الخوف من العدد

  • كاد التخويف من العدد أن يصبح الأداة الأكثر نجاعةً عند من يريد الاستحواذ على السلطة أو للاستمرار فيها. فالعدد هو كابوس يقضُّ مضاجع السلطة.
     
  • الهدف هو تعمية الناس عن كلّ ما يجمع بينهم كمواطنين، ولا سيّما في لبنان، حيث تصبح الأرقام عبارة عن دوائر مُتداخلة من الخوف والتخويف، لصرف النظر عن أساس الصراع الاجتماعي-الاقتصادي، وإيهام الناس بأنّ الخلاف هو فيما بينهم.

تُعطى الأهمية للسكّان في التكوينات المُختلفة من البنية الاجتماعية، بما في ذلك الدينامية المُعقّدة من "التفاعل بين العلاقات الاجتماعية والمكانية والديموغرافية، التي تركِّز على مسألة التكاثر البشري، المُرتبط بتلك الوقائع نفسها، سواء من حيث الأسباب أو النتائج"، على ما يقوله الجغرافي الفرنسي الشهير، بيار جورج، أي بما هي دراسة كمّية للمجتمعات البشرية وحركتهم العامة، وكلّ ما يمكن قياسه من مظاهر الحياة الاجتماعية المُرتبطة بهم. وهذا يعني الاستعانة بالأعداد في الدراسة والتحليل. ولذلك يبرز التساؤل حول ماهية هذه الأعداد، التي كان إبتكارها، بالإضافة للحسابات، "شواهد على العبقرية الإبداعية للجنس البشري"1 .

إلّا أن الأعداد تشكِّل هواجس لدى غالبية السياسين، بصرف النظر عن نواحي انتماءاتهم المختلفة، ولا سيّما، عند وصولهم إلى سدّة الحكم، وخصوصاً في بلدان هذا المشرق العربي، وربّما تحديداً في لبنان.

لماذا يخافون من الأعداد؟

نظرة إلى التاريخ

توجد كتابات كثيرة ومتعدّدة حول موضوع الأعداد، ولا سيّما من حيث تاريخيتها ومدى ارتباط تطوّر المجتمعات البشرية بمآل التطوّر المُحرز في مجالات الاستفادة منها، ومن بينها مرجعين يبدو أنهما رئيسيان في ذلك، وهما كتابين باللغة الإنكليزية: أولهما، لجون ماكليش، الذي عمل أستاذاً للرياضيات في جامعتي كامبريدج وفيكتوريا، وغيرهما في لندن، وتمّت ترجمته للعربية في العام 19782 . أمّا الثاني، فإنه للمستشرقة الألمانية آنا ماري شيميل (Annemarie Schimmel)، وهو بعنوان "سرّ الأعداد"3 ، وهي شغلت كرسي الثقافة الهندو-إسلامية في جامعتي هارفارد وكمبريدج لنحو 25 عاماً (1967-1992)، وتركت العديد من المؤلّفات باللغة العربية عن الإسلام وعن بعض شعرائهم، ولا سيّما المتصوِّفيين منهم.

ربّما، الأمر الذي يتفق عليه المؤرخون في كتاباتهم حول "الأعداد"، هو أنّ اكتشافها يعود إلى تاريخ يرجع بالزمن إلى قرابة 6 آلاف عامٍ، أي إلى ما قبل اختراع الكتابة في سومر، حيث "أنّ خطّ التطوّر بأكمله كان موجوداً خارج أوروبا: في سومر وبابل، أي في بلاد ما بين النهرين (جنوبي العراق)، والصين والهند وشبه الجزيرة العربية. وفيما كان العرب يتبوأون مركز الصدارة في النهضة العلمية بين القرنين السابع والخامس عشر، كانت أوروبا متخلّفة جدّاً في علم الرياضيات"4

