Preview أوبتيموم ومصرف لبنان

«أوبتيموم إنفست»
أدوات رياض سلامة الاحتيالية باتت مكشوفة

في سعيها لتبرئة نفسها من تهم احتيال واختلاس وتبييض أموال ورد ذكرها في تقرير التدقيق الجنائي الصادر عن «ألفاريز أند مارسال»، طلبت شركة «أوبتيموم إنفست» من شركة «كرول» إجراء تدقيق جنائي مستقلّ بالعمليّات التي أجرتها مع مصرف لبنان في خلال الفترة الممتدّة بين عامي 2015 و2020. التقرير الذي أنجز منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أصبح بعهدة القضاء اللبناني، ويكشف عن 45 صفقة خاصّة جرت بين المصرف المركزي وشركة «أوبتيموم إنفست»، درّت مبالغ بقيمة 8 مليارات دولار على مصرف لبنان، وبيّنت بوضوح بعضاً من الآليّات الاحتيالية التي استخدمها الحاكم السابق، رياض سلامة، تحت ستار الهندسات المالية لإخفاء خسائر البنك المُتضخّمة وتسهيل عمليات اختلاس المال العام والخاص. 

كيف بدأت القصة؟ في آب/أغسطس الماضي، صدر تقرير التدقيق الجنائي الذي أعدّته شركة «ألفاريز أند مارسال» في حسابات المصرف المركزي بين عامي 2015 و2020، وبيّن تورّط شركة «أوبتيموم إنفست»، على غرار شركة «فوري» المملوكة من رجا سلامة شقيق الحاكم السابق، في صفقتيْ وساطة مالية أجرتهما الشركة بالنيابة عن مصرف لبنان بين كانون الأول/ديسمبر 2015 وحزيران/يونيو 2016. هاتان الصفقتان عزّزتا رصيد حساب «الاستشارات» (الخدمات الاستشارية) لدى مصرف لبنان، الذي حوِّل منه مبلغ 330 مليون دولار إلى حسابات خاصّة للحاكم السابق، وكان يستخدم لتسديد مدفوعات لشركة «فوري»، ولمستفيدين آخرين لم يتم الكشف عنهم للآن.

بعد صدور تقرير التدقيق الجنائي وترافقه مع ضجّة إعلامية أثّرت على أعمال شركة «أوبتيموم إنفست»، شكّلت الأخيرة هيئة تدقيق خاصّة داخلية وكلّفتها الاستعانة بمدقّق خارجي للتدقيق في عمليّاتها مع مصرف لبنان. وقع الخيار على شركة «كرول»، التي أجرت مقابلات مع مؤسّس شركة «أوبتيموم إنفست» ورئيسها التنفيذي السابق أنطوان سلامة، والمدراء الحاليين، كما اطلعت على التقارير المالية والمحاسبية التي مدّتها بها الشركة، وكشفت فيها أنها انخرطت في 43 صفقة أخرى مماثلة للصفقتين اللتين جرت الإشارة إليهما في تقرير التدقيق الجنائي، ونفّذت جميعها في غضون ثلاث سنوات امتدّت بين كانون الثاني/يناير 2015 وآذار/مارس 2018.

تعدّ هذه الصفقات الخاصّة عبارة عن عمليات شراء وبيع سندات خزينة وشهادات إيداع بالليرة اللبنانية جرت بين «أوبتيموم إنفست» ومصرف لبنان، وفقاً لسلسلة عقود صادرة عن مصرف لبنان وموقّعة من حاكمه السابق رياض سلامة، ومن أنطوان سلامة عن «أوبتيموم» (باستثناء ثلاث صفقات وقّعتها رولا سويدان مديرة سابقة في الشركة). 

