استرجاع البحر: الملاحة اليونانية والاستعمار ومناهضته

  • يسمح قانون البحر للبلدان باستعمار البحر، وتوسيع حدود التعدين من 6 إلى 200 ميل بحري من اليابسة. وبالفعل، عندما نوجّه أنظارنا نحو البحر، نجد أنفسنا في طيّات حاضر استعماري مُقلق عفا عنه الزمن.
     
  • شكّلت اليونان من ناحية معقلاً برّياً ضدّ هجوم سوفياتي مُحتمل عبر مقدونيا وتراقيا، ومن ناحية أخرى معقلاً بحرياً ضدّ استقلال العالم العربي وتأميم احتياطاته النفطية الغنية، الذي يشكّل تهديداً للتأثير الغربي في الشرق الأوسط والأدنى منذ فترة إنهاء الاستعمار.
     
  • يعرّف الصوماليون البحر على أنه استمرارية للصحراء، ومجموعة من الكرفانات العائمة وشبكة من المسارات التي تعبرها القوارب، وينظر إليه بوصفه مشاعات مجتمعية توفّر السلع لتغذية عملية إعادة التوزيع وليس كملكية، ويرون أنفسهم حماة لهذه المشاعات وعملية إعادة التوزيع.

المُلكيّة والبياض في البحر

تبدأ أستاذة القانون والباحثة في نظرية العرق النقدية، شيريل هاريس، مقالتها المؤثّرة بعنوان "البياض كملكيّة" بقصّة جدّتها. ففي عصر قوانين جيم كرو في جنوب الولايات المتّحدة في ثلاثينيات القرن الماضي، أتاح لون بشرة الجدّة الباهت بعبورها كبيضاء وحصولها على وظيفة كسكرتيرة في مكتب داخل المدينة، لكن بعد العمل كانت الجدّة تعود إلى حيّها الفقير، وهناك تعود "سوداء" مرّة أخرى، في استحضار لوجهة نظر هول القائلة إن "العرق هو وضع تُختبر الطبقة من خلاله". من خلال مراجعة قضايا المحاكم التاريخية، تُظهر هاريس كيفية إخضاع الملكية للأحكام العرقية في مستعمرة المستوطنين التي أصبحت تُعرف لاحقاً بالولايات المتحدة الأميركية.

خلق المستوطنون الأوروبيون البيض الملكية وراكموها من خلال نظام قمع مزدوج قائم على استعباد العمّال السود والاستيلاء على ناتج عملهم، وسرقة أراضي السكّان الأصليين والاستحواذ عليها. اعتُمد القمع المزدوج بشكل أساسي عبر ممارسة القوّة المجرّدة وبات قانوناً ونظرية. جعلت العنصرية الممأسسة – في الشرطة والقضاء والاقتصاد السياسي وأيضاً في النظرية الاجتماعية – من الهوية البيضاء معياراً للامتياز والملكية والعدالة والأمن، فيما أدّى غيابها إلى تحوّل الشخص المعني إلى مجرّد غرض قابل للتملّك. وتضيف هاريس بأن الملكية لم تكن الملكية بيضاء فحسب، بل محصورة بالبشر الأحرار.

إن عبور جدّة هاريس كموظّفة بيضاء في المجتمع العرقي لأكبر استعمار استيطاني مرّ على هذا الكوكب، سبقه العبور الوحشي لأسلافها العبيد الأفارقة قبل بضعة قرون. شكّل استئصالهم الجماعي الهمجي من أراضيهم ونقلهم إلى أراضي أخرى جزءاً من ما سمّي بالتجارة المُثلّثة (أوروبا، أفريقيا، أميركا)، التي اقتلعت ملايين الأفارقة واستعبدتهم بوحشية على مدار 350 عاماً. بين عامي 1525 و1866، نُقِل نحو 12.5 مليون امرأة ورجل وطفل من الساحل الغربي لأفريقيا عبر المحيط الأطلسي كعبيد إلى الكاريبي وأميركا الشمالية وأميركا الجنوبية، ولقي نحو 1.8 مليون شخص حتفهم خلال الرحلة التي استمرّت 21 إلى 90 يوماً في العنابر الخانقة والمزدحمة للسفن الأوروبية.