والأعداد (les nombres)، هي عبارة عن رموز مُجرّدة، من علامات وأشكال، أي أنها تتكوَّن من أرقام (chiffres): تبدأ من الصفر وتنتهي بالرقم 9، وتعتبر من الشواهد على العبقرية الإبداعية لدى الجنس البشري. وكانت انطلاقتها، من تلك البداية في نظرة الإنسان الأوّل إلى الأشياء المحيطة به، التي لم يكن ليستطيع أن يميّز ما بين العناصر المُتجانسة المكوِّنة للمجموعة نفسها: على سبيل المثال، ما بين أعداد لسرب أو لقطيع من الحيوان نفسه، أو من الأشجار… إلخ، بل يعتبر أنّّ كلًّا منها، هي وحدة مستقلّة، ولا علاقة لها بمثيلاتها، بحيث لا وجود لمفهوم الجماعة، بمعناها الكلّي، والتي تتألّف من عناصر متشابهة، وإنّما على بعض من التنوّع، شكلاً ومضموناً.    

هذا، وبالعودة إلى تأريخ العدد، إذ يبدو أن انتقال الإنسان إلى مرحلة المُطابقة بين الأشياء التي يملكها، وما يناظرها، أو يماثلها في الواقع الملموس عند إنسان آخر، أدّى إلى تمييز المُتشابه فيما بينها، وإلى تقدير من لديه أكثر من الآخر من الأشياء المُتماثلة. وهي مرحلة طويلة من الزمن لم تتوفّر الأدلة التاريخية حولها. وكلّ الكتابات حول الموضوع، أو بالأحرى نتائج الأبحاث الأنتروبولوجية، ولا سيّما ما يتعلّق منها بالشعوب الأولى (والتي يشار إليها بشكل عنصري على أنها بدائية، في حين غالباً ما يشار إليها في كندا على أنها الأمم الأولى "premières nations"، وهي الشعوب الأصلية في أميركا الشمالية)، أظهرت أنّ عمليات العدّ الأولى كانت تتمّ بالحصى أو بعيدان صغيرة، وبعد ذلك تمّ الانتقال لاستخدام علامات تحفر على الأشجار أو الأحجار، بحيث أصبحت كلّ علامة تمثِّل أحد الأشياء المُتشابهة (إنسان، حيوان، عصا… إلخ)، تمثِّل فرداً واحداً ممّا يملكه الإنسان من هذه المقتنيات. أمّا طريقة معرفة مقدار ملكيّة شيء ما، أي حسبتها، فكانت تُمثَّل بخطوطٍ مسنَّنة على عظمة أو على قطعة من الخشب، وهي "الأكثر توثيقاً على المستوى التاريخي في طرق المحاسبة"5

هذه الطريقة من المقارنة بين الأشياء المملوكة، والتي يستدل عليها من خلال تمثيلها بحصى أو بعلامات، شكّلت اللبنة الأساسية في تطوير معرفة الإنسان في التعامل مع الأعداد، بحيث "لا ينبغي لأحد أن ينسى أيضاً أن حساب التفاضل والتكامل مشتقٌّ من الحساب، بمعنى (حصاة)، في إشارة إلى العدّ بالحصى، وبحيث كان لكلّ حضارة علامات للأرقام الخاصة بها"6 ، وهي التي شكَّلت الخطوة الأساس في تطوير الفكر البشري نحو مراحل أكثر تعقيداً، وأكثر تجريداً، عندما أصبح الإنسان يتعامل مع غيره، سواء كان في التجارة، أو عن طريق المبادلة والمقايضة، إذ أن الإنتقال لاستخدام أصابع اليد، شكَّل النواة الأولى، لظهور الأنظمة العددية، والمُتمثّلة في النظام الخماسي أو العشاري، (أصابع اليدين العشرة عند الشخص الواحد)، بحيث أن ما حصل بداية في ميدان الرياضيات، الذي تمّ وإلى حدّ كبير، كاستجابة ضرورية لاحتياجات الأنظمة البيروقراطية الأولى، في الحضارات القديمة، التي كان من أولى اهتماماتها تنظيم عملية الإنتاج في الزراعة، مصدر الرزق الأساسي، للحكّام وللناس على حد سواء. ما استدعى الحاجة لقياس المساحات المزروعة، وذلك بهدف فرض الضرائب على المزارعين، بحسب الحصص الموزَّعة عليهم، وما إلى ذلك، إذ "يظهر تاريخ العدد أنّ معظم التطوّرات في نظرية الأعداد أنجزها علماء رياضيات يعملون في حلّ مشكلات ترتبط بالحاجات السائدة في أزمانهم، مثل مشكلات إيجاد طريقة للتنبؤ بفيضان نهر النيل، أو إجراء تقديرات دقيقة للضرائب، أو حلّ شفرة العدو في أوقات الحروب"7 .

