الجذور التاريخية لضعف الدولة والتفاوتات الاجتماعية في لبنان

  • بالمقارنة مع مستعمرات شمال أفريقيا وآسيا وملكيّات الإمبراطورية الفرنسية، كان اقتصاد الانتداب الفرنسي للبنان والولايات السورية مُثقلاً بالضرائب.
     
  • استخدم جزء كبير من الإيرادات الضريبية لتمويل الأجهزة الأمنية والعسكرية، ولم يُنفق سوى القليل على البنية التحتية والخدمات الاجتماعية.
     
  • أنيطت صلاحية تأمين التعليم والصحّة إلى الإرساليات الخاصّة والتبشيرية، بحيث أدّى عدم تدخّل الدولة إلى تطوير نظام تعليمي خاصّ يركّز على تعليم المسيحيين ويحرم السكّان المسلمين.

فيما نلوم العثمانيين على استثماراتهم الشحيحة في القطاعات الاجتماعية لسكّان لبنان وسوريا، يدور جدل واسع عن الدور الأساسي الذي لعبه الانتداب الفرنسي، وفشله في توجيه الدول الناشئة ومساعدتها ودعمها في بناء مؤسّسات الدولة والابتعاد عن نظام الملل العثماني بحسب مقرّرات عصبة الأمم. عدا أنّ خصخصة التعليم أفرزت تفاوتات حادّة في مستويات التعليم بين المجتمعات المختلفة، وكان لها تأثير كبير على التنمية السياسية في لبنان بعد الاستقلال.

عملياً، نبني تحليلنا على معاينة التطوّرات المالية في لبنان والولايات السورية الأربع التي أُنشِئت خلال الانتداب الفرنسي، بالاعتماد على التقارير السنوية التي تقدّمها السلطات الفرنسية إلى عِصبَة الأمم، فيما يكشف عملنا التحليلي (أبي راشد وديوان، 2022) عن رؤى عدّة نوضحها أدناه. بحيث يضيف هذه التحليل الكمّي إلى ما سبقه من دراسات تاريخية رئيسية للانتداب، مثل خوري (1987)، ومعوشي (2002)، وطرابلسي (2007)، عدا عن الدراسات التي ركّزت على التعليم مثل تيباوي (1966) ودويك (2010).

أعباء ضريبية هائلة

على عكس المُستعمرات حيث موِّلت النفقات العسكرية من المركز، جرى تمويل الأجهزة الأمنية والعسكرية في مناطق الانتداب من الضرائب المحلّية، وقد كانت كلفتها مرتفعة للغاية، خصوصاً بعد أن أبقي على عتاد "جيش المشرق" كبيراً لإخماد التمرّدات المُتكرّرة، وضمّ ضباطاً فرنسيين وقوّات أفريقية بأجور باهظة. بالنتيجة، وللتمكّن من تغطية التكاليف العسكرية فُرِضت ضرائب عالية ألقت بثقلها على الاقتصاد. في الواقع، كانت الإيرادات الضريبية المحصّلة من الفرد الواحد في فترة الانتداب في عام 1925 أكبر بنحو أربعة إلى سبع مرّات من حصّة الفرد الواحد من الضرائب المحصّلة في المستعمرات الفرنسية الأفريقية والآسيوية، وأكبر بنحو 50 في المئة في مناطق شمال أفريقيا الأكثر ثراءً مثل المغرب وتونس والجزائر. وهو ما يعبّر في الغالب عن إفراط في فرض الضرائب لا عن مستويات دخل أكبر بالمقارنة مع المستعمرات الفرنسية، لا سيما أن اقتصادات لبنان وسوريا دمِّرت خلال الحرب العالمية الأولى بسبب المجاعة والتجنيد الإجباري في الجيش العثماني.

حصّة التعليم والصحّة من مجمل النفقات المالية بلغت 3.8% و1.5% فقط في المناطق المُنتدبة، أي أقل من الإنفاق المُخصّص لهذه القطاعات في جميع الملكيّات الفرنسية الأخرى، وأقل بكثير من فرنسا

تخصيص الجزء الأكبر من الضرائب للإنفاق على الأمن

كان الإنفاق على الخدمات الاجتماعية منخفضاً جدًا في خلال فترة الانتداب. عندما نجمع الموازنات المركزية وموازنات الولايات بغية الحصول على الموازنات الكلّية بما يسمح بمقارنتها مع موازنات الملكيّات الفرنسية الأخرى، يتبيّن أن حصّة التعليم والصحّة من مجمل النفقات المالية بلغت 3.8% و1.5% فقط في المناطق المُنتدبة، أي أقل من الإنفاق المُخصّص لهذه القطاعات في جميع الملكيّات الفرنسية الأخرى، وأقل بكثير من فرنسا حيث يصل الإنفاق على التعليم إلى 20% والإنفاق على الصحّة إلى 6%، في مقابل 9.1% و6.7% على التوالي في شمال أفريقيا. بدلاً من ذلك، ساهمت الموازنة في تمويل نفقات سلطة الانتداب بشكل مكثّف، ولا سيّما جيشها وأجهزتها الأمنية الضخمة اللذين استحوذا على 74% من مجمل نفقات الموازنة. أمّا الدعم المُخصّص للتنمية الاقتصادية فقد كان أقل بكثير من مستواه في المستعمرات الأخرى.