قضت هذه العمليات بمنح مصرف لبنان الشركة قروضاً بالليرة اللبنانية، على أن تستخدمها لشراء شهادات إيداع أو سندات خزينة بالليرة اللبنانية من مصرف لبنان نفسه. من ثمّ، يقوم المصرف في اللحظة نفسها بإعادة شراء السند نفسه لقاء عمولة له تراوحت بين 22% في حدّها الأدنى و239% في حدّها الأقصى. وتشكّل هذه العمولة مجموع قيمة الفوائد المترتبة على سندات الخزينة أو شهادات الإيداع عند استحقاقها. وقضت العقود الموقّعة التي اطلعت عليها «كرول» بتسديد قيمة العمولات على الفور إلى المصرف المركزي، فيما تحصل «أوبتيموم إنفست» على رسوم وساطة. لم تحدّد الرسوم التي ستحصل عليها الشركة في العقود. في الحصيلة، أسفرت هذه العمليات عن بيع مصرف لبنان سندات وشهدات إيداع بقيمة 8.6 مليار دولار إلى شركة «أوبتيموم إنفست»، ثم اشتراها منها بسعر 16.6 مليار دولار. فأعادت الشركة تحويل نحو 8 مليارات دولار منها كعمولات إلى مصرف المركزي، فيما حقّقت هي أرباحاً متواضعة بنحو 571,733 دولاراً في نحو ثلاث سنوات. 

أوبتيموم ومصرف لبنان

تعدّ هذه الصفقات احتيالاً محاسبياً وغسيل أموال مُتقن ابتكرها مصرف لبنان، وسهّلتها شركة «أوبتيموم إنفست». وفي حصيلتها، أعاد المصرف المركزي شراء سندات كان يملكها بالأساس، إنما بقيم أعلى من قيمتها الأساسية. وبالتالي، ما قام به المصرف المركزي عملياً هو تضخيم قيمة هذه السندات من دون خلق أي قيمة اقتصادية حقيقية، واستخدام العمولات الناجمة عنها كربح مُفترض، استخدمه إمّا لتغطية خسائره المتراكمة جراء هندساته المالية أو لإيداعها في حساب «الاستشاري» الذي استخدم في عمليات اختلاس وتوزيع رشاوى.

يدّعي مدراء الشركة بحسب ما نقله تقرير «كرول» عنهم إن «أوبتيموم نفّذت الصفقات لصالح مصرف لبنان ووفقاً لتعليماته، ولم تفكّر في سؤاله يوماً عن سبب تنفيذها. ولم يكن أي منهم على دراية بأي شيء إلى حين بروز الاتهامات الموجّهة إلى الشركة في تقرير التدقيق الجنائي». ويقول أنطوان سلامة لـ«كرول» إن «شركته (قبل بيعها إلى LI BANK) كانت تساعد مصرف لبنان في تنفيذ سياسته النقدية، وتحديداً استراتيجيته للهندسات المالية التي كانت تهدف إلى استقطاب الدولارات إلى الاقتصاد اللبناني وتعزيز الاستقرار المالي في البلاد. وعندما أجريت هذه العمليات، كان حاكم مصرف لبنان شخصية بارزة، ليس في لبنان فحسب وإنما على الصعيد العالمي أيضاً. فضلاً عن أن المدقّق الخارجي بحسابات الشركة، ديلويت أند توش، لم يشكّك بأي من هذه العلميات في كل تقاريره السنوية». 

إلى ذلك، أشارت المديرة الحالية للشركة رين عبود إلى أن «أوبتيموم لم تكن على علم بأن الأموال التي جُمِعت من هذه الصفقات استخدمها مصرف لبنان لدفع عمولات استشارية لأطراف ثالثة، وأن شروط العقود الموقّعة مع مصرف لبنان لا تسمح للشركة بمعرفة كيفية استخدام العائدات، ولا قيمة رسوم الوساطة أو الأرباح التي ستأخذها إلا بعد إتمام العملية تبعاً للفارق المتبقي بين مراحل البيع والشراء، والتي كانت بكل الأحوال رسوماً رمزية مقارنة بقيمة العمليات المنفّذة وحجمها، على اعتبار أن هذه العمليات كانت مصمّمة لمساعدة مصرف لبنان في هندساته المالية وليس لتحقيق الأرباح».

هذه التبريرات التي تضعها «أوبتيموم» لتبرئة نفسها من تهم الاختلاس والاحتيال، لا سيما بعدما انتقلت ملكيّتها إلى «بنك المشرق للاستثمارات» (LI Bank) واحتمال تأثّر أعمالها الخارجية بهذه التهم، لا تخفي تاريخها الحافل بالصفقات مع مصرف لبنان، والتي تعدّ المصدر الأساسي لربحها. 

