحديد، وهي خصوصية أخرى من خصوصيات الوضع الراهن: فبالنسبة إلى التقدمية الجديدة، ليست هناك حاجة إلى جهود باهظة التكلفة للاستيلاء على المؤسسات. وإذا ما مضينا في هذه المقارنة، سوف يكون الواقع التاريخي المضاد لأي إصلاح للنيوليبرالية من الداخل مقابلاً لنظام كينزيّ تمكن من أن يصلح ذاته تفادياً لأن يحلّ محلّه النظام النيوليبرالي «المناهض للنظام». ويقدّم اليمين نفسه، في النزاع على غنائم النيوليبرالية، على أنه «مناهض للنظام» ويطرح مشروع الاستيلاء على المؤسسات. يذكرنا هذا الأمر أن الدعوة إلى بريتون وودز جديد، على الرغم من أن التقدميين الجدد أطلقوها، تنطوي على ما يتجاوز الكتلتين الرئيستين في البلدان التي لا تزال ديمقراطية. وهي تراود أيضاً أنظمة أوتوقراطية مرسخة وبلدان خاضعة إلى حكم الحزب الواحد.

يقدّم اليمين نفسه، في النزاع على غنائم النيوليبرالية، على أنه «مناهض للنظام» ويطرح مشروع الاستيلاء على المؤسسات

يشكّل الانقسام الكبير بين اليمين الذي لا يعرف الخوف والتقدمية الجديدة فضاءات سياسية محلية في البلدان التي لا تزال ديمقراطية، غير أنه ليس لهذا نظير واضح في التحالفات الدولية. فحين تتبنى حكومات متحالفة مع التقدمية الجديدة سياسات تجارة خارجية مثل التوريد الصديق «friendshoring»، فإن «صداقاتها» الجيوسياسية لا تُترجم إلى دفاع عن ديمقراطية شركائها الهشة في أحيان كثيرة. وينبع التوتر الكامن في المعركة على نظام جديد من تباين بين الصراعات الوطنية والصراعات العالمية.

يكمن هذا التباين، إلى حدٍ كبير، في قلب الصعوبات التي تعيق التفاوض على أنماط جديدة من الحوكمة العالمية. ومع استمرار الانقسام السياسي الحاسم في البلدان التي لا تزال ديمقراطية، وغياب أي تحالفات جيوسياسية وطيدة، حتى فيما بين البلدان في الشمال العالمي، يُؤجل أي حوار فعّال للتواصل إلى اتفاقيات عالمية حتى أجل غير مسمى. وما من شيء يشير، حتى الآن، إلى أن هذا النزاع بين اليمين الذي لا يعرف الخوف والتقدمية الجديدة سوف يُحلّ في المدى المنظور.

مع ذلك، لا ينبغي التخلي عن محاولات التفاوض الجارية. فإنجاز معايير جديدة  للحوكمة العالمية قد يصنع الفارق بين الحرب والسلم. وبالنسبة إلى عديد من بلدان الجنوب العالمي، قد تشمل «بريتون وودز جديدة» تخفيف أعباء الديون التي تحتاجها بشدة وتوفير التمويل للتكنولوجيات اللازمة من أجل تحوّل فعّال في مجال الطاقة.

والحال، إن هذا السيناريو المتفائل حتى غير كافٍ. فلا يُمكن لأفق النظام الجديد الذي يجري التفاوض عليه أن يضمن انتقالاً عادلاً بيئياً واجتماعياً. يظل هذا صحيحاً بغض النظر عن واقعة أن ضروب التفاوت العالميّ غير مستدامة، وأن البيئة على شفا الانهيار. وعلى الرغم من أن الخطاب الحالي حول إعادة التنظيم الجيوسياسي والجغرافي-الاقتصادي يتمحور حول هذه المقدمة المنطقية، تناقضها تصرفات أكثر ثلاث دول تصدر عنها انبعاثات كربونية. ففي عهد بايدن، عززت الولايات المتّحدة عمليات التنقيب عن النفط وسرّعت وتيرة عمليات التكسير الهيدروليكي؛ وخفضت الصين من أهدافها المناخية، حيث أعلنت مؤخراً أنها قد لا تتمكن من عكس منحنى الانبعاثات حتى العام 2030، مؤجلةً حياد الانبعاثات حتى العام 2060 في الأقل؛ وحذت الهند حذوها.