الصفر هو كلّ شيء

هذا النظام في العدّ، الذي تطوَّر إلى ما هو سائد حتى يومنا هذا، في الاستخدامات الحسابية والرياضية، كان لمختلف الشعوب دور في المساهمة به، وإنّما بأشكال مختلفة ومتتابعة من التطوّر باستخداماته (السومريون، البابليون، المصريون، اليونانيون، الرومانيون، المايا، الصينيون، الهند، المسلمون، أوروبا القرن الثامن عشر، إلخ). وتقضي الإشارة هنا، إلى ما قدّمته دول الخلافة الإسلامية التي امتدّت عبر بلاد فارس والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجزءًا من الهند، وآسيا الوسطى، إلخ، من مساهمات كبيرة في مجال الرياضيات. فمنذ القرن الثامن فصاعداً، وعلى أثر إنشاء بيت الحكمة في بغداد، نحو سنة 810 ميلادية، بدأت على الفور ترجمة الأعمال الرئيسية لما وصلت إليه علوم الرياضيات والفلك من اللغة اليونانية والهندية إلى العربية، والذي عهدت إدارته لعالم الرياضيات العربي، الفارسي الأصل، محمد الخوارزمي، والذي أصبح من أهمّ علماء الرياضيات المسلمين الأوائل، وربّما كان من أهمّ مساهماته في هذا المجال، دعوته لاعتماد نظام العدد الهندوسي المؤلف من عشرة أرقام (0، 1، 2،… 9)، بحيث حصل، وللمرّة الأولى أن يتمّ العثور فيها، على آثار لها في الشرق الأوسط، وهذا ما أكّدته شهادات لا حصر لها من جميع المتخصّصين والأصول، حتى من العلماء المسلمين والعرب أنفسهم. وجاء ذلك "في كتاب سوري مؤرّخ في العام 662 ميلادية، أي قبل أن يعرف الغرب شيئاً عن هذه الممارسات، بوقت طويل، بحيث كان العلماء العرب يستخدمونها لتأليف أعمال رياضية"8 . ويعود الفضل أيضاً للعلوم الهندوسية في ابتكارهم للرقم صفر (0)، والذي يعني من حيث دلالته اللفظية، الفراغ أو اللا شيء، في حين أنه من الناحية الحسابية والعلمية هو كل شيء. فهذا النظام الثنائي، من العددين المتمثلين بالصفر والرقم واحد، شكَّلا أساس لغة الكمبيوتر. هذه الصناعة، التي تكاد أن ترتبط بها التطوّرات كافة في جميع مناحي الحياة البشرية، وكتاب محمد بن موسى الخوارزمي في الجبر والمقابلة، الذي صدر بحدود العام 800 ميلادية، تمّت ترجمته إلى اللغة اليونانية حوالى العام 1143 ميلادية، وشكّل ثورة في مجال الرياضيات والعلوم الهندسية، ولا سيّما ما وضعه من أسس فيما يُسمّى الخوارزميات، والمقصود بها كلّ ما له علاقة بتسهيل إجراء العمليات الحسابية (جمع، قسمة، ضرب، جذر تربيعي، إلخ). وليس من المغالاة بشيء أنّ مجالات العلوم كافة، سواء المُسمّاة بالعلوم البحتة، والتكنولوجيا بأنواعها كافة، أو في مجالات الطبّ، والعلوم الإنسانية، أو المجتمعية تحديداً،  وخصوصاً في برامج الحواسيب (الكمبيوترات)، كلّها لم يكن لها من وجود لولا اكتشاف الأعداد، بحيث أن اختراع الرقم صفر (0)، كان له بالغ التأثير في تقدّم العلوم، وفي مجالاتها كافة. هذا و"أن مقدار الثقة التي تحظى بها الأرقام، جعلت منها أداة أساسية، حتّى في مجال علم النفس، بحيث توصّل من خلالها ألفرد بينه في العام 1904 لابتكار أول اختبار عقلي، قابل للتطبيق على البشر، يقيس من خلاله معدّل الذكاء بين البشر، من خلال اختبار الـ(IQ)"9 ، والقائم على سلّم من الدرجات، أو الأعداد، تتراوح ما بين (55 و145)، أي من العدد الأقل، الذي يشير إلى مستوى من الذكاء المتدنّي، إلى الأعلى قيمة، الذي يمثّل درجة العباقرة، مروراً بمن يصنّفون أنهم في المستوى الطبيعي المحصور بين العددين (85-115). ومن المُسلّم به بين المشتغلين في ميدان الإحصاء والأرقام، على أن المعرفة العددية لم تصبح في متناول العلماء الغربيين إلّا بفضل النهضة العلمية العربية، تلك النهضة المستندة إلى ترجمة العلوم من اللغات الأخرى (هندية، آشورية، بابلية، إلخ) ومن ثمّ إلى اللاتينية، ما أتاح للشعوب الأوروبية فرصة الاطلاع عليها. وانطلاقاً من هذه المعرفة انطلقت حركة علمية ناشطة في ميداني الرياضيات والحساب، قائمة على العدد، ما أدّى إلى بروز عباقرة في الرياضيات والفيزياء، أمثال جون نابيير، العالم الاسكتلندي (بريطانيا، 1550-1617) في اللاهوت والفيزياء والرياضيات، والذي يعود الفضل إليه في إبتكار اللوغاريتم، الذي يتم استخدامه في الرياضيات وفي تبسيط العمليات الحسابية المعقّدة، وكذلك في مجالات علمية أخرى متعدّدة (الزلازل، البحار، تواريخ الترسبات والمواد المشعّة، الخرائط، الطبّ، إلخ).  