تأسّست الشركة في العام 2004، للقيام بأعمال الوساطة في لبنان والشرق الأوسط، بحسب ما تعرّف عن نفسها في تقرير «كرول»، ومن ثمّ وسّعت نشاطاتها الاستثمارية في العام 2014 لتضمّ خدمات إدارة أصول وثروات الأسر الغنية والمستثمرين من القطاع الخاص، فضلاً عن تقديم خدمات الاستشارات المالية للشركات. لكن تقرير «كرول» لم يتضمّن الشبهات المعروفة محلياً والموثّقة في العديد في التقارير الرسمية والصحافية. فالشركة منذ تأسيسها، تتمتّع بمعاملة تفضيلية من المصرف المركزي، باعتبارها وكيلته الحصرية في سوق الأدوات المالية، وانخرطت معه في عمليات عديدة شكّلت مصدر ربحها الأساسي وسهّلت له تنفيذ هندساته المالية وألاعيبه الاحتيالية. أما الرابط الأساسي بين الشركة والمصرف المركزي فهو رجا أبو عسلي، الذي يعد «رجل رياض سلامة القوي»، وذلك من خلال زوجته باسكال نعمه التي تملك أسهماً في شركات مملوكة من «أوبتيموم». 

عملياً، أدّت «أوبتيموم إنفست» دوراً رئيساً ومسهّلاً لتنفيذ السياسات النقدية للمصرف المركزي، وقد ذكر تقرير للجنة الأسواق المالية صادر في العام 2018 نحو 96 مخالفة ارتكبتها الشركة في خلال تنفيذها هذه المهام المطلوبة منها. إلى ذلك، يذكر تقرير «كرول» الصادر حديثاً، والذي يستند إلى البيانات التي كشفتها له الشركة، بعضاً من أشكال العمليات التي كانت تجري بين «أوبتيموم إنفست» والمصرف المركزي، ومن ضمنها عمليات إعادة الشراء (Repo) التي شكّلت ثلث إيراداتها منذ العام 2014 وحتى العام 2019، وقد وصلت قيمتها التراكمية إلى 74 مليون دولار بين عامي 2014 و2020. فضلاً عن تسهيل فتح حسابات ائتمانية لصالح مصرف لبنان جنت الشركة منها فوائد مرتفعة للغاية، بالإضافة إلى انخراطها في عمليات مبادلة سندات (Swap) سمحت لها بتحقيق أرباح طائلة. على سبيل المثال، حقّقت الشركة أرباحاً بقيمة 3 ملايين دولار من خلال أربع عمليات مبادلة فقط جرى تنفيذها في شهري حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2016. 

بعد الانهيار المالي والنقدي، استحوذ بنك المشرق للاستثمار (LI Bank) على الشركة بالكامل في العام 2020. ومن المعروف أن المصرف الاستثماري المذكور تديره مجموعة من الأشخاص، لطالما أدّت أدواراً لصالح السلطتين المالية والسياسية في لبنان، من ضمنهم نقولا نحاس الذي يُعدّ من المستشارين الأساسيين لدى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وهو موجود ضمن مجلس إدارة الشركة كممثّل عن شركة Edafi Holding المسؤولة عن إدارة المخاطر في المصرف، وأندريه بندلي الذي يُعدّ من المساعدين الأساسيين لرياض سلامة وسبق أن تم تعيينه مديراً مؤقتاً على بنك المدينة بعد انهياره بفعل الاختلاسات وعمليات تبييض الأموال. 

في هذه الصفقات التي درّت 8 مليارات دولارات على المصرف المركزي، أدّت «أوبتيموم إنفست» خدمة تعتبرها «مجّانية» لمصلحته، ولكنها في الواقع كانت شريكة أساسية له ومُنخرطة في العديد من العمليات التي نفّذها لإنقاذ نموذج مفلس، والإمعان بسياسات نقدية أدّت في النهاية إلى إفلاسه وإفلاس القطاع المصرفي ككل.