إذا كان ممر السلاسل المُصفّدة عبر المحيطات قد حوّل جزءاً من البشرية إلى ملكية بيضاء في "العالم الجديد"، فإن السيطرة الاستعمارية على الممرّات البحرية شكّلت أسس انتشار الرأسمالية العرقية على نطاق الكوكب، وكذلك العقائد المجاورة لمفهوم البياض كملكية، بحيث سهّلت السيطرة الاستعمارية للخطوط البحرية إنشاء أرخبيل من البنى التحتية القانونية والسياسية والاقتصادية، التي ما زالت تشكّل حتى اليوم ركيزة العالم الرأسمالي إلى حد كبير. أدّى استعباد الأفراد وبيعهم، ولا سيما نقلهم القسري عبر المحيط الأطلسي، إلى بروز ابتكارات في المجال المصرفي والتأمين والأسواق المالية وأدوات المضاربة وفق ما تكتبه لالي خليلي في خاتمة عدد خاص عن الرأسمالية والبحر شاركت في تحريره مع المؤرِّخة مروة الشكري. في مقدمة هذا العدد الخاص، نؤكد مروى وأنا أن الرأسمالية الاستعمارية العرقية أطلقت "مثلّث من القوة" في سعيها إلى تحويل البضائع والأماكن والناس إلى ملكية تسليعية خاضعة للتصنيف العرقي، وقد تمثّل هذا المثلث بعنف غير مسبوق وشبكات مرور جديدة (غالباً أعيد اكتشاف الشبكات السابقة) وميادين علمية (الملاحة ورسم الخرائط والجغرافيا)، التي نشأت من خلال دمج أو حظر المعارف الخاصة بالسكّان الأصليين.

تُعدُّ السفينة الشكل الأبرز للملكية الخاصّة في البحر. منذ ظهور الاستعمار البحري وحتّى يومنا هذا، كانت السفينة واحدة من البنى التحتية الرئيسة في خلق الملكية على اليابسة ومراكمتها

أُطلِق هذا الرمح الثلاثي الرؤوس بواسطة المدافع ومخازن السفن الاستعمارية وقمراتها، وأيضاً من خلال مكاتب الشركات الاستعمارية مثل شركة الهند الشرقية النافذة (East India Company). أثارت هذه البنى التحتية العائمة موجات منيعة من الغزو والتسليع، وترافقت مع نشر الكتاب المقدس وعقيدة الملكية (البيضاء) بحماسة لافتة. في هذا النص، أعكس أفكار هاريس عن البحر، مستكشفاً آثار البياض والرأسمالية العرقية في الأزرق الكبير. وفي حين ارتكزت هاريس إلى قصّة جدّتها لاستكشاف عقيدتي البياض والرأسمالية العرقية، سوف أستعين بالسفن اليونانية كركيزة في البحث.

السفينة كأداة تحليلية لمناهضة الاستعمار

تُعدُّ السفينة الشكل الأبرز للملكية الخاصّة في البحر. منذ ظهور الاستعمار البحري وحتّى يومنا هذا، كانت السفينة واحدة من البنى التحتية الرئيسة في خلق الملكية على اليابسة ومراكمتها. لقرون عدّة، نقلت السفن الاستعمارية السكّر والفضّة والبهارات والعبيد من المستعمرات إلى العواصم، وكذلك ساهم تنقّلها في إنشاء القانون الدولي والشركات المساهمة وغيرها من الأسس الاقتصادية والقانونية لعالم ما بعد الاستعمار. بالطبع، برزت حالات لسفن قاومت الاستعمار إمّا من خلال حالات التمرّد ومجموعات القرصنة (Rediker, Graeber يصدر قريباً) أو من خلال حمل رياح التمرّد المنبثقة عن ثورة العبيد الأولى الناجحة في هايتي في مطلع القرن التاسع عشر (Scott, the common wind).