لنأخذ على سبيل المثال الإحصاء، والذي شكّل السند الرئيسي في كافة الحقول المعرفية (السوسيولوجيا، الجغرافيا، التعليم، علم الاجتماع، علم النفس، الاقتصاد، وحتّى علم النفس، عالم المال، الطبّ، وتحديداً الدواء، إلخ)، ولا سيّما في المجالات المالية، حتى بدأ العمل بالعملة الرقمية (البتكوين)، إنها أداة لرصد الأحداث وتسجيلها في كافة المجالات. ولطالما شكّلت الأرقام والإحصائيات المتعلّقة بالسكان المادة الأولية، سواء كان ذلك في وصف حال الظواهر الديموغرافية (الولادة والوفاة والهجرة)، أو في مجال التحليل والتوقّع لمسارات تطوّرها. حتى أن بعض المهتمين في هذا المجال المعرفي، يعرِّفون الديموغرافيا على أنها "الدراسة الإحصائية للسكّان البشر"، والتي يتم استيفاء أعدادهم من أربعة مصادر أساسية، وهي: التعدادات السكانية، إحصائيات الأحوال الشخصية، المسوحات الديموغرافية بالعّينة، والسجّلات السكانية10 . وهكذا، فإن الإحصاء هو الركيزة التي يتزوَّد بها الباحثون في مقاربة المسائل والموضوعات الديموغرافية سواء على صعيد التحليل أو التفسير.