Ishac and Joelle

 

مع ذلك يبدو الأداء الجيّد للنظام التعليمي مدهشاً

في حين كانت النفقات الاجتماعية مُنخفضة وثابتة في الفترة الخاضعة للدراسة، إلّا أن معدّل الالتحاق بالمدارس الابتدائية توسّع بسرعة في خلال فترة الانتداب الفرنسي على لبنان. في عام 1927، تبيّن التقديرات المُستخرجة من بيانات الانتداب المُقدّمة إلى عصبة الأمم أنّ معدّل الالتحاق في لبنان كان أعلى بكثير من أي مستعمرة أخرى. وبحلول عام 1938، ارتفع المعدّل إلى 55% على الأقل. وعلى الرغم من بذل فرنسا جهدٍ حقيقي في المرحلة الأخيرة من الاستعمار، لا سيّما بعد عام 1955، لتحسين التعليم في المستعمرات، لم تصل أي منها - باستثناء مدغشقر - إلى معدّل التحاق قريب من المعدّل الذي كان يسجّله لبنان قبل عقود.

Ishac and Joelle

 

كان معظم الطلّاب في لبنان مُسجّلين في مدارس خاصّة أو أجنبية، ويستقبل كلٌّ منها نحو 40% من الطلّاب. فيما توسّعت المدارس الرسمية ببطء شديد ولم تجتذب أكثر من 20% من مجمل الطلّاب

الاعتماد المُفرط على قطاعٍ خاصّ آخذ في التوسّع

كيف حدث هذا؟ عند النظر إلى معدّلات التحاق المجتمعات المختلفة في الأنواع العديدة من المدارس، نجد سمتين لافتتين.

أوّلاً، كان معظم الطلّاب في لبنان مُسجّلين في مدارس خاصّة أو أجنبية، ويستقبل كلٌّ منها نحو 40% من الطلّاب. فيما توسّعت المدارس الرسمية ببطء شديد ولم تجتذب أكثر من 20% من مجمل الطلّاب.

Ishac and Joelle

اختار القطاع الخاص، وخصوصاً الأجنبي، تسجيل التلاميذ المسيحيين بكثافة، بحيث تراوحت أعدادهم بين 70 و90% من مجمل الطلّاب في هذه المدارس. في المقابل، كان قطاع المدارس الرسمية الأفقر والأصغر الملاذ الرئيسي للطلّاب المسلمين الذين شكّلوا 70% من الملتحقين بها

... التفاوت الشديد بين المجتمعات المختلفة

السمة الثانية الجديرة بالملاحظة في البنية الطالبية هي تكوّنها إلى حدّ كبير من طلّاب مسيحيين - 75 في المئة من الطلّاب كانوا مسيحيين بين عامي 1927 و 1938، بما يتجاوز النسبة المقدّرة لأعداد المسيحيين من مجمل السكّان بأشواط، إذ قُدرت في عام 1932 بنحو 50 في المئة.

ثالثًا، يعود هذا الخلل في التوازن إلى السياسات المتباينة للمؤسّسات التعليمية المختلفة. اختار القطاع الخاص، وخصوصاً الأجنبي، تسجيل التلاميذ المسيحيين بكثافة، بحيث تراوحت أعدادهم بين 70 و90% من مجمل الطلّاب في هذه المدارس. في المقابل، كان قطاع المدارس الرسمية الأفقر والأصغر الملاذ الرئيسي للطلّاب المسلمين الذين شكّلوا 70% من الملتحقين بها.

Ishac and Joelle

 

استنتاج

بعد الانتداب، ظهر لبنان كدولة متخلّفة من جهة، وبالتوازي مع تحسن كبير في المستوى التعليمي فيه من جهة أخرى، لكن التعليم الجيّد كان محصوراً في المجتمع المسيحي. إلى ذلك، اتسم التعليم الرسمي ببدائيته بالمقارنة مع القطاع الخاص لدرجة العجز على اللحاق به حتّى في عهد فؤاد شهاب (1946-1958)، الذي كان حريصاً على تعزيز المؤسّسات العامة. أثّرت الطبيعة المُتحيّزة لأداء قطاع التعليمي بعمق على التطوّر الاجتماعي والسياسي للبلد. لذلك كان للانتداب تأثير كبير ولا سيما في فشله في بناء مؤسّسات الدولة وإبعاد البلاد عن نظام الملل العثماني.


المراجع:


Abi-Rached, Joelle  M., and Ishac Diwan. “The Economic Legacy of the French Mandate in Lebanon.” ERF Working Papers Series 1614. Cairo, Egypt: The Economic Research Forum, November 2022.
Cogneau, Denis, Yannick Dupraz, and Sandrine Mesplé-Somps. “Fiscal Capacity and Dualism in Colonial States: The French Empire 1830–1962.” The Journal of Economic History 81, no. 2 (2021): 441–80.
Dueck, Jennifer Marie. The Claims of Culture at Empire’s End: Syria and Lebanon under French Rule. Oxford; New York: Published for the British Academy by Oxford University Press, 2010.
Khoury, P. Syria and the French Mandate: The Politics of Arab Nationalism, 1920-1945. Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1987.
Méouchy, Nadine, ed. France, Syrie et Liban, 1918-1946: Les ambiguïtés et les dynamiques de la relation mandataire : Actes des journées d’études organisées par le CERMOC et l’IFEAD, Beyrouth, 27-29 Mai 1999. Vol. 200. Damas: Institut français d’études arabes de Damas, 2002.
Ministère des Affaires Étrangères, Rapport à la Société des Nations sur la situation de la Syrie et du Liban (Paris: Imprimerie nationale), 1924 to 1938, Bibliothèque nationale de France, Paris. (Reports).
Tibawi, Abdul Latif. American Interests in Syria, 1800-1901: A Study of Educational, Literary and Religious Work. Oxford, UK: Clarendon Press, 1966.
Traboulsi, Fawwaz. A History of Modern Lebanon. London: Pluto Press, 2007.