اليوم، وعلى الرغم من التطوّر التكنولوجي والنقل الجوي، لا تزال السفن التجارية تشكّل الشريان الرئيسي للعالم الرأسمالي لما بعد الاستعمار. نحو 80% من حجم التجارة العالمية، وأكثر من 70% من قيمتها تتم عبر البحر، كما هو الحال بالنسبة لـ 95% من الاتصالات العالمية. صحيح أن السفن لم تعد تنقل العبيد حالياً، إلّا أن العمالة البحرية لا تزال وبشكل متزايد عرضة للتمييز العنصري، والظروف الهشّة وانعدام الأمن الوظيفي (tsimouris 2022). مع ذلك، تحوّلت البحار مجدّداً إلى مقابر جماعية للأجساد السوداء والسمراء، لقد فتح الممرّ الهمجي وسط الأطلسي طريقاً مميتاً وسط البحر المتوسّط: حيث لقي أكثر من  17,000 شخص حتفهم على طول هذا الطريق منذ عام 2014 وفقاً لمنظّمة الهجرة الدولية.

اليوم، تحمل الناقلاتُ النفطَ والميثان (أو ما يسمّى الغاز الطبيعي)، وهي طاقة دفينة ومخزّنة في عمق الأرض منذ آلاف السنين. وتُستخرجُ الأسماك والمعادن والوقود الأحفوري بطرقٍ غير خاضعة لأي مساءلة ما يُغذّي التخيّلات المتُعلّقة "بالنمو الأزرق" المستوحاة من الاستعمار. ويسمح قانون البحر للبلدان باستعمار البحر، وتوسيع حدود التعدين من 6 إلى 200 ميل بحري من اليابسة. وبالفعل، عندما نوجّه أنظارنا نحو البحر، نجد أنفسنا في طيّات حاضر استعماري مُقلق عفا عنه الزمن، على متن سفن تجارية حديثة ليست مجرّد جهات فاعلة عالمية لاقتصاد مُرتكز على الرأسمالية العرقية فحسب، بل هياكل أكثر حدّة لإعادة إنتاجها في البحر. إقترح سيدريك روبنسون مصطلح "الرأسمالية العرقية" في كتابه المهمّ "الماركسية السوداء: صناعة التقليد الراديكالي الأسود"، مدفوعاً بمعارضته لما اعتبره الإيمان الأعمى بالتطوّر التاريخي، وأيضاً بالعنصرية المتأصّلة في نقد الرأسمالية من منظور أوروبي. بالنسبة له، دفع الإيمان الأعمى كلٌّ من ماركس وإنغلز إلى الاعتقاد بأن البرجوازية الأوروبية يمكنها عقلنة العلاقات الاجتماعية، في حين قادت العنصرية المتأصّلة تحليلات يسارية للرأسمالية تتمحور حول القضاء على العنف العنصري ومصادره. يعتقد روبنسون أن الرأسمالية هي بالأصل عرقية، وبالنسبة للماركسيين السود، فإن العنصرية محورية في كل مراحل التطوّر الرأسمالي، منذ إنشاء مستعمرات مزارع قصب السكّر في قبرص في القرن الثالث عشر (Bjelic 2022).

بالاعتماد على إثنوغرافية البحارة اليونانيين، يرى روبنسون أنّه نظراً لكون التراكم الرأسمالي يتطلّب خسارة وسائل إعادة الإنتاج، وإمكانية الاستغناء عن الأشخاص والتفاوت غير المتكافئ للقيمة البشرية، فإن العنصرية والأبوية وكره الأجانب هي من الوسائل الأساسية لضمان انعدام المساواة. وبالتالي، لا تشتقّ العنصرية والأبوية من اللامساواة الرأسمالية بل هما أسباب مولّدة لها. وبعد أن أوجدت العنصرية اللامساواة، حوّلتها إلى تخيّلات عن الفوقية، وإلى نظريّات حول القدرات والصفات البشرية المختلفة، وأيضاً إلى اختلافات جوهرية بين المجتمعات والأعراق والجندر. إذن، يمكننا الآن الإبحار في رحلة قصيرة ولكن مفصّلة إلى عالم الشحن اليوناني في مرحلة ما بعد الاستعمار والاستعانة بالسفينة كدليل تحليلي.