إذا ما كان من الممكن إصلاح صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو منظمة التجارة العالمية إصلاحاً حقيقياً، فإن ما صار على المحك هو إرساء الأسس التكنولوجية والإنتاجية لتحوّل في مجال الطاقة. وحتى ضمن هذا الإطار الضيق لتحوّل تقوده تلك المؤسسات متعددة الأطراف، يُرجح أن يستغرق تحوّل كهذا ثلاثة إلى أربعة عقود حتى يكتمل؛ إذا ما كان له أن يكتمل.

بالنسبة إلى دول الجنوب العالمي، سوف تكون كلفة هذا التحوّل باهظة، بغض النظر عن النتيجة. فقد تفرض الإصلاحات معايير مانعة للتحالف الجيوسياسي، معايير قد لا تتمكن عديد من دول الجنوب التي لا تزال ديمقراطية أن تفي بها. وسوف يكون الثمن باهظاً إذا لم يوسع «الإجماع الجديد» نطاقه ليعالج الفقر والتفاوت. وبالنسبة إلى عديد من البلدان، قد تكون التكلفة هي خسارة أي فرصة للهروب من الفخ الاستخراجي الجديد،6 النزعة التي تخنق الاستقلال المحلي لهذه البلدان وتقيّد دورها على المستوى الدولي.

سياسات محلية معولمة

لا يُمكن للبلدان التي لا تزال ديمقراطية في الجنوب العالمي أن تتحمل ترف الانفصال عن شريكاتها من الدول الأوتوقراطية أو الخاضعة إلى حكم الحزب الواحد. وفي الموجة الحالية من تفكك العولمة، لا يكون الانفصال خياراً متاحاً سوى إن كانت الدول تستطيع أن تتحمل تكاليفه. فالتوريد الصديق، بوصفه سياسة في التجارة والأمن القومي، مخصص لمن يستطيعون أن يختاروا أصدقائهم.

لقد أدى مبدأ «الميزة النسبية» إلى إعادة اقتصاد البلدان التابعة اقتصادياً إلى طابعه الأولي وتراجع الصناعة فيها. ففي أميركا اللاتينية، مثلاً، حوّل هذا المبدأ معظم البلدان إلى مجتمعات واقتصادات استخراجية جديدة، على الرغم من حقيقة أن عدداً من الحكومات اليسارية صاغت برامج معارضةً للنيوليبرالية. ولا يوجد سبب لنتهم حكومات ترفض النيوليبرالية صراحة أن لديها نوايا نيوليبرالية. غير أنه من الضروري التمييز بين نواياها والممارسات التي اضطرت إلى أن تتبناها من أجل جعل مشاريعها السياسية قابلة للحياة، نظراً إلى الطبيعة الحتمية للنيوليبرالية بوصفها الإطار التنظيمي العالمي للرأسمالية.

لم يعد هناك، اليوم، مجال لطريق ثالث، سواء في الخطاب أو الممارسة. فعلى المستويين الوطني والعالمي، أصبحت الحكومات اليسارية، أو التقدمية ببساطة، جزءاً من مجال النزعة التقدمية الجديدة. وطغت النيوليبرالية، بوصفها نظاماً عالمياً، على التطلعات المحلية، لتعيد ترسيخ حدود الفعل المتاح للدول الطرفية. تعني «مقاومة» النيوليبرالية، في هذا السياق، استغلال الثغرات الصغيرة ضمن إطار شامل لا يتمتع بمرونة كبيرة. يظهر هذا بوضوح عند تحليل آثار النيوليبرالية في عديد من البلدان الطرفية.

في السنوات التالية للحرب العالمية الثانية، تبنت عديد من بلدان أميركا اللاتينية استراتيجية تنموية كانت تهدف إلى تحقيق قدر أكبر من الاستقلال والاكتفاء الذاتي الإنتاجي، تحت شعار «إحلال التصنيع محلّ الواردات». وكان استبدال الواردات يُعتبر عنصراً أساسياً في خلق أسواق استهلاكية محلية كبيرة والتقليل من الاعتمادية النموذجية على صادرات السلع الأولية أو تقليصها.