ما هو هذا الإحصاء، الذي تتميّز به الديموغرافيا، عن بقية فروع علم الاجتماع، وعلى أنها الأكثر استعانة به في حقول دراساتها. إذ رأى جيرار كالو (gérard Calot)، أحد أبرز الوجوه العلمية الفرنسية في ميدان الإحصاء، أن سمات القرن العشرين، لجهة التطوّر الحاصل في ميدان الإحصاء، حيث باتت جميع الشؤون الحياتية وتطوّرها مرتبطة به، وحيث أن قضاياه أصبحت تشكِّل أحد العناصر من الثقافة العامة في المجتمعات البشرية. والإحصاء هذا، كعلم، يقوم على العدد، الذي يشكِّل مصدر الإحصائيات وأساسها. وإنّ وجود الإحصاء ارتبط بالعدد نفسه. 

وبالعودة إلى التاريخ، يتبيّن أنّ خطّ التطوّر البشري المُتمثّل بنشوء حضارة المدن، قبل قرابة 6 آلاف عام، والمتسمة بظاهرة نمو المراكز السكانية، ومخزونات في الثروات الضخمة والمنتوجات الزراعية، وتطوّر في بعض المجالات الحياتية الأخرى مثل التجارة والملاحة وتخطيط المدن والحروب، كلّها حاجات حتّمت نشوء المهارات الرياضية، مثل الحساب والجبر والهندسة وعلم المثلثات، وهذه جميعها ارتبطت بالعدد واستخداماته، فلولاه لما تمّ نشوؤها. وانطلاقاً من هذا الترابط بين خطّ التطوّر البشري والعدد، أدّى بالضرورة لاستنباط معادلات تسهّل إجراء العمليات الحسابية العددية المعقّدة أو المطوّلة. 

هذا الفهم الأول، والبدائي، مع مفهوم العدد، وفي كيفية تعامل الإنسان مع الأشياء وخلافه من السلع، انسحب، على ما يبدو عند غالبية حكّام العالم العربي، ولا سيّما في هلاله الخصيب (المشرق العربي)، سواء في نظرتهم أو في تعاطيهم مع الناس، كأنهم أكوام من الأشياء المتنوّعة، والتي يتم التمييز فيما بينها، على أساس المذهب والدين والعرق والجهة، إلخ، وللاستعمال حسب مقتضيات الضرورة والحاجة، بالطبع الذي يقدّرها المالك. وهذا ما عبًر عنه، وبطريقة مماثلة، الباحث محمد عبد الله فضل الله "بل نريد سلطة ومجتمعاً نصل فيه إلى مستوى يحترم فيه عقل الفرد وكرامته ومشاعره، ولا يجري التعامل معه على أساس أنه رقم في حسابات البعض ولا قيمة له إلّا في خدمته لمنافع الآخرين"11 .

التخويف من العدد، أساس أنتروبولوجي

يلحُّ السؤال على العلميين الاجتماعيين عن الدولة الوطنية، التي ضمرت في بلدان المشرق العربي ولا سيّما في سوريا والعراق، وعن إنعاش "الهويات القاتلة"، وهو عنوان الكتاب الذي ألفه أمين معلوف باللغة الفرنسية، والذي يشير فيه إلى الهويات ما قبل الوطنية، بحيث تستحضر لغة التخويف من الآخر، المختلف، لا سيّما، بل تحديداً، على قاعدة الدين والمذهب والعرق، إلخ.

وهي اللغة التي حفَّزت وأطلقت عنانها ما قامت وتقوم به داعش في كلّ من سوريا والعراق، وكذلك بعض الخطاب، المبرِر لخطابها، في إضفاء دور للأديان او للمذاهب كمصدر أساس للتمايز المجتمعي بين الناس والمواطنين.

وأصبح خطاب التخويف يشكّل القاسم المشترك حتى في وجهات النظر التحليلية للمآسي التي تجتاح تحديداً سوريا والعراق. وهو ما يطال بتردّداته، البلدان الأخرى: فلسطين المحتلّة ولبنان والأردن.