الناقلة: شرايين الإمبريالية اليونانية ما بعد الاستعمارية

في خطابه الافتتاحي في نيسان/أبريل 1955 في مؤتمر حركة عدم الانحياز في باندونغ في إندونيسيا، وصف الرئيس الأندونيسي أحمد سوكارنو بحار العالم بأنّها "خطوط أنابيب سامّة" و"الشرايين الرئيسية للإمبريالية" (Esmeir 2020). وتابع قائلاً إنه على طول الخط المُمتدّ من مضيق جبل طارق عبر المتوسّط، وقناة السويس، والبحر الأحمر، والمحيط الهندي، وبحر الصين الجنوبي وبحر اليابان، استُعمِرت الشعوب والبلدان ورُهِنت حيواتهم ومستقبلهم من المستعمرين. الدمار الذي خلّفه الاستعمار في آسيا وأفريقيا نشأ من هذه الممرّات البحرية. وأضاف سوكارنو أن الاستعمار لم يمت بعد على الرغم من أن العديد من البلدان نالت استقلالها، مشيراً إلى البلدان العديدة في أفريقيا وآسيا التي جرى استعبادها في ذلك الوقت، ولكن أيضاً إلى الأشكال الجديدة للاستعمار الحديث سواء الاقتصادية أو السياسية أو المادية.

منذ أن وصف سوكارنو البحار بشرايين الهيمنة الإمبريالية ما بعد الاستعمارية، لا سيما بين عامي 1952 و1977، نما الأسطول اليوناني أكثر من عشرة أضعاف في البحار المُسمّمة نفسها. تشير مؤرخة البحار اليونانية جلينا هارلافتس إلى أن مالكي السفن اليونانيين كانوا من بين "الرجال الجدد" – إلى جانب مالكي السفن النرويجيين والدنماركيين والأميركيين واليابانيين، أو من هونغ كونغ – الذين حلّوا مكان طبقة مالكي سفن في الإمبراطورية البريطانية وقادوا الشحن العالمي في عصر السيطرة الأميركية. ويشرح سيرافيتينديس وآخرون (1982) دور اليونان كمعقل مزدوج وصعود القوة البحرية اليونانية بالتوازي مع السيطرة العالمية للولايات المتحدة من خلال اندماج المصالح الاستراتيجية، خصوصاً خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. في الواقع، شكّلت اليونان من ناحية معقلاً برّياً ضدّ هجوم سوفياتي مُحتمل عبر مقدونيا وتراقيا، ومن ناحية أخرى معقلاً بحرياً ضدّ استقلال العالم العربي وتأميم احتياطاته النفطية الغنية، الذي يشكّل تهديداً للتأثير الغربي في الشرق الأوسط والأدنى منذ فترة إنهاء الاستعمار. وبما أن جزءاً كبيراً من النفط الأميركي يُنقل عبر ناقلات يونانية، سيكون إنهاء الاستعمار والتأميم المحتمل للنفط العربي والإيراني مضرّاً بمصالح الشحن اليوناني والولايات المتحدة الأميركية. ومن أجل منع حصول ذلك، وبما أن الولايات المتحدة الأميركية كانت تسيطر على الممرّات البحرية وتصدّرت التجارة الدولية، فقد وفّرت لمالكي السفن اليونانيين بنى تحتية بأسعار تفضيلية ومدّتهم بفرص مؤاتية للمشاركة في سوق الشحن العالمي.