مع توطيد النظام النيوليبرالي، أدت عولمة مبدأ «الميزة التنافسية» إلى جعل استبدال الواردات مشروعاً وطنياً مفوّتاً. فقد أدت ما تُسمى «مزايا» أميركا اللاتينية إلى استنزاف المعادن والمنتجات الزراعية، وهو ما حلّ إلى حد كبير محلّ مساهمة الصناعات المعقدة في الناتج المحلي الإجمالي الوطني لتلك البلدان. وشيئاً فشيئاً، وقعت بلدان أميركا اللاتينية في شراك الفخ الاستخراجي الجديد.

أصبحت الحكومات اليسارية، أو التقدمية ببساطة، جزءاً من مجال النزعة التقدمية الجديدة. وطغت النيوليبرالية، بوصفها نظاماً عالمياً، على التطلعات المحلية

على الرغم من أن هذا الفخ يحدّ بشدة من مساحة المناورة بالنسبة إلى المنطقة، فهذا لا يعني أن الخيار الوحيد هو العودة إلى المشروع التنموي السابق؛ فمثل هذه العودة ليست ممكنة ولا مستحبة. فلم تعد الظروف المادية موجودة، كما أن مشاريع التصنيع الوطنية في الماضي اتسمت بالسلطوية وتدمير البيئة وتزايد في التفاوتات؛ وهي قضايا لا ينبغي أن تشكّل نماذج للطموحات المعاصرة.

تتلخص المهمة اليوم، كما في الماضي، في السعي إلى أطر للتنمية المحلية والتكامل الدولي تتيح ممارسة الاستقلال الذاتي على أوسع نطاق ممكن. لكن هذه المرة، لا بد أن يتحقق ذلك من دون مفاقمة التفاوت أو إعاقة التحولات الإيكولوجية أو تهديد الديمقراطية.

لكي يحدث هذا الأمر، لا ينبغي أن ننظر إلى العقود الأربعة من الاستخراجية الجديدة التي حفزتها النيوليبرالية باعتبارها مشكلة اقتصادية بحتة. فالنيوليبرالية في حد ذاتها نموذج أصيل للمجتمع، وليست مجرد مجموعة مبادئ اقتصادية. ويجب قراءة تعبيرها على هامش العالم المعولم من خلال المنظور ذاته. يسري الأمر ذاته على الدعوات الحالية لانتقال إلى ما بعد النيوليبرالية؛ فالشروط التي يجري من خلالها التخطيط للنظام الجديد واتجاهات التنمية المختلفة التي سوف يستلزمها في شتى أنحاء العالم تحتاج إلى التدقيق بكل تعقيداتها.

يتطلب إدراك خصوصية اللحظة الراهنة أيضاً فهم أن الفخ الاستخراجي الجديد لا يُنصب بالطريقة نفسها في كل مكان. والحال، إن تحديد مختلف أشكال الدمار التي خلفتها عولمة «المزايا النسبية» حول العالم هو المهمة النظرية لفهم موقع الجنوب العالمي في ظل تراجع النظام النيوليبرالي.

في عديد من البلدان التي لا تزال ديمقراطية في الجنوب، يجري التعبير عن البعد السياسي لهذا الفخ من خلال الانقسام الأساسي بين اليمين الذي لا يعرف الخوف والنزعة التقدمية الجديدة. ففي البرازيل، على سبيل المثال، وقعت البلاد أسيرة الفخ الاستخراجي الجديد، لتُحاصر بين انهيار المناخ العالمي، من جهة، وإمكان كبح جماح اليمين المتطرف محلياً، من جهة أخرى. فالاستغلال الجائر للموارد الطبيعية، من دون تحفظات أو قيود، هو جزء من أجندة اليمين المتطرف. وعلى العكس من ذلك، يشكّل التخلي عن الاستخراجية الجائرة لصالح بناء مجتمع منخفض البصمة الكربونية إحدى النقاط المركزية المهمة بالنسبة إلى النزعة التقدمية الجديدة. لكن إذا ما كانت النزعة التقدمية الجديدة تهدف إلى أن تواصل دحر اليمين الذي لا يعرف الخوف في الانتخابات وأن تحافظ على برنامجها لمعالجة ضروب التفاوت، لا تستطيع أن تتخلى عن النزعة الاستخراجية الجديدة تخلياً تاماً. هكذا ينصب الفخ الاستخراجي الجديد نفسه بنفسه.