ويقوم هذا التخويف على قاعدة المسألة العددية، مثل تخويف الأقلية من الأكثرية، والكثرة من تحالف الأقليات، وصولاً واستتباعاً خوف الحاكم من المحكوم، وهذا الأخير من الأول، وهكذا دواليك. حتّى كاد التخويف من العدد أن يصبح الأداة الأكثر نجاعة، عند من يريد الاستحواذ على السلطة، أو الاستمرار فيها، في استخدام الأعداد، فيما هي عليه من تفاضلات بين مكوّناتها الاجتماعية، ولا سيّما فيما يتصل منها بالمذاهب والأديان والأعراق. ويستمرّ في الوقت عينه كابوساً يقضُّ مضاجع سلطة الحكّام، وإلّا كيف يفسّر ما كان يحصل عليه البعض في الاستفتاءات الرئاسية، هذا إن حصلت، من نسبة في الأصوات لا تقل، إلّا فيما ندر، عن 95% ممن هم بعمر الاقتراع، حتى وإن كان قسماً منهم خارج أوطانهم.

الخوف، والتخويف من الآخر، المتميّز بسمة معيّنة، لا سيّما فيما إذا كانت تمت بصلة للدين، وخصوصاً إن اقترنت بالعدد، موضوعان مُتجذّران في هذا المشرق، منبع ومكان نشوء وامتداد الديانات الموحّدة، التي وإن صحّت مقولة يوسف زيدان، الروائي والمفكّر المصري، حول التفاعل فيما بينها، على أنه لم يقتصر على التعاقب الزمني فقط، وإنّما تعدّى ذلك إلى "عمليات جدلية مؤكّدة أن جوهر الديانات الثلاث في واقع الأمر هو جوهر واحد. وإن اختلفت تجلياته بحسب الزمان والمكان" (يوسف زيدان، ص. 33). وأن ظاهرة الخوف من هذه الحسبة "العددية غير المتساوية بين شعوب ومكوّنات بلدان المشرق العربي، أو في كلّ منها، تبدو على أنها، وربما فيما يتجاوز العلاقات السياسية، مسألة متجذّرة في اللاوعي الديني التوحيدي للناس، وتجد جذورها في كتاب التوراة، مصدر التوحيد، وكأن الأمرَ مرتبطٌ بما اكتنفه العدد من حرم ديني إلهي. ففي القصص التوراتية يعود الناس إلى خالقهم، وهو وحده الذي يعلم عدد شعبه. فهو المالك الوحيد، وله الحق وحده بأنّ يضع قوائم الجرد لممتلكاته، وكأننا نستعين في ذلك بالدكتور رشيد الضعيف، في روايته الأخيرة "الأميرة والخاتم"12 ، حيث يستحضر فيها فلسطين وسيّدها المعلم، الذي يبشّر بانتهاء ما العالم عليه، وذلك، كنتيجة للعدّ وللإكثار من استخدامات العدد في الوصول للسلطة أم للاستئثار بها.

وإن انتهاك هذه المجالات المعهودة للخالق والمحفوظة له، تعتبر على أنها سرقة لسرّ إلهي تقضي عقاباً منه، كما حصل مع النبي داوود عندما طلب من يوآب ورؤساء الشعب قائلاً "اذهبوا عدّوا إسرائيل من بئر السبع إلى دان، وأتوا إليّ فأعلم عددهم (سفر، أخبار الأيام الأول، الإصحاح (الفصل الحادي والعشرون، آية رقم 2)13 . وجاء العقاب من الله قاسياً فجعل الله وبأ في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد، فمات من الشعب من دان إلى بئر السبع سبعون ألف رجل" (سفر صموئيل الثاني، الإصحاح الرابع والعشرون، آية 15). حتى أن بيتاغوراس (570 – 495 ق.م.)، اعتبر أن علم الأعداد من المعارف المقدّسة، وكان يلقنها شفهياً لبعض تلامذته من المختارين. وقبل ذلك، وفي بعض الحضارات القديمة، زمن حمورابي، أي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، حيث اعتمد التقويم على مراحل القمر الشهرية، اعتبرت الأيام (7، 14، 21 و28 من كلّ شهر) على أنها فترات غير محظوظة، تقتضي تجنّب القيام بأنشطة مُحدّدة. أضف لذلك كله، فلا زال عند بعض الشعوب، ما يحفظ في ذاكرتها، أن بعض الأرقام هي دليل على التشاؤم وسوء الحظ، ما يدخلها في باب التطيّر، إذ على سبيل المثال، فإن الرقم 13 يحظى بين سكان الولايات المتحدة الأميركية بقدر من الشؤم وسوء الطالع، لذلك يحاول الناس تجاوزه، وتحاشي استخدامه، حتى في ترقيم أزرار لوحة الطوابق في المصاعد، بحيث يتم الانتقال مباشرة من الرقم 12 إلى الرقم 14.  