شدّد سيرافيتينديس وآخرون على أنّ نمو الإمبريالية الأميركية حول العالم واتساع قوّتها خلال خمسينيات القرن الماضي وحتى أوائل الستينيات، عبّر أيضاً عن النمو والرفاه الاقتصاديين لمالكي السفن اليونانيين. أتاحت هذه المصالح المتوافقة والمتبادلة بين الجزء الأكثر قوة ودينامية من البرجوازية اليونانية وأكبر قوة إمبريالية حول العالم في تطوير وتقوية الدولة اليونانية في فترة ما بعد الحرب وتمكينها من انتهاج سياسات تحقّق المصالح المشتركة لكلا الطرفين (ص. 305).

من هنا، يتضح أن خيار أوناسيس في الاستثمار في بناء الناقلات البحرية الكبيرة والعملاقة قبل بداية الحرب العالمية الثانية كان نبوياً ورؤيوياً. تقول لالي خليلي: "في حين ركّز العديد من مالكي السفن اليونانيين الآخرين على بناء أساطيل ناقلات البضائع، كلّف أوناسيس أحواض بناء السفن الاسكندنافية ببناء ثلاث ناقلات عملاقة قبل وقت قصير من بداية الحرب". وعلى خطى أوناسيس، شرع مالكو سفن يونانيون آخرون في بناء ناقلات مما منحهم موقعاً ريادياً في العصر الجديد (أنظر خليلي). هكذا، تمكّن مالكو السفن اليونانيون من السيطرة على نقل الجزء الأكبر من الطاقة في العالم، التي شكّلت أداةَ الدفع الرئيسية للاقتصاد العالمي في مرحلة ما بعد الاستعمار. في الواقع، غذى النفط الهيمنة الجيوسياسية بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت الناقلة رمزاً للانتقال من العالم الاستعماري إلى عالم ما بعد الاستعمار، بدليل أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر أجبر مالكي السفن – اليونانيين بشكل رئيسي – على طلب بناء ناقلات نفط عملاقة مُصمّمة لعبور السويس من خلال الإبحار حول أفريقيا عندما أغلق القناة في عام 1955. 

استمرت الناقلة، وهي التعبير الجوهري للسفينة ما بعد الاستعمارية، بنقل العنصر الحيوي للاقتصاد العالمي من خلال "شرايين الإمبريالية"، حتى حين أوقف بعض منها لاحتياجات وضرورات الصراعات المناهضة للاستعمار. وبالتالي، ساهمت الناقلة في تقويض إمكانيّة تحوّل ممرّات البحر إلى رافعات لمناهضة الاستعمار والاستقلال الوطني، وكذلك ساعدت في خلق أشكال ما بعد استعمارية من مراكمة الملكية بعيداً عن الرقابة الاجتماعية. من خلال الإبحار على الخطى البحرية لأسلافها الاستعماريين، أي السفن التجارية الاستعمارية، ساهمت الناقلة بخلق بنى تحتية قانونية واقتصادية لانتزاع الثروات الوطنية وتحويلها إلى ملكية خاصّة خارج الحدود الوطنية. لقد أعطت الناقلة الدفع المطلوب للبنى التحتية المُدمّرة للحدود الوطنية بما فيها شركات الأوفشور، وأعلام الملائمة والقروض المستأجرة للتطوير والتنمية خارج الأراضي الوطنية وبعيداً من المساءلة والمراقبة الديموقراطية.