الآتي بعد النيوليبرالية

في سياق هذه المناقشات الإصلاحية، يُرجح أن تكون هناك نتيجتان محتملتان. ربما توفّر الموجة المستمرة من تفكك العولمة الفرصة لعديد من البلدان في الجنوب العالمي لكي تخرج من التبعية، مما يمنحها مساحةً أكبر للفعل. سوف تستغرق هذه السيرورة وقتاً ولا تعني النجاة تماماً من الفخ الاستخراجي. والنتيجة البديلة هي استمرار النيوليبرالية في البلدان الواقعة في شراك الفخ الاستخراجي الجديد. وهذا يعني أن النظامين النيوليبرالي وما بعد النيوليبرالي سوف يتعايشان لفترة طويلة، في طبقات، مع ضروب التفاوت المعتادة، بحسب القوة والحرية النسبيتين في كل بلد. سوف يكون لهذا عواقبه على التحوّل الطاقي، الذي سوف يجب عليه أن يسلك مساراً أخطر، مسار سوف يُشق على نحوٍ غير متساو بين بلدان الشمال والجنوب.7 وقد يعني هذا أيضاً التعايش بين الأنظمة النيوليبرالية التي لا تزال ديمقراطية والأنظمة النيوليبرالية السلطوية، جنباً إلى جنب مع أنظمة ما بعد نيوليبرالية ديمقراطية وسلطوية على حد سواء.

غالباً ما يجري الخلط بين الضرورة الإلزامية لتجنب الحلول الحربية للصراعات الدولية بأيّ ثمن، في البلدان التي لا تزال ديمقراطية، وبين الدفاع عن التقدمية الجديدة. وفي ظل التوازن الحالي للقوى، فإن انتصار معمم للتقدمية الجديدة وحده القادر على أن يحافظ على بعض الديمقراطية محلياً وأن يسمح بتكوين كتل جيوسياسية تستطيع أن تتفاوض على تعايش سلمي قدر الإمكان. ويشكّل الحفاظ الدائم على السلام، بدوره، شرطاً جوهرياً لفعالية أي اتفاق عالمي يهدف إلى معالجة حالة الطوارئ الإيكولوجية.

هذا أفق في غاية الضيق بالنسبة إلى الفعل. ففي الشمال العالمي، تكبح القيود السياسية للتقدمية الجديدة المنشقين النيوليبراليين الذين تؤويهم إلى حد ما، لكنها تقيّد مجالها اليساريّ بشكل أكبر. والموقع التابع لدول الجنوب الي لا تزال ديمقراطية، وتضاؤل هامش فعلها على الساحة العالمية تالياً، يؤدي إلى تشديد القيد المحلي الذي تفرضه التقدمية الجديدة على اليسار.

سوف يظل الجنوب العالمي، حتى مع إمكانية الوصول إلى المساعدات المالية، محروماً من الأدوات النظرية والعملية اللازمة لاستغلال أكبر قدر ممكن من المجال المتاح للفعل

سوف تتفاوت القوة ما بين الكتل الجيوسياسية تفاوتاً كبيراً في المستقبل. ويُمكن لدول الجنوب العالمي التي لا تزال ديمقراطية، بل وعليها، أن تتفاوض على شروط مشاركتها مع البلدان الأوتوقراطية التي تخضع إلى حكم الحزب الواحد. فالأخيرة يهمها أن تحافظ على روابطها مع كتلة جيوسياسية تقدمية جديدة محتملة، في حين أن الأولى لا تميل إلى أن «تفصل» اقتصاداتها عن البلدان التي لا تتحالف مع هذه الكتلة.

حتى في سياق ارتياح دولي وبدايات تحول في مجال الطاقة، لن تنحصر القيود المفروضة على بلدان الجنوب باعتمادها على التمويل الخارجي ونقل التكنولوجيا. وسوف يظل الجنوب العالمي، حتى مع إمكانية الوصول إلى المساعدات المالية، محروماً من الأدوات النظرية والعملية اللازمة لاستغلال أكبر قدر ممكن من المجال المتاح للفعل الذي يُمكن للسيناريو الجديد أن يتيحه؛ بالضبط كما كان الحال قبل أربعة عقود حين بزغت النيوليبرالية. يُرجح أن تظل الأمور على هذا النحو ما لم يقترن النضال من أجل إصلاح فعّال للحوكمة العالمية بجهود ترمي إلى إنتاج هذه الأدوات.