وهنا، في لبنان، تبدو العبرة بأحسن تجلّياتها، بحيث يستمر، ليس العدد نفسه، وإنّما حتى تقديراته، سواء فيما يعني سكانه، من حيث توزّع أحجام مكوّناتهم الدينية والمذهبية، وما آلت إليه، بمرور الزمن من تعديلات في موازينها النسبية، أو مدخراتهم المالية، أو بالأحرى ما تبقى منها، لأن المعرفة، ولا سيما المدعَمة بالمنهج الكمّي، حيث تكون الأرقام عمادها، قد تدمّر البلد وناسه، فإنها من المعارف ذات "الحرم"، كما كانت عليه حال الأعداد في كتاب التوراة، وإلا الويل والثبور وعظائم الأمور، حيث لا يعرف تفاصيلها، سوى البعض من تلامذة السارقين. 

هواجس الخوف

مع اندلاع الانتفاضات الشعبية، ومع بلاغة الأنظمة في استخدامها الجناس في توصيف ذلك "على أن الثورة ثور والشعب شغب" على ما جاء في مقالة للدكتور الطاهر لبيب بعنوان "أسئلة الثورة (مجلة الطريق، عدد خاص، صيف2011، ص. 29)، وكذلك ما جرى ولا يزال في سوريا والعراق، والمستمرّ منذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ولا سيّما في قطاع غزة، من أعمال عسكرية يشكّل امتحاناً عسيراً للنخب، وللشباب تحديداً في التأسيس لتغيير ما طال انتظاره في وعي الجماعة، فاعلة أو متلقية، بقدرتها على بناء "الذات الفاعلة جماعياً" (الطاهر لبيب، ص. 30)، وبما يتيح توفير إمكانية التصدّي لتلك الإثارات المذهبية بين المسلمين والدينية مع غيرهم من طوائف أخرى. وربّما من نافل القول من التأكيد على أن هذه الاثارة جهدت وتجهد الدول الخارجية في الاستفادة منها، بل والعمل على تعميقها باستمرار، وكأنها استجابة للنصيحة التي قدّمتها جامعة هارڤرد في مدينة كامبردج (ولاية ماساتشوستس، الجامعة الأميركية الأقدم والأكثر شهرة في ميدان علم الاجتماع، وذلك منذ منتصف القرن العشرين في كيفية تعاطي الإدارة الأميركية مع المجتمعات التعددية، بحيث دعتها للمحافظة على التمزق الإقليمي والطائفي في المجتمع العربي والعمل على تعميقه (د. حليم بركات، ص. 114-118). بحيث يتوافر العديد من المقولات المؤكدة على هذه المقولة، ولنأخذ على سبيل المثال ما يقوله بهذا الصدد العلامة السيد هاني فحص: "دائماً هناك من يفرقنا ودائماً كنا نفترق، ليس لأن الآخر يريد منا ولنا ذلك، بل لقابلية فينا تكتمل بارادة الآخر (جريدة السفير، عدد 12175، تاريخ 5/4/2012)". وحتى اختيار فلسطين كياناً جغرافيا لقيام الدولة الصهيونية، تمّ لخصوصية جغرافية-سياسية غير متوافرة سوى في بلدان هذا المشرق العربي: التنوّع الديني، المذهبي، الطائفي، الإثني، اللغوي، إلخ.