لم يكن أوناسيس أوّل مالك سفينة يستثمر بالناقلات فحسب، بل كان أيضاً أوّل مالك سفينة غير أميركي يقوم بإشراك المصارف الأميركية في تمويل الناقلات الدولية. شكّلت الناقلات اليونانية والمصارف الأميركية وشركات النفط الأميركية مثلّثاً مالياً، يمكن من خلاله بناء ناقلات أو شرائها بقروض مصرفية ورهونات السفن المؤمّنة من عقود استئجار السفن لأجل محدّد وعلى أساس عائدات النفط المتوقّعة. بالإضافة إلى ذلك، كان أوناسيس من أوائل مالكي السفن الذين قاموا بدمج الشركة الإدارية والشركة المالكة للسفن بشركة واحدة. جرى تسهيل هذه العملية من خلال إنشاء شركات الأوفشور في الملاذات الضريبية، والتي أنشأتها الشركات النفطية الأميركية بالأساس في مستعمرات باناما وليبيريا وجمهوريات الموز في أميركا الوسطى. أصبحت هذه المستعمرات الجديدة نفسها بمثابة الأرض الخصبة لما يسمّى أعلام الملاءمة. في الواقع، تحكّم مالكو السفن اليونانية مثل نياركوس وأوناسيس، والمجموعات التجارية الأميركية مثل شركة الفاكهة المتّحدة (ومن هنا تعبير "جمهورية الموز")، بسلاسل الإنتاج العالمية ونقل السلع، واستخدموا أعلام الملاءمة على سفنهم للتنصّل من حقوق العمل والأنظمة الضريبية. وهو ما سمح لهم، ولا يزال، بالتهرّب من دفع الضرائب والالتزام بالضوابط البيئية لصالح مراكمة الأرباح. عدا أن هذه الثغره أتاحت لهم الاقتطاع من أجور البحّارة، وتجريد النقابات من قوّتها، ونشر العمالة الهشّة عبر المحيطات. شكّلت الناقلة حلقة الوصل في الانتقال من الاقتصاد الاستعماري إلى الاقتصاد السياسي العالمي لما بعد الاستعمار، والذي لم تكن شرايينه عبارة عن ممرّات بحرية فحسب، بل رسمت أيضاً الطرق لدول ما بعد الاستعمار المسلوبة السيادة، والبنى التحتية المالية للعواصم الإمبريالية1 .

لعبت الناقلة دوراً محورياً في ربط القوى الاجتماعية في الجنوب العالمي لما بعد الاستعمار عبر نقل المعادلة العالمية بين رأس المال والعمل، والمعادلة بين النضال ضدّ الاستعمار والأراضي المُستعمَرة.

استعادة البحر: القرصنة، المصادرة، مناهضة الاستعمار

في 10 نيسان/أبريل 2010، صعد قراصنة صوماليون على متن سفينة فوك دايزي اليونانية للشحن التي ترفع العلم البانامي، واستولوا عليها مطالبين بفدية للإفراج عن السفينة والبحّارة. وفقاً لدوبل ستاندردز، تعود ملكية السفينة إلى شركة سمارتزي ماريتيم إنتربرايزس ومقرّها بيرايوس، والتابعة بدورها لشركة يوانيس سمارتزي ميدلبورغ بروبرتيز المسجّلة في مونروفيا في ليبيريا. اللافت أن جميع أفراد طاقم فوك دايزي (21 شخصاً) كانوا من الفليبين، ما يؤكّد مرّة أخرى العامل العنصري المتأصّل في الأسطول الحديث2 .

بالإشارة إلى مسألة أمن التدفّقات التجارية في البحار الصومالية، أفادت قناة فرانس 24 الفرنسية عن "حادثة مُنعزلة"، احتجز خلالها الصوماليون سفينة صيد تايوانية قبالة أرخبيل سيشيل في المحيط الهندي. مع ذلك، لا يجب فصل قرصنة السفن التجارية عن عمليات احتجاز سفن الصيد. لطالما جرى فصلهم في الخطاب العام الذي يستند إلى الصور النمطية المستوحاة من الاستعمار، والتصنيفات التي تطلق على القراصنة، وسياق الاستعمار الجديد لبحار العالم. تُعد القرصنة، ولا سيما في مناطق الجنوب العالمي، بمثابة شكل جماعي من المقاومة والتعويض ومناهضة الاستعمار. تعمل مناطق الجنوب العالمية مثل البحر الصومالي ومضيق هرمز كممرّات مائية استراتيجية للتجارة الدولية، ولكنها تشكّل في الوقت نفسه إلدورادو (مناطق غنية) للمصايد، ومكبّات لنفايات الشمال العالمي. يمكن فهم "القرصنة" بأنها "أفعال وممارسات" تحدث في المناطق التي يكون فيها بناء الملكية وتعريفها غير واضح، أو متنازع عليه، أو الإثنين معاً.