يُحتمل ألا تنعقد «بريتون وودز جديدة»، كما يُحتمل أن يظل الفخ الاستخراجي الجديد مستمراً إلى أمد بعيد. مع ذلك، لا يزال بوسع الجنوب العالمي أن يفعل شيئاً: فبما أن التناظرات قد صارت رائجة، لندع الدعوة إلى بريتون وودز جديدة ترتبط بدعوة إلى نظرية تبعية جديدة.

في ستينيات القرن العشرين، سعت نظرية التبعية إلى فهم الموقع المحدد للبلدان النامية في الاقتصاد والسياسة العالميين. وفي حالة أميركا اللاتينية، ارتبط هذا الاقتصاد ارتباطاً وثيقاً بمبدأ إحلال التصنيع محلّ الواردات و«البنيوية» التقليدية للفكر الاقتصادي للجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية التي اتسعت لاحقاً لتشمل منطقة البحر الكاريبي.

يشكّل تجديد نظرية التبعية أحد السبل لإنتاج الأدوات اللازمة للحظة الراهنة؛ وهو سبيل يُمكن أن يبدأ بتطوير نظرية اقتصادية جديدة، لكن لا يُمكن أن يُختزل بذلك فحسب إذا ما كان يهدف إلى فهم النيوليبرالية فهماً حقيقياً وتمييز اتجاهات إعادة تشكيل ما بعد النيوليبرالية للرأسمالية تمييزاً دقيقاً. فإنتاج الأدوات النظرية والعملية المطلوبة غير ممكن في الوقت الحاضر من دون جهود تعاونية وتشمل تخصصات متعددة.8 وهذه الجهود لا يُمكن أن تقتصر على عمل مجموعة بحثية واحدة أو منطقة واحدة من العالم. ولا يُمكن أن تقتصر على تكييف لصيغ عفا عليها الزمن مع الظروف الحالية. فبادئ ذي بدء، يجب أن تأخذ هذه الجهود في الاعتبار ليس الانتقادات الموجهة إلى النسخة الأصلية من نظرية التبعية فحسب، بل الانتقادات الذاتية التي عبّر عنها منظروها، لا سيّما منذ ثمانينيات القرن العشرين.

في وقت مفاوضات بريتون وودز، لم تكن احتمالية إحلال التصنيع محلّ الواردات ونظرية التبعية موجودة. واليوم، على نحوٍ مماثل، لا توجد أدوات تمكن الجنوب العالمي أن يتفاوض على مشاركته في نموذج جديد محتمل للحوكمة العالمية. وفي البحث عن مرجع تاريخيّ لعمل تعاوني كهذا، قد نجد ضالتنا في حركة العام 1974، عندما تُوِجت الجهود المشتركة للدول النامي بقرارات النظام الاقتصادي الدولي الجديد، النظام الذي يناسب الجنوب أكثر مما كان في العام 1944. وبحلول زمان النظام الاقتصادي الدولي الجديد، كانت نظرية التبعية أداة متاحة بالفعل، وقد جرى استخدامها على نحوٍ فعال في المقترحات المقدمة إلى الأمم المتحدة. مع ذلك، يجب أن نتذكر أن صيغ العام 1974، حتى قبل 50 عاماً، جاءت بعد فوات الأوان: فإطارها الكينزي كان مُحالاً بالنسبة إلى البلدان الطرفية وقتئذ، تماماً كما يبدو بالنسبة  إلى العالم المعولم في الحاضر.

في عالم تتداخل فيه الأزمات، يشكّل صوغ معايير مشتركة تستطيع أن تراعي الظروف الخاصة لمختلف الدول مهمة ضرورية، وإن كانت صعبة. قد يستغرق الأمر بعض الوقت لتشكيل جهود عالمية تنتج هذه الأدوات، كما حدث في مفاوضات بريتون وودز وفي تطوير مقترحات النظام الاقتصادي الدولي الجديد. لكن مهما كانت الهوة شاسعة بين تردد الفعل وإلحاح اللحظة، وبغض النظر عن مقدار الجهود المطلوبة لإيجاد إجابات مناسبة عن عديد من الأسئلة، فإن أكثر مسار فعل علينا تجنبه هو ألا نفعل شيئاً.

نُشِر هذا المقال في Phenomenal World في 26 أيلول/سبتمبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشر في موقع «صفر» بموجب تفاهم مع الجهة الناشرة.