وما تشهده هذه البلدان المشرقية من حراك في السياسة، كما في "العسكرة" يترافق مع خطابات وتحليلات غالبيتها ذات طابع انحيازي، بحيث بدأ خطاب التخويف، يشكّل الجامع المشترك في مقاربة مجريات الأمور السياسية والعسكرية، وإن كان صحيحاً فيما يعود للتنظيمات الاسلامية المتشدّدة، ومفاده تخويف الأقليات، أية أقلية دينية، عرقية، سياسية، من الأكثرية. يقابله تخويف مضاد للكثرة من تحالف الأقليات، تحت أي مسمى انضووا. وأن السند الذي يبنى عليه هو العدد نفسه، فالمواطنون أرقام يجري عدّهم، ليس بقصد المعرفة العلمية لضرورات مجتمعية، تتطلّبها أوضاعهم المعيشية والاقتصادية من عناية، وما تقتضيه من سبل لتحسينها، بل لاستخدام ذلك التنوّع الديني، كأداة في الممارسة السياسية، وفق الوجهة التي تتطلّبها المصالح الخاصّة، للحكام والمسؤولين، بما يحقّق غاياتها ومقاصدها، في تعمية الناس عن كل ما يجمع بينهم كمواطنين، ولا سيّما في لبنان (البلد الأنموذج في كلّ ذلك)، حيث تصبح الأرقام عبارة عن دوائر متداخلة من الخوف والتخويف، لصرف النظر عن أساس الصراع الاجتماعي- الاقتصادي، وإيهام الناس بالخلاف فيما بينهم (حكّاماً ومسؤولين)، على السلطة، الممرّ الإلزامي لنهب المال العام، وتقاسمه (نظام المناهبة، على ما يسميه الدكتور أحمد بيضون)، أو الاستئثار به، من جهات سياسية معيّنة أكثر من أخرى غيرها، حتى لو أدى ذلك للانهيار المالي، الصحي، الاستشفائي، المعيشي… إلخ.
 

  • 1جون ماكليش، مجلة عالم المعرفة، العدد 251، الكويت، يناير 1978، ص: 10
  • 2جون ماكليش، مجلة عالم المعرفة، العدد 251، الكويت، يناير 1978.
  • 3Annemarie Schimmel, The mystery of numbers, new york, oxford university press,1993
  • 4جون ماكليش، العدد، مرجع سبق ذكره، ص: 15
  • 5Georges Ifrah,histoire universelle des chiffres, éd : Robert Laffont, Paris 2003, P:157.
  • 6Annemarie Schimmel, Mystery Of The Numbers,oxford University Press,New York 1993.P:5
  • 7جون ماكليش، العدد، تأليف جون ماكليش، وترجمة د. خضر الأحمد ود. موفق دعبول، مجلة عالم المعرفة، الكويت،العدد 251، 1999، ص: 11
  • 8Annemarie, opcit, P;6
  • 9Hervé lehning, les livres des nombres, éd : Flammarion, France 2021, p : 16
  • 10لمزيد من المعرفة حول هذه المصادر ومضامينها، يمكن الإطلاع على المصدر التالي: - Jean- Claude Chesnais, éd:PUF, collection que sais-je, Paris 2010. (Pages : 5-19)
  • 11محمد عبد الله فضل الله" عن الأخلاق وأهل السلطة والمجتمع: متى يُسمح للذات بأن تتنفس؟" جريدة الأخبار اللبنانية، 8 نيسان 2019.
  • 12الدكتور رشيد الضعيف، الأميرة والخاتم، منشورات دار الساقي، بيروت 2020
  • 13سفر اخبار الايام الاول، الاصحاح الحادي والعشرون (آية 1 و2) وسفر صموئيل الثاني، الإصحاح الرابع والعشرون (الآيات 10، 11،12،15،17).