في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت سفن الصيد الصناعية في أوروبا وآسيا باصطياد تونة الزعنفة الصفراء بشكل غير قانوني قبالة الساحل الصومالي. في الوقت نفسه، أظهرت البيانات الصادرة عن المنظّمات الدولية بعد تسونامي عام 2004 أنّ الشركات الأوروبية وشركات الشحن الدولي استخدمت هذه المياه كمكبّ للنفايات السامّة. وبغية معارضة تدمير الموارد الطبيعية والمالية للمجتمعات الساحلية، أبحر الصيّادون الصوماليون بحثاً عن المرتكبين وردعهم، وهو ما أدّى إلى القرصنة البحرية الأولى التي، ليس صدفة، تورّطت فيها سفن الصيد الصناعية. مثّل ذلك بداية أعمال أدرّت ملايين الدولارات لسنوات مقبلة.

ردّ المجتمع الدولي بعسكرة غير مسبوقة للمياه بين سلطنة عمان والبحر الأحمر. نفّذ حلف شمال الأطلسي حملتين عسكريتين هما "درع المحيط" و"حامي الحلفاء"، بينما كانت عملية "أتلانتا" التي نفّذها الاتحاد الأوروبي التحالف البحري الأول للاتحاد. أيضاً أرسلت الصين وروسيا وإيران قوّاتها البحرية لقمع الصيّادين القراصنة، وصادقت البرلمانات الغربية على عجل ومن دون الكثير من المشاورات على المهمّات العسكرية، لتستعيد بذلك الصورة التاريخية الخالدة للقراصنة كعدو لإنسانيتنا المشتركة. تشير ديبورا كوين إلى أنه مثلما لعبت شخصية القرصان دوراً أساسياً في تأسيس القانون الدولي في الفترة الاستعمارية المُبكرة، يلعب القرصان الصومالي اليوم دوراً أساسياً في إعادة تكوين قواعد الحوكمة العالمية في البحر كما على اليابسة.

إذا وضعنا جانباً الهيمنة المعرفية والأوهام الإعلامية حول القراصنة، سنسمع من القراصنة الصوماليين موقفاً سياسياً واضحاً من القراصنة يفسّر أفعالهم، بحيث يعرّفون عن أنفسهم بوصفهم خفر سواحل مجتمعيين للصومال. وفق عالم الأنثروبولوجيا جاتين دوا، تنظر المجتمعات الساحلية إلى البحر على أنه مجموعة ممرّات تقود إلى رفاه المجتمع المحلّي. يعرّف الصوماليون البحر على أنه استمرارية للصحراء، ومجموعة من الكرفانات العائمة وشبكة من المسارات التي تعبرها القوارب، وينظر إليه بوصفه مشاعات مجتمعية توفّر السلع لتغذية عملية إعادة التوزيع وليس كملكية، ويرون أنفسهم حماة لهذه المشاعات وعملية إعادة التوزيع. يصنِّف دوا هذا النوع من الملكية كـ"مشاعات رعوية"، مشدّداً على البحر كفضاء للحماية المشتركة وإعادة توزيع الموارد ضمن المجتمع المحلي. تُعدُّ هذه الطريقة في خلق الملكية للمجتمع المحلّي محورية لفهم كيفيّة نسج السرديات حول الزوارق والأنشطة البحرية أو حتى حطامات السفن، وتحثّنا هذه المقاربة على الذهاب أبعد من التفرقة بين اليابسة والبحر، وأبعد من معضلة القانون الطبيعي المشتقّ من الاستعمار، بين البحار "الحرة" وبحار الدول المغلقة.