  • 1

    Isabella Weber, How China Escaped Shock Therapy: The Market Reform Debate, London and New York: Routledge, 2021.

  • 2

    تكمن أهمية كتاب كوين سلوبوديان (Globalists. The End of Empire and the Birth of Neoliberalism, Harvard: Harvard UP, 2018)، بغض النظر عن نوايا المؤلف، في ترسيخ هذا الفهم الشائع للنيوليبرالية. باختصار: يقدّم مخططاً تفسيرياً يتبع صوغ مشروع أوليّ فيه تنفيذ تدريجي من خلال النزاعات الثقافية-الأيديولوجية والانتخابية واحتلال الفضاءات المؤسسية الاستراتيجية. فيخدم هذا المخطط، من جهة، جزء من النخب العالمية للانتقال ضمن النظام نحو تنظيم ما بعد ليبرالي. لكن من جهة أخرى، يطمس فهم العمليات الانتقالية بهذه المصطلحات فهم ما يحدث بالفعل. على النقيض من هذا المخطط التفسيري، وكما حدث في زمن انحطاط الصفقة الجديدة ونماذج دولة الرفاه (يُنظَر، مثلاً، François Denord, Néo-libéralisme version française: Histoire d’une idéologie politique, Paris: Demopolis, 2007; Colin Crouch, The Strange Non-Death of Neoliberalism, Cambridge: Polity Press, 2011 and Hagen Schulz-Forberg, “Crisis and continuity: Robert Marjolin, transnational policy-making and neoliberalism, 1930s–70s”, in: European Review of History, vol. 26, no. 4, 2019)، وفي ظل التراجع الحالي للنيوليبرالية، عمل اللاعبون العالميون الرئيسون على إدخال تصحيحات واختبارها، تصحيحات يؤتى على ذكرها حتى في كتب الاقتصاد التدريسية، وإن كان ذلك بوتيرة بطيئة، (على سبيل المثال، Jane Ihrig & Scott Wolla, “Let’s Close the Gap: Revising Teaching Materials to Reflect How the Federal Reserve Implements Monetary Policy,” Working Paper, Board of Governors of the Federal Reserve System, Finance and Economics Discussion Series (FEDS), October 2020).

  • 3

    كما تبيّن Verónica Gago (La razón neoliberal: Economías barrocas y pragmática popular, Madri: Traficantes de Sueños, 2015), Carlos Alba Vega et al. (La globalización desde abajo, la otra economía mundial, Mexico City: Fondo de Cultura Económica/El Colegio de México, 2015), and Arlie R. Hochschild (Strangers in their Own Land: Anger and Mourning on the American Right, N. York: The New Press, 2016) في سياقات مختلفة، في عدة أعمال مرجعية.

  • 4

    Marcos Nobre, Limits of democracy: From the June 2013 Uprisings in Brazil to the Bolsonaro Government. Cham: Springer, 2023

  • 5

    Gary Gerstle, The Rise and Fall of the Neoliberal Order: America and the World in the Free Market Era, Oxford: Oxford University Press, 2022.

  • 6

    يتطلب التوصل إلى وصف شامل لفخ النزعة الاستخراجية الجديدة تقصياً متعمقاً في التحالفات الاجتماعية والسياسية، وضروب الهيمنة الثقافية، والاتجاهات الديموغرافية، وعوامل التكييف الاقتصادي. وسوف يُقدّم هذا البحث بشكل موجز في نص قادم سينشره موقع Phenomenal World.

  • 7

    سوف يكون من المستحيل، في هذا السياق، إقناع البرازيل أو أيّ دولة أخرى وقعت في شراك فخ استخراجي جديد أن تترك نفطها (أو أيّ منتج آخر له تأثير مماثل) تحت الأرض من دون أن يُستغل.

  • 8

    واضح أن هذا الافتقار إلى الأدوات والوسائل ومشاريع الهيكلة لا ينطبق على الصين، بغض النظر عن الموقع الذي يجب لهذا البلد أن يحتله في المجال الواسع لما يُسمى الآن بالجنوب العالمي. وهذه علامة أخرى على أن نظرية تبعية مجدَّدة يجب أن تأخذ في الاعتبار أشكال التبعية فيما بين بلدان الجنوب نفسها. وكذلك، الحاجة إلى ضرورة التمييز بين تركيبة الكتل الجيوسياسية وأنماط التبعية.