مثلما لعبت شخصية القرصان دوراً أساسياً في تأسيس القانون الدولي في الفترة الاستعمارية المُبكرة، يلعب القرصان الصومالي اليوم دوراً أساسياً في إعادة تكوين قواعد الحوكمة العالمية في البحر كما على اليابسة

بالفعل، إذا فكّرنا من منظور "المشاعات الرعوية"، تظهر القرصنة الصومالية كضريبة لاحقة وتعويض وترميم للدمار الناجم عن الاستعمار المستمرّ لسواحل المجتمع والمياه البحرية.

تُعدُّ المشاعات الرعوية وإعادة تكوينها تذكيراً صارخاً بأن "مناهضة الاستعمار ليس استعارة". يشير إيف تاك وواين يانغ إلى مسألة الاستيلاء الليبرالي على مناهضة الاستعمار من خلال استخدامها كاستعارة. في مقال مؤثّر، يشير تاك ويانغ إلى أن الاعتماد السهل لخطاب مناهضة الاستعمار في مجالاتنا ونقاشاتنا الأكاديمية لا يمكن ولا يجب أن يستبدل العمل السياسي المطلوب من أجل إحداث التغيير في كلٍّ من المجالين المعرفي (مراجعة الحقيقة المعرفية ) والمادي (إعادة توزيع الموارد). وفي كتاباتهما عن مناهضة الاستعمار في سياق الاستعمار الاستيطاني، يشدّد الكاتبان على أن مناهضة الاستعمار يجب "أن تتضمّن إعادة الأراضي بالتوازي مع الاعتراف بالاختلاف في كيفية فهم الأرض وعلاقات المجتمعات المحلية بها. بمعنى آخر، إن إعادة كل الأرض ليس رمزياً فقط (Tuck and Yang 2012:7). في منحى مشابه، يشير أندرو دايفيس الى أن نضالات مناهضة الاستعمار هي بالأساس نضالات في الحاضر الاستعماري من أجل إعادة الأرض ومصادرة الأقاليم والأراضي والبحار المستوطنة. وهذا تحديداً ما يفسّر لماذا مناهضة الاستعمار هي بلا شكّ مسار تمردّي. يذكّرنا تاك ويانغ أن "مناهضة الاستعمار لا تمرّ من دون ملاحظتها" (فانون، 1963، ص. 36)، ويضيفان أن "الاستعمار الاستيطاني ومناهضته يشركان الجميع ويزعجان الجميع".

أخذ هذه الأفكار الى البحر يعني إعادة التفكير في القرصنة الصومالية من ضمن منطق التعويض عن الأضرار، وإعادة الأرض إلى أصحابها والاستعمار المادّي. وإذا كانت مطالب التعويض عن الأضرار للسكّان الأصليين في الاستعمار الاستيطاني حول العالم تتمحور حول شعار "استرجاع الأرض"، فإن المجتمعات الساحلية الصومالية التي تواجه بممارسات استعمارية استيطانية في البيئة البحرية تعرض مناهضة الاستعمار في الجهة المقابلة، أي في المياه المحيطية تحت شعار "استرجاع البحر!".

  • 1يدعي سيرافيتينيدس وآخرون أنه "بحلول أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، كانت 40% من حمولة العالم بموجب FOCs مملوكة ومدارة من المصالح الأميركية، و50% من سفن يونانية (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، 1959، ص 36)، وخلص إلى أن FOCs كانت اختراعًا وإبداعًا أمريكيًا ويونانيًا بعد الحرب"
  • 2 نحو 20% من البحارة التجّاريين في العالم يأتون من الفلبين، التي تُعدُّ أكبر دولة موردة للبحّارة للأساطيل التجارية في العالم. على الرغم من المنافسة المتصوّرة من الدول الأخرى الموردة، إلا أن عدد البحّارة الفلبينيين آخذ في الازدياد. وفقاً لمصادر حكومية، في عام 2006 كان هناك 260,084 بحّاراً فلبينياً في العالم، بزيادة بنسبة 4.9% مقارنة بعام